إنانا

أنا “س”، اخترتُ هذا الرمزَ المجهول، لأبقى كما أنا، منسيًا، كأي عربي يخفي تحت عباءتهِ، ندوباً وأحلامًا وأثلامْ.
أنا “س” كاتبٌ سوري من أقصى الجنوب، أعيش في غرفةٍ صغيرة، اعتدتُ أن أتركَ بابها ونوافذها مشرعة على الريح، لا لشيءٍ، سوى لأنني أخشى الأماكن المغلقة.
الريح: التي تحملُ دائماً المطر والدمَ والسحابَ والأعضاء البشرية المبتورة من أصواتها، وصولاً لأعضائها التناسلية، هنا في الجنوب حيث كل ما يحدث يستقرئه العرّافون كواقعٍ سحري لـ لا واقعٍ منقوصٍ كمعتقدٍ منقوص.
غرفتي قليلة، قليلة جداً، بمكتبة وطاولة وكرّاس من الأوراق الصفراء التي تكاثر الخريفُ في جسدها السوريّ.
أجلس الآن أمام الطاولة، وأوراقٌ كثيرةٌ فشلت في الكتابةِ عليها تُغرقُ كلا قدمي حتى الركبة، مشهدٌ سريالي لكاتبٍ مثقوبٍ بالرصاص والجثث وأحذية العسكر.
“إنانا”، فتاةٌ أزيدية في السابعة عشرة من موتها، هكذا عرّفت بنفسها، الصبية التي دخلت بابي المشرع على غفلةٍ من غرقي، أريدكَ أن تكتبني، أردفت بلكنةٍ شاحبة، ثم جلست في ركنٍ ظليل من أركان غرفتي الرطبة.
ـ من أينَ أنتِ؟
ـ من “سنجار”
ـ وماذا تريدين أن أكتب؟
ـ سبع رصاصاتٍ اخترقت جسدي، اكتبها بلونٍ أحمر
ـ وأي لغةٍ تلكَ التي تتقنُ الدم؟
ـ اكتبها بحروفٍ مسمارية، فأنا من “سنجار”
ـ ولكنني لا أجيد سوى العربية
ـ إنها لغة القتل التي تتقن الدم
ـ سأكتبكِ بحروف عربية
ـ سأموت ثانيةً
ـ لا موتَ في البرزخ
كنتُ في الخامسة عشرة عندما باعني سيدي (الشيشاني في الدولة الإسلامية) بعد أن قاد بني عقيدتي لجحيم عقيدتهم في معتقد مكفول عند جنود الله على الأرض.
ـ وما هو معتقدك؟
ـ دائرة لا أخرجنّ منها حتى يريد مولاي عادي بن مسافر، اكتبني ضمن دائرة كي لا أستطيع الخروجَ منها.
باعني سيدي الشيشاني لجنديّ آخر من تنظيم الدولة، في الرقة بثلاثمائة دولار، بعدَ أن فرغَ من جسدي، كانَ لسيدي الجديد نسوة سبع.
ـ سبع!
قاطعتها بلسانِ الدهشة: كيف ذاك وما حُلّلَ له سوى أربع محميّاتٍ بلسانِ الدّين الأصدق؟
ـ سبعٌ محصنات بلسانِ الدولة وأميرها البغدادي، سبع بعدد السماواتِ التي ركلوها إلى معتقدهم، سبع بعدد الأرض التي ارتضوها سبيّةً لأجنادهم؛ الأرضُ البرزخ السلّم الأول لجنةٍ موصودة بأقفال إيمانهم، لا مشيئةَ لسواهم في الدّين المُستعارِ كثوبٍ تفصيلٍ على حجم قناعاتهم.
قالت إنانا، ثم أسهبت تروي حكايةَ سبيها من سنجار إلى الرقة إلى حلبٍ إلى الموت إلى البرزخ.
كانَ لسيدي السوريّ الذي ابتاعني من الرقة سبع نساء، يطوفُ عليهن واحدةً واحدة في ليالي وحدتهن، وهنّ مثلي سبايا ابتاعهن بما ملكت يمينه من إرثٍ سماوي.
ـ وأنتِ؟
ـ كنت أصغرهن عمراً، وأضعفهن جسداً، وأكثرهن معصية، لأنني لطالما أخطأت مواعيد الصلاة وفروضها وأصولها.
ـ ولمَ كنت تخطئين الصلاة؟
ـ لم يعلمني سيدي عادي بن مسافر أصول صلاتهم ولم يرشدني لجنتهم المحفوفة بقطع الرؤوس والسبي.
كان يجلدني سبعين جلدة عن كل فرض أنتقصه غير متعمدة، ثم كشفتْ لي عن ظهرها الحليبي، تشير بأصبعها إلى مواضع الجلد المعذِّب، وتتابع:
وفي ليلةٍ شتائية، وشتْ به لي إحدى سباياه السبع إنه يريد قتلي بعد أن يعلمني تمام الدين الجديد، كي أخرج من الحياة طاهرة، غير منقوصة، إلى الحياة البرزخ قبل أن تقوم الساعة الكبرى.
كنتُ في الخامسة عشرة عندما باعني سيدي (الشيشاني في الدولة الإسلامية) بعد أن قاد بني عقيدتي لجحيم عقيدتهم في معتقد مكفول عند جنود الله على الأرض.
استسلمت لمصيري وبتُّ أنتظر النحرَ كشاةٍ سوف تقاد إلى مصيرها المحتوم، ذبحاً بالسكين؛ السكين الآلة الأرخص في تاريخ نحر البشري للبشري، ومنذ تلك الوشاية بالقتل لم أستطع نومًا أو أكلاً حتى صرت أشبه بالظل الذي يقف على قدم واحدة، لم يكترث سيدي السوري ربيب الدولة الإسلامية في العراق والشام إلى ما أنا فيه من جزعٍ وضيق، بل رمى بي إلى غرفةٍ معتمة بحجم سرير، يقطنها جرذانٌ وهواء رطب، كي يُخرج من جسدي ما تلبّسه من جانٍ أسقم روحي.
سمعتُ القفل يدور في الباب الموصد على جسدي، فُتح الباب، كان سيدي السوري، يقف بكامل عتاده الحربي (سكين مثلّمة ـ بندقية كلاشينكوف ـ وخطوط من الرصاص تزنر خصره). قادني من يدي، ثم أمر سباياه الأخريات أن “يحممنني”.. فحدثنني أثناء غسلي إن سيدي سيأخذني معه في مهمة حربية أوكل بها في حلب.
وهناك، في حلب باعني لسيدٍ سعودي بمائة دولار فقط، بعد أن أشار عليه الأخير بأن روحي المريضة لا تساوي أكثر من ذلك.
كان أبو عبد الله آخر من اشتراني، من أجناد الخلافة الممهورة بالدم السوري والعراقي؛ وكنتُ قد بلغت السابعة عشرة من عمرٍ ضئيل، كان سيدي الجديد ذا سُمرة شديدة، وجسدًا مفتولاً، قاتلاً محترفاً، يختصُ بذبح الذين تميل أنفسهم إلى الهروب من معسكرات الدولة، أو الذين يجدون عذرًا لأزلام المعارضين والموالين للدولة السورية، على حدّ سواء، فجميعهم في معتقده الكامل “كفّار” أصابوا الدين بسهام الديمقراطية الملحدة، أو بسهام الخضوع لحاكم دمشق الأوحد وجنده.
” قتلني بسبع رصاصات”
ـ لماذا؟
ـ لأنني كنتُ أختلس السمع ليلاً لصراخ الأطفال الذين يأتيهم من الخلف، في نكاحٍ معلوم، له ثوابه المعلوم، وذلك، بعد أن يقرأ على أجسادهم أذكار المتعةِ الممنوحةِ دَيناً لمرتزقة الدولة الإسلامية في العراق والشام.
رآني مرةً أختلس النظر بعينين مالحتين، إلى رذيلته، كان يأتي طفلاً من الخلف، ويقرأ على رأسه أذكار المتعة. اتقد ناراً حينما لمحني جاثية خلف الباب، أجهش بصوت متقطّع. صرخ بكله، وأتى بسلاحه الكلاشينكوف المتكئ على زاوية الجدار، ثم أرداني بسبع رصاصات.
ـ ولمَ جئتِ إلي؟
ـ لتكتبني في قصيدةٍ أو قصةٍ أو رواية
ـ لكنني لا أجيد سرد الدماءِ في قصيدتي
ـ لكنك تجيد المعرفة.. من هم أجناد الدولة الإسلامية؟
أردفت بسؤالٍ سكينٍ مزقت أعماقي الملتهبة.
ـ هم أجناد المخابرات، جميع مخابرات الأرض وزعمائها، اشتروا التنظيم من عقول مريضة وروضوها لتصبح آلة للفتك.
ـ لماذا؟ “سألتْ إنانا”
ـ كي نبقى عبيداً، تحت مقصلة الطاغية، فيكون الخيار المحتوم، إما أنا، وإما هم.
زفرت إنانا بسخونة لاهبة، بينما كنت أنظر جهة الباب، حيث تزاحم عدد لا يُحصى من الأطفال والشيّاب والنسوة، يجرون خيامًا خلفهم.
خرجتُ بينهم أستنجد الهواء، فصرخوا بي بصوتٍ واحدٍ: اكتبنا!
ــ نعم، هم اللاجئون.