حين قرّرتُ أن أبيعَ الفلافل في دمشق
اتصالاته المتكررة، والرسائل التي أراد إيصالها بتلميح مبطّن، لم تكن كافيةً ليحصل منّي على قرار حاسمٍ بترك العمل الصحفي في دمشق، والالتفات مؤقتاً لمهنة أخرى، أتمكّن من خلال عائدها المادي من تأمين مصروفي الجامعي.. ختم حديثه باستدعاء رسمي: “أنتظركَ غداً في الضّيعة”.. وأغلق سمّاعة الهاتف.
كان أبي يعرف مثل الكثيرين بأنّ البلاد تتّجه إلى فوضى لا مثيل لها في التاريخ، إنه يعرف هذا النظام الوحشي منذ ثمانينيات القرن الماضي، مثله مثل كلّ أبناء جيله.
في صبيحة اليوم التالي، الساعة الرابعة عصراً، وصلتُ إلى مدينتي (كفر نبل).. كانت المظاهرات في أوجِها.. وكانت الحركة بين المدن السورية ممكنة بشكل يسير.
ابتسامة أمي وهي تفتح باب الدار كانت مفتاحاً للكثير من اللطف الذي حضّره أبي أيضاً أثناء حديثنا، حتّى وصل به الأمر بأن أعطاني سيجارة (قشق) من علبة التبغ التي يحملها..
بدأ يسرد لي الكثير من الأحداث التي مرّت وأنا في الشام، خطفوا فلاناً.. إنه مُخبر، هدّدوا فلاناً.. وفجأة نتركُ الحديث ونتسمّر باتجاه شاشة التلفاز لنتابع آخر عاجل وصلَ للتّو.. كان للموت قَتْلاً رهبة كبيرة لدى السوريين، وكنّا نتلقّف الأخبار ما بين فرح تارةً وحزنٍ تارةً أخرى، فأي خبرٍ يشكّل ضربة للنظام كانت تراه الثورة نصراً، وأي موت أو اعتقال في صفوف المدنيين كان غصّة جديدة تضُاف لفاتورة الحرية التي يدفعها السوريون حتى اليوم.
انتهى الحديث بيني وبين أبي، وغادرتُ إلى دمشق في غضون ساعات، كنتُ مثل الكثيرين، أجزمُ أنّ النظام بهذا الجنون والتخبّط الذي واجه فيه الناس، سيسقط في غضون أشهر، وأنّ دمشق لمجرّد أن تشتعل فإن النظام سيسقط لا محالة..
بدأت الحركة في الشام تزداد تعقيداً، وبدأت عيون النظام تنتشر في كلّ شبر، وكانت الجامعة أشدّ رعباً، وحرم كلية الإعلام مرتعاً للمخبرين، ومؤسسات الدولة أشبه بخيمة عزاء، حيث لا يفارق التوتر وجوه الموظّفين البعثيّين وهم يحاولون التقليل من شأن الحراك الثوري..
دمشق تُتحول بغمضة عين من مدينة هادئة، وادعة مفتوحة على العالم، إلى معتقل كبير ممتلئ بالوجوه الجديدة التي كانت تأتي بوسائط نقل صدئة.. أقدام العساكر كانت تعكّر لُطفَ المشي على أرصفة الشام القديمة.. لقد باتَ المشي في الشام أمراً مرهقاً.. وأصبحت أي نظرة غير محسوبة، هي ورطة حقيقة قد تودي بصاحبها إما إلى الإهانة أمام الناس من قبل عناصر الأمن، أو إلى الاعتقال..
كنتُ على موعدٍ في ذلك المساء الدافئ مع الفنان (تيسير إدريس) في شركة لين للإنتاج الفني لإجراء حوار صحفي، وكنتُ جائعاً مثل وجوه أهالي حيّ (زملكا) حين كانت تجوع في كلّ أسبوع للتظاهر ظهر الجمعة، إلّا أنني فضّلتُ تأجيل الطعام لحين عودتي..
على جسر (زملكا – جوبر) أوقفنا حاجز عسكري، وبدأ يسأل عن البطاقات الشخصية، ولمّا نظرَ إلى هويتي.. سألني عن كلّ تفاصيل حياتي، وعن سبب وجودي في هذا المكان بالتحديد.. إلّا أنه سمح لنا بالذهاب بعد أن أمرَ بإنزال شاب (زملكاني) ومن ثمّ مشينا..
دمشق بشوارعها التي كانت تفوحُ حياةً أصبحت تثيرُ رُعباً لدى الجميع، حتى وجوه الناس في (السرفيس) كانت عابسة.. موغلة في الصمت..
وصلتُ أخيراً إلى منطقة (المزرعة).. ولاحظتُ بعد مضي نصف ساعة أنّ الفنان (تيسير إدريس) يماطل في البدء بالحوار.. إلى أن همسَ لي قائلاً: “أنا من دوما وأنت من كفر نبل، وحوار في هذا الوقت دون التطرق لما يحدث في البلاد أمر يفتقد إلى المهنية.. أعتقد أنّه علينا تناول القهوة فقط”.
أغلقتُ دفتراً كنت قد دوّنتُ عليه بعض الأسئلة، وعدنا إلى القهوة، ومتابعة الأخبار.. كان (أبو الخير) مدير الشركة الذي يستضيفنا في مكتبه لإجراء الحوار يتابع بشكل دائم قناة “العربية”، وفجأة صرخ أبو الخير: “هذه مزرعتي في الضيعة!”.. ننظر جميعاً إلى الشاشة.. لقد تعرّضت مزرعته لقصفٍ عنيف من دبابات الجيش وتسبب القصف بتهدّم أجزاء منها..
تبادلنا أحاديث غير مقشَّرة، غالباً ما كانت تنتهي بالجملة الشهيرة “الله يفرّج”.. بيدَ أن الله لم يفرّج حتى اليوم.. بل على العكس تماماً، كانت تزداد الأمور تعقيداً في كلّ ساعة.
في الطريق إلى البيت وبينما كنتُ أفكّر بترك العمل الصحفي في دمشق، وأفكر أيضاً بمعدتي الخاوية.. اتصل أبي..
- ماذا ستعمل بشأن الصحافة؟
- سألتحق بأي عمل آخر..
- كنْ على يقين بأني سأستدين لكَ مالاً للدراسة إن تركتَ الصحافة..
- سأتركها.. سأتركها.
في ساحة زملكا، عند العاشرة ليلاً، ذكّرتني رائحة الفلافل في مطعم (الجزائرلي) الذي انتقل فيما بعد إلى (كردستان العراق) بأني جائع..
طلبتُ سندويشة، وفي غضون لحظات قرّرتُ أن أصبح بائع فلافل..
سألتُ البائع: هل تريد صانعاً؟
قال لي: نريد شخصاً للجلي والتنظيف! فوافقتُ على الفور.. وفي اليوم التالي بدأتُ العمل..
أتذكّر أني في ذلك اليوم، أخذتُ معي كتاباً عليّ أتمكّن من الدراسة في أوقات الفراغ، إلّا أنني فوجئت بأنّ (صبي المطعم) ليس لديه وقت للراحة أبداً، خصوصاً مع دخول وخروج عشرات الأطباق التي تحتاج إلى جلي وتنشيف..
ولا أخفيكم أنّي كنتُ مستمتعاً جدّاً في اختبار صبر العمّال، وقدرتي على تحمّل ضغط العمل على الرغم من سهولته إلّا أن اليوم الأول انتهى بعدما أنهِكتُ تماماً وليس من الممكن حين وصولي إلى البيت إلّا أن أنام دون فعلِ أيّ شيء آخر..
وحين وضعتُ رأسي على الوسادة كنتُ على يقين بأنّ رائحة الزيت التي تعشّشت، منذ اليوم، الأول في ثيابي، سترافقني طويلاً، خصوصاً وأنّ صاحب المطعم قال لي إن حبيبته تعتبر رائحة زيت القلي (بارفاناَ) حين تشتمّه في ضمّة عشق مجنونة..
هنا بدأت معركتي مع بيع الفلافل.. وبدأ الوطن يغرقُ في زَيتِ الفوضى والعذاب..