ذاكرة حدث

بين صفحتين


يقول شاعر ما في بلدي: “لكم أحتاج ذاكرة جديدة”، وأنا أقول أعطني مئة ذاكرة جديدة، وسأروي لك بالتفصيل ماذا حدث في بلدي، سأحكي لك قصصاً عن الحرب، فللحرب ذاكرة تعبق برائحة قذرة تشتمها مع البارود والدم والمرض والجوع والتشرد.  وتدركها مع أول رصاصة تخرج من فم قاتل،

إن لها رائحة عفنة، و ذاكرة بصرية بعيون تضخ صوراً لحظية للآلاف من الضحايا، التي ما لبثت تعيد نفسها منذ ثمان سنوات.

لعل الذاكرة الجديدة تحتاج شخصاً جديداً، ليستطيع أن ينسى كل ما مر أمامه من دم الحرب ومرارة الخيبات وينطق بشيء يشبه أحلاماً وردية في عيون طفل صغير لا يبلغ طوله طول الورود .

أحاديث وقصص كثيرة تجول في خاطري، ومع الوقت أصبح النيل من التفكير فيها أمراً شبه مستحيل.

حدثني رجل ما في بلدي:

في حمص وتحديداً في العام 2013 حيث الاشتباكات وصلت ذروتها، كانت حواجز النظام السوري تتوزع بطريقة تنسى فيها أن لك مدينة وأطفالاً وعائلة، وتحديداً أثناء ركوبي في “السيرفيس” منطلقاً من منطقة الأرمن إلى المرجة فاجأنا الحاجز كعادته، وبحكم العادة أيضاً أخرجنا هوياتنا الشخصية، فحضرنا أوراقنا مرفقة بدفتر الخدمة العسكرية أثناء انتظارنا إشارة من مسلح لا نثق به،  لكننا نثق تمام الثقة بإمكانية قتله أو اعتقاله لأي فرد منا، في خضم ذلك أوقف الحاجز السير، ومنع جميع العربات من إكمال مسيرتها، لم نكن نعلم ما يحدث، كنا نخاف السؤال، لكننا شعرنا أن شيئاً ما يحصل خاصة وأن عناصر الحاجز لم تطالبنا بأوراقنا الثبوتية كعادتها،  وبعد فترة قصيرة، نزلت ومن معي من الميكرو، أشعلنا سجائرنا، ووقفنا منتظرين، وما هي إلا دقائق وإذا بشاحنة تحمل في صندوقها المعد بشادر عشرات القتلى، وتقترب نحونا لتقطع الحاجز كانت الأرجل مصطفة فوق بعضها البعض، جثث استلقت على نفسها، لا وجوه تستطيع رؤيتها ولا أجساد، فقط الكثير من الأرجل.


لو علمت ابنتي أين وجدت صورتها، ستعتقد بأنني لست جديرة بأن أكون أماً لها، ولو علمتُ أين سأجد ابنتي لكنتُ سافرت معها أيضاً.

تابع الرجل ..

إن تمالكت عيناك نفسها، واستطعت أن ترى تلك الأرجل وتمعنت النظر بها.. لكنت استطعت عدهم، فمن يدري لربما ربطتك سابقاً معرفة بأحد أصحابها…

أذكر أنني بالرغم من معرفتي أنهم موتى .. لم أستطع ان أشعر بذلك..

حدثتني امرأة ما أيضاً:

في دمشق، وأثناء حصار الغوطة. هجرت مع عائلتي من مدينة دوما إلى مدينة جرمانا. مرت سنتان ونصف على فراقي لمنزلي، وأثناء تجوالي في الأرجاء وجدت أثاث منزل ابنتي في سوق “التعفيش”. كانت لا تزال صورة عرسها ملصقة على باب الخزانة. ابنتي الآن سافرت مع الحمام في تفجير ساحة الرئيس في جرمانا، لطالما كانت جميلة في كلا العرسين..

تحسرت المرأة قائلة:

لو علمت ابنتي أين وجدت صورتها، ستعتقد بأنني لست جديرة بأن أكون أماً لها، ولو علمتُ أين سأجد ابنتي لكنتُ سافرت معها أيضاً.

تختم المرأة روايتها : انتهى بي الأمر أن اشتريت الخزانة..

في كلا الروايتين لم أكن أستطيع النطق أو التعبير .. أذكر آنها أنني مشيت دون هدف لساعات في طرقات حاولت احتضاني بإسفلتها الممدد كرقع طُمست بها الشقوق..

رحت أفكر في ذاكرة الرجل والمرأة وكيف يستطيع إنسان متوازن نسيان هاتين القصتين، رحت أتساءل فيما لو امتلكت هاتان الذاكرتان القدرة لمسح ما فيهما.. هل ستقبلان يا ترى!؟ الحقيقة أن لذاكرتنا صفحتين صفحة للحياة وأخرى للحرب، الأولى نستطيع بها أن نحيا، والثانية تجعل لحياتنا قدسية خاصة، معجزة كبرى، في الأولى نغدو جميعنا أطفالاً يلهون بين أحبابهم، وفي الأخرى نكبر  سريعاً وجداً، نسبق أعمارنا عراة من كل شيء إلا من الجذور.


وإذا بشاحنة تحمل في صندوقها المعد بشادر عشرات القتلى، وتقترب نحونا لتقطع الحاجز كانت الأرجل مصطفة فوق بعضها البعض، جثث استلقت على نفسها، لا وجوه تستطيع رؤيتها ولا أجساد، فقط الكثير من الأرجل.

نعيش بين صفحتين نبتسم حيناً ونبكي حيناً آخر، حرماننا يقطر قصصاً وحكايا، لماضينا جذر قوي لكن قدرنا أن نخلق لنكون كأشجار الياسمين اشتممنا باروداً فذبلنا ويبسنا ووقعنا.

أذكر أن لذلك الرجل جسداً قوياً، وكرشاً كبيراً، ووجهاً ذو ملامح قاسية استطاعت أن تخفي ملامح قلبه، ولكنني بالرغم من بنيته الضخمة أوقن أنه حينها قد بكى ولم يستطع عد الأرجل  التي كانت متموضعة فوق بعضها البعض، كحفلة جنائزية تغني أشلاءها للمثوى الأخير ، وتلك الامرأة ذات اللهجة الشامية الحادة القوية، أشك فيما لو استطاعت بحجابها الباهت وثوبها القديم و بحالتها المادية السيئة شراء الخزانة..

لعل الجميع كان يحلم، والحلم هو الوحيد الذي لا يدفع عليه الناس أموالاً لممارسته، لكن الفاجعة أن أحلامنا تشبه واقعنا لا بل هي تكملة له، لا أحد في بلدي يريد نكران ذاكرته، سوى تلك الوحوش التي تشرب الأحلام، وتأكل الياسمين.

لم يكمل الرجل قصته، ولم يرو لي ماذا حدث لحافلته أو للسيارة التي تنقل الجثث، ولم يتكلم عن عناصر الحاجز ،أو عن ردة فعل من كانوا معه لعله اكتفى بمشهد الأرجل، متوقعاً أن أكون قد علمت بطريقة أو بأخرى ما حدث.

كما لم تحك المرأة لي عن اسم ابنتها، عن عرسها، عن أطفالها أو عن زوجها الأرمل، ولم تصف لي كيف تعاملت مع أشلائها حين استلمت الجثة، اكتفت بالقول بأن ابنتها كانت جميلة في عرسها الأول الملصق على الخزانة وعرسها الثاني المدرج في السماء.

أصبح عمر الحرب ثمان سنوات، وفي كل سنة تطفأ شمعتها تطفأ معها مئات الناس، غير عابئة بجرح عميق تتركه بذاكرة كل من يعرفونهم، فربما لهذه الأسباب الحرب ليس لها أم أو طفل أو عائلة، فهي ذاك الشق الكبير بين الصفحتين في كتاب حمل عنوانه الكبير اسم سوريا وتحدث بين طياته، عن شعب فاقد، ومفقود، ظالم، ومظلوم، حر، ومستعبد، لتجعلنا الحرب في النهاية نعيش ألماً عالقاً بين الحلم والذاكرة، نبتسم حيناً ونبك حيناً آخر، ونحن ننزف اتساع فوهتها بين صفحاتنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

11 − 3 =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى