ذاكرة مكان

الخنازيرُ ترقصُ على ضفاف الفرات

يوميات من حصار حيّ “الجورة” دير الزور 2011

(الجزء الرابع)

الحكاياتُ لا تنتهي … مَن قال لكم إن الحكايات لها خواتيم ؟!

الحكاية تبدأ فقط.. ولا تنتهي. الأثر هو صدى الحكاية الدائم، إن كان أثراً جميلاً أو بشعاً؛ فخيال المتلقّي أو المُصْغي إلى أي حكاية، واقعية كانت أم خيالية، يرفض أن تنتهي عند حدثٍ ما، ففي الغالب يكون الذهنُ جشعاً، ونهماً لاصطياد أحداث أخرى.

وهكذا … أصبحت حكايتي أشبه بحدثٍ مرعب، مفزع، مثل تفجيرِ حافلةٍ مدرسية في شارعٍ يكتظُ ببائعي الورود؛ تتساقط الأشلاءُ ملطخةً بالدماء إلى جانب بتلات الورودِ الملونة، والصرخات، والأنين، ليختلط الجمال بالمأساة والخوف!

ذهابي إلى المجهول (دير الزور) لا يعني أنني شجاع؛ فأغلب الشجعان ينهارون أمام عواطفهم، وأنا جرفتني العاطفة نحو مصير أهلي هناك، ولم أصنّف نفسي بين الجبناء ولا الشجعان.. أنا فقط دخلتُ في رهانٍ مع الرعب، والمجهول، مقامراً على حظي، لربما أنجو، ولربما أسقطُ فريسة الخيبة بين فكيّ هذه المغامرة الرعناء.

تجاوزت الساعة الآن الخامسة فجراً، ونحن لمّا نزل نسير نحو طريق دير الزور.. الظلامُ يلتهمُ كل شيءٍ أمامنا، باستثناء أضواء الحافلات التي تعبرنا أو تأتي صوبنا؛ إضافةً إلى الصمتِ داخل الحافلة الذي يكسره أحياناً شخيرٌ متقطّع لأحد الركّاب، أو بكاء طفلٍ صغير.

وصلنا حوالي الساعة السابعة صباحاً إلى مدينة _ السخنة _ متجاوزين واحة الصحراء ( تدمر)، على غير العادة، كونها محطة استراحة للحافلات وسيارات الشحن الكبيرة والعابرين بين دمشق ودير الزور.

أغلب المسافرين يغرقون في نومٍ أخرس، فلم يتسنَ لنا أن نسأل السائق أو المعاون عن موعد الاستراحة؛ كأننا نتجاهل حتى تجمّع كميات البول الهائلة في مَثَاناتنا !

أجزم أنّ الجميع وقتها، كان ينتظر الاستراحة الأخيرة، الوصول فقط، ليتبوّل بكل امتعاض على صور “حافظ الأسد وديسمه بشار” المتناثرة في شوارع مدينة دير الزور.

كانت مدينة السخنة على صفيح ساخن، إذ إنها خرجت منددةً بالمجازر التي ارتكبتها قوات النظام السوري بحق أبناء درعا وحمص، علاوة على ذلك، فقد اتسعت رقعة الحراك داخلها للأسباب ذاتها، فأجهزة الأمن السوري والجيش المقدام لم يدّخروا جهداً بنصب خيام العزاء داخل هذه المدينة الوديعة، قتلوا بعضاً من أبنائها، واعتقلوا الكبير والصغير، بذريعة تواجد المسلحين القادمين من محافظة حمص، التي تقع على تخومها، وأيضاً، كانت المدينة هذه، معبراً هاماً ومدخلاً نحو دير الزور التي أصبحت عصيةً على النظام وميليشياته وقتها.

عند الحاجز الذي استوقفنا هناك، على مشارف مدينة السخنة، بدأ العدّ التنازلي لانفجار الأوضاع وخروجها عن السيطرة؛ إذ إن مسؤول الحاجز العسكري، وعلى ما أعتقد ليس ضابطاً، بل كان مساعداً، جرّ امرأة مسنة وهي تنزل عبر درج الحافلة، بعد أن طلب منّا النزول جميعاً؛ وقعتْ على وجهها، صارخةً، باكية، وهو غير مبالٍ “ابن العاهرة”. صرخ فيه رجلٌ مسن كان يرافقها، عرفنا فيما بعد أنّه زوجها، طبعاً، بعد أن تلقّى صفعة وركلة، كونه تجرّأ وصرخ في وجه ذاك السافل.

كنتُ أتنظرُ دوري، ونحن نترجّل، راكباً، إثر راكب. منّا من كان يتقدّم نحوه، حيث يقف أوّل الحافلة إلى جانب السائق، وينظر خلفه، كأنه يستجدي شيئاً ما، _ نجدة على سبيل المثال _ عاطفة، إلى ما هنالك من توسلات دفينة لا يستطيع البوح بها علناً.

أما أنا، أخذتُ أراقب الطابور، حتى يأتي دوري بالنزول، أراقب أيضاً من خلال زجاج الحافلة الناس في الأسفل _ الركاب _ وتارةً أرمي بنظري نحو لُجِّ الصحراء، علّني أحظى بحقلِ صَبّار ألتهمهُ في مخيّلتي، كي أستطيع كبح جماح غضبي ونزقي، وأصبرُ على ما شاهدته، وما سوف يحصل معي.

كان الصَبَّارُ ينبتُ في أكبادنا، أربعين سنةً يتعرّشُ ويتسلّقُ ويوخز عظامنا كل يوم، ولكن، لا فائدة!

أربعون سنة تحت مقاصل ومباضع هذا النظام المافيوي، فوّهات البنادق موجّهة نحونا حتى في أحلامنا، وبين ظلالنا يلتصقُ مخبرٌ أمني، يلاحقنا حتى في عملية التبوّل، ليكتبَ تقريره عن لون البول وكمياته!

ترجلتُ عن الحافلة دون أية صفعة! فطوابع البريد لديّ كثيرة، وقد تحاكي كل مظلومي الكرة الأرضية.


وعلى ما أعتقد ليس ضابطاً، بل كان مساعداً، جرّ امرأة مسنة وهي تنزل عبر درج الحافلة، بعد أن طلب منّا النزول جميعاً؛ وقعتْ على وجهها، صارخةً، باكية، وهو غير مبالٍ “ابن العاهرة”. صرخ فيه رجلٌ مسن كان يرافقها، عرفنا فيما بعد أنّه زوجها، طبعاً، بعد أن تلقّى صفعة وركلة، كونه تجرّأ وصرخ في وجه ذاك السافل.

أخذ بطاقاتنا الشخصية قبل أن ننزل، وحين هبط علينا كماردٍ دميم، ذي شاربٍ كثٍّ بشع. بدأ بتعداد البطاقات الشخصية بالاسم، وكل من يصدر اسمه، يقف جانباً؛ ظننتُ أننا في حفلة إعدام، تلك التي تشبه مجازر عصابات العدو الصهيوني _ كفر قاسم، مجزرة العباسية، مجزرة عرب الخصاص _ نعم، كانت بهذه الطريقة، يجمعون الناس ويصيحون بأسمائهم، ثم يطلقون عليهم الرصاص!

لآخر لحظة، ظننا أن الأمور سوف تنتهي هنا، وخاصةً أنا، الذي لاحقني المجهول منذُ ولادتي؛ صحيح، نسيتُ أن أخبركم، أنا ولدتُ في مقبرة، نعم .. وبالتحديد تماماً عند “مقابر عزو”، تلك التي تقع بين الشامية والجزيرة، في ريف دير الزور، عام 1980 حيث ترجلت أمي أيضاً عن الحافلة التي كانت متجهة نحو المدينة مع نسوة أخريات، ليأتيها المخاض أمام شواهد القبور، _ دون جذع نخلة _ صباح عيد الفطر السعيد، ولا أدري لماذا سميّ بالفطر السعيد! ونحن “المسلمين” دائماً، نتعرض للقتل والمهانة والذل، من قبل شذاذ الآفاق وبعض من العصابات الصهيونية، والحكّام الذين يُقْعون كالكلاب على صدورنا!

تم فرزنا إلى ثلاث مجموعات، نساء وشيوخ، الشباب، الأطفال، واتجه نحونا هذا الكريه مع ثلاثة جنود مدججين بالسلاح والحقارة، وأخذ يسألنا شاباً تلو الآخر، أسئلة تخصّ الحياة والدراسة، والعمل، والخدمة الإلزامية في الجيش؛ حتى جاء دوري.

سألني: من أين أنت، أية محافظة؟

أجبتُ: دير الزور.

رفعَ حاجبيه مبتسماً، وصفّق بثلاثة أصابع على راحة كفّه الأخرى !، إلى هذه اللحظة لا أنسى ملامحه القذرة.

استدار إلى الوراء وأشار للجميع صارخاً، متهكماً: (دير الزور، وأشقر، وعيناك زرقاوان. كيف هذا؟! لا بدّ أن بذرتكَ فرنسية، منذ أن احتل الفرنسيون سوريا)؛ وأخذ يقهقه كالبغل، ويضيف: ” أهل الدير كلهم من فحم، يشبهون الشجر المحترق”.

قاطعته وسط الجلبة التي أحدثها والضحكات المتناثرة من قبله وجنوده:

ــ أنت من أي بلد؟

رفع يده، كي يصفعني قائلاً:

ــ تريد التحقيق معي يا حيوان؟

ابتسمتُ، وقلت له:

كلا، فقط للمعرفة، فأنا شبّهتك بشخص أعرفه.

حاولت استدراجه والتخفيف من وطأة طبعه القذر.

أجاب بسرعة:

ــ أنا من مدينة تدمر .. يا حيوان.

أجبته على الفور، دون تردد وخوف:

ــ تدمر لا تنجب الخنازير.

فهاجت الصحراء كلها بالغبار والصراخ، وبدأ جميع الجنود بالركل والصفع، وهو يصرخ ويشتم ويوجّه إلي الركلات والصفعات، والناس من حولي يفترسهم الصمت، باستثناء شابين تدخّلا، وقد لاقيا ذات المشهد.

نعم، أيها السادة، ذاك الصباح ابتلعتُ كمية كبيرة من الغبار، وحصدتُ ما يتجاوز خمسين طابعاً بريدياً على وجنتيّ ورأسي، وكافة أنحاء جسمي.

شكراً أيها الوطنُ الجميل !!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اثنان × 3 =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى