ذاكرة مكان

يا بدع الورد يا جمال الورد ..

تمضي الحرب كحيوان مسعور يريد أكل كل ما تبقى من أشلائنا، ذاك الحيوان النهم، الشرس، لم تكفه ثمان سنوات من الدم، لم تنهكه الأرواح المقهورة ولم تزعزعه مرارة الخيبات.

الأمهات يبكين، وتراب بلادي يزداد ملوحة، ها هو التراب يختنق، فكلما رحل سوري يبست زهرة، وكلما تهدم بيت اقتلعت شجرة، فربما أرض الشام تشعر بنا، وتميز رائحة دمنا كما تميز نباتاتها، فنحن أبناؤها منذ أن كان الشارع المستقيم في باب شرقي، ومنذ حملنا تاريخ أقدم الحضارات.

المدرسة الرومنسية السوريةوردة دمشقية:

مذ مشيت على هذه الأرض، وأنا أشعر بثقلها، وبالجاذبية الكونية تشدني نحو الجذر السوري الممتد إلى أعماق الروح، وأنا أمشي، أذكر أنني صادفت ورداً دمشقياً يقف حارساً أمام المنازل، وقفت قليلاً وتأملت المشهد..

وجدت نفسي أمام لوحة فنية عظيمة، تضج بالحياة والأمل .


منذ موت الأطفال، وياسمين الشام يكبر وحيداً، وخائفاً، وكأنه لا يريد نسلاً جديداً، فيشهد به نهاية طفل ولد ليقتل،

تمنيت حينها لو كان فان كوخ سوريا، لربما كان رسم الورد الدمشقي بدلاً من عباد الشمس، أو لربما لم يكن ليقطع أذنه عمداً بل لكانت رصاصة طائشة من فعلت ذلك .. فكرت فيما لو كان فان كوخ سورياً، فبالتأكيد لاستطاع أن يجد امرأة يحبها ..ومن يعلم لربما كنت أنا تلك الفتاة ..

تمنيت أيضاً، لو كان “أوجين ديلا كروا” من أصل سوري، أو لو على الأقل زار بلادي بدلاً من المغرب، فبالتأكيد كان سيضيف إلى عنق المرأة في لوحته ” الحرية تقود الشعوب ” عقداً من الورد الدمشقي ..

لو كان ديلاكروا سورياً لعرف العالم المدرسة الرومانسية السورية،

أذكر آنذاك أن الطريق لم ينته أو بالأحرى لم أستطع أن أرى نهاية للورد الدمشقي، بالرغم من أن هذه الأرض شهدت قتل أطفالها قبل أن يصبحوا فان كوخ و ديلاكروا السوريين .. لكم تمنيت لو استطاعوا أن يكبروا ..

دمشق.. للياسمين حكاية أخرى :

تقول الأسطورة أن التاريخ تزوج شجرة ياسمين فأنجب منها دمشق، فمن قرأ التاريخ، عرف دمشق، ومن عرف دمشق، اشتم رائحة الياسمين .

هذا الثالوث المقدس منع الحرب من تشويه ذاكرتي عن مدينة نهش شوك الحرب لحم أولادها، ومنع غاز السارين أطفالها من الاستيقاظ، والذهاب إلى مدارسهم إلى الأبد، فلكم وددت لو علم الأطفال ما قاله الشاعر محمود درويش عن مدينتهم:

“لا تعتذر عما فعلت في الشام، أعرف من أنا وسط الزحام، يدلّني قمر تلألأ في يد امرأة عليّ… يدلني حجر توضأ في دموع الياسمينة ثم نام .. “

منذ موت الأطفال، وياسمين الشام يكبر وحيداً، وخائفاً، وكأنه لا يريد نسلاً جديداً، فيشهد به نهاية طفل ولد ليقتل، فللياسمين ذاكرته الخاصة في دمشق، وغوطتها، التي سكن حواريها وبيوتها الشامية، فمنذ زمن ليس ببعيد كان يرقص منتشياً، فرحاً، باندماج عطره مع روح أشجار الليمون ودوالي العنب، التي كانت تملأ المنازل، لم تخل حقيبة منه ولم تكبر أنثى إلا معه، وكم من طفل اختبأ من رفاقه بين أغصانه، وهو يلعب لعبة الغميضة.

عندما أذكر دمشق أستطيع اشتمام رائحة البارود في المدافع، وأن ألمح شبح الجوع بين الناس، وأن أتذوق طعم الدم في المعتقلات، بيد أن الياسمين يبث عطره، فيوقظني كجرعة إنعاش ليقول لي: لا تحزن فللياسمين حكاية أخرى…

إدلب.. يا حبق منتور على السطح العالي :

من كان يعرف بلادي، سيعرف قصة مدينة إدلب مع الحبق تلك المدينة التي لقبت بالخضراء تيمنا به، وسيدرك لماذا، وإلى الآن هناك أناس يزرعون الورود بين جدران بيوتها المدمرة، إنه الحب، ذاك الشعور النقي الذي تجده يعيش بين البنادق، يتجول في الدمار، ويعيش على أحلام الفراشات الصغيرة بغد أفضل، لعل الأسلحة المتطرفة هناك لا تعلم أن للزهور ارتباطاً بالأنوثة والمرأة، وإلا لكانت اقتلعتها، فكم من حبقة شهدت قبلة سرية، وسمعت أقصوصة جدة لأحفادها، وارتوت بدمع رجل آثر البكاء أمام أولاده، فبالرغم من كم الأفواه، كان عبير الورود يصرخ بآهات أهالي المدينة، فتراهم ينسجون من زهورهم أكاليلَ يزينون بها قبور من عشقوا ترابها ليبقى اللون الأخضر يعيش على سطوح مثواهم الأخير.

لم أر إدلب ولكنني أذكرها كلما بعثت برائحة عطر من حبق ضل طريقه إليها، فمن قال إن للهوية بصمة وبطاقة تعريفية، سيبقى الحبق برائحته العطرة، يحمل هوية إدلب الخضراء، يميز بها الأهل عن الدخلاء، العصافير عن الغربان، يحكي قصص العشاق والأحبة، ويصور لنا حميمة بيوت كان يتربع مختالاً على عرش سطوحها ونوافذها.

حمصوللورد شكل مختلف ..

يقول محمود درويش إن نظرتَ إلى وردةٍ دون أن توجعكْ وفرحتَ بها، قل لقلبك: شكرًا

الحقيقة أن الورد لم يوجع أحداً، سوى أولئك المدمنين على رائحة البارود، الذين كلما التقوا وروداً أغلقوا أعينهم، انتعلوا بنادقهم، وأطلقوا النار على كل شيء.

لم يكن يعنيهم شكل الورود، أو عبقها، فللجمال بنظرهم عبق قذر، وشكل دميم، يتيح لهم قتل كل شيء لا يشبه ذلك.

صدقوني لو أن زهرة واحدة في حمص قتلت برصاصة، لكانت أنجبت قبل ذلك آلافاً مثلها، لكن للورد هناك شكل مختلف، فهو يأتي على هيئة ملائكة صغيرة يسميها البشر أطفالاً.

البارحة غفوت، وأنا أكتب لكم قصتي مع الورود في دمشق، وإدلب، واليوم لم أستطع النوم، دون أن أحدثكم عن ورود مدينتي الأم حمص، فتلك البقعة التي اشتهرت بحجارتها السوداء، لم تكن يوماً تحتاج الورود، فقد كان أطفالها الصاخبون في الشوارع والمنازل يملؤون بساتين الحياة بضحكاتهم ويرسمون بحركاتهم الصغيرة جميع أنواع الورود.

لو تعمقت في سر الحجارة السوداء، لعلمت كم كانت حمص تخاف على ورودها، ولماذا طلت نفسها باللون الجوري الأحمر، لوددت لو تتحول تلك الحجارة إلى سكاكين تغرز في خاصرة هادمها وقاتل ورودها.

تلك المدينة المدرعة بحصن قديم يخفي رقة فؤادها ويحميها من الغلاة.

لعل حمص الآن تشتاق ورودها، أو لعلها تحيك لهم قلباً جديداً من أنسجة الدم البريء الزكي ..

لعل حمص الآن، تجهز نفسها لتنبت مرة أخرى خارج حلمي وذاكرتي ..

الحب جوهر بلادي العظيم الذي جمع بين خلاياها وربط جذورها، فقط في بلادي إن دققت النظر لن تجد فرقاً بين الورد والناس ..

وستبقى مهما ابتعدت تبحث عن تلك الرائحة التي ولدت من رحمها، وولدت من ألمك، ستبتسم وأنت تغني لها ” يا بدع الورد .. يا جمال الورد “..

للأنثى الأكثر جمالاً وحزناً ..سوريا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

سبعة − 1 =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى