ياء اليرموك: أن تكون فلسطينياً
إليكِ القصة باختصار:
كنتُ في السابعة عشرة لما أدركتُ أن مخيم اليرموك لا يقع في فلسطين. مفاجأة؟ أنا مثلك تفاجأت. يولد الفلسطيني فلسطينيا، قبل أن يتحول مع الوقت إلى حيوان فصائلي. وهذه ليست شتيمة أو خطاب كراهية، بل هي تعريف فلسفي ترجعه “مخطوطات البحر الميت” إلى أمبدوقليس. عنده ذلك التطلع اليهودي إلى أرض اللبن والعسل. وفي انتظاره تحقُقَ الوعد الإلهي يتبع استراتيجية ذكية تقوم على الحلم والاقتتال الداخلي. والنرجسية جزء رئيس من مكونات هويته الفلسطينية. كيف لا؟ والإله نفسه لما أراد منذ ألفي عام ونيف أن يفدي البشرية اختار أن يتجسد إنسانا فلسطينيا على كوكب فيه مئتا دولة، ومئات الأعراق رغم أنف علم الجينات الذي ينفي وجودها. لذا كان لحُبّنا، الذي كان تقريبا من النظرة الأولى، جانبه الديني. هكذا نظرت مسيحيتك إلى فلسطينيتي بامتنان وعبادة، ونظرتْ فلسطينيتي إلى مسيحيتك بوصفها دين الفطرة لأرض كنعان. وبذلك تسامينا، مثلما يتسامى اليود الصلب بالتسخين إلى غاز مباشرة دون مروره بسيولة ما بعد حداثوية. كان ديننا علمانيا. وما العلمانية؟ تسألينني. هي أننا تضاجعنا في المطبخ مثل كائنين بدائيَّيْن فجعلنا منه جنة لعلماء الأحافير. بهذه البساطة؟ أجل! لكن البشر يفضلون التعريفات العويصة.
وهو يريد الاثنين معا، المنفى والوطن: مخيم اليرموك مثلا وقرية الطنطورة قضاء حيفا، فلا ينال أيّاً منهما. بل يغادر يرموكه مع أولى الغارات التي شنتها لقالق روسية الصنع. ومن منفاه الجديد، أينما كان، يمارس حنينه المرضي، وحلم عودته، ويستعيد ذكريات، ويرمم فجواته الدماغية بأكاذيبه وتلفيقه ونرجسيته المقرفة.
لكن ماليَ أتحدث عنه كما لو كان إلهاً بالفعل؟ أين الفلسطيني الخائن؟ الفلسطيني العميل؟ الفلسطيني المُنَسِّقُ الأمنيُّ المقدَّسُ؟ الفلسطيني الذي يُحاصِر من تبقى من أهله في اليرموك؟ الفلسطيني الذي يبتز جنسياً أخته اليرموكية مقابل ربطة خبز أو سلة غذائية؟ الفلسطيني الذي يسرق المساعدات، أو يخترع هيئات كي يتلقى دعم المنظمات غير الحكومية فيكونَ له حساب بنكي يُعينه على عثرات الزمان؟ الفلسطيني الذي يصر دناءةً وكلبيّةً أن منظمة التحرير الفلسطينية هي ممثله الشرعي والوحيد رغم أنها طلقته طلاقا بائناً بَينونةً كبرى؟
قالوا: أتبكي على رَسْمٍ؟ بل اتهمَنا بعضُهم أننا بقينا في اليرموك تشبثا منا بكومة حجارة وبرّاد وغسّالة، ثم لما صاروا في ماما أوروبة أمطرونا برثاءاتهم التي قطّعت ما تبقى من نياط قلوبنا.
بوسعكِ عدُّ ذلك كما لو كان الوجه القبيح لجانوس. إلهِ البدايات والممرات والبوابات والنهايات، إلهٍ بطبعة رومانية. مثل تأثيرٍ جانبي لا يخلو منه دواء، حتى “البروزاك” الأهم من قهوة الصباح وسيجارته يسبب صعوبة تبول وضعف انتصاب لا يتراجعان على طول التعاطي.
كيف لم تسألي عني؟ كيف عاملتِني بالمثل؟ كيف سمحتِ للزمن والحاجز اللعينَين بالتسلل بيننا؟ كنتُ أنا المحاصَر، الجائع، المريض، المكتئب، الشاعر الذي كفّ عن الغزل فيك قاصراً لغته وبلاغته على وصف البراميل. كان عليكِ أن تكوني أكرم مني، أن تظلي تؤدين صلاتك لي، أن تتشبثي بألوهيتي الفلسطينية كما يجدر بمسيحي حقيقي.
ومثلما يؤمن النابغة بدار ميّةَ بالعلياء فالسند، وليزاول الوقوف على الأطلال، كان لزاما على الفلسطيني جعلُ المخيم أطلالا بادئ الأمر. هذا هو المنطق السليم البسيط الذي يكاد يكون بديهة من بدائه إقليدس. قالوا: أتبكي على رَسْمٍ؟ بل اتهمَنا بعضُهم أننا بقينا في اليرموك تشبثا منا بكومة حجارة وبرّاد وغسّالة، ثم لما صاروا في ماما أوروبة أمطرونا برثاءاتهم التي قطّعت ما تبقى من نياط قلوبنا.
والرسم لغة هو الأثر، أو بقيّته، أو ما لا شخص له من الآثار. وهو ما قصده حسان بن ثابت حين كان شاعرا جاهليا:
أسألتَ رسم الدار أم لم تسأل؟ والرسم وسيلة استخدمتها فتاة مغربية تريدني أن أكتب اسمها هكذا: ءامنة، لتعبر عن حبها لليرموك. في خريطة مخيم اليرموك المرفقة، كما وردتْ في مخطوطة المواطنة الأممية، والحائزة الفخرية على حق اللجوء، والمدعوة -أي المخطوطة- “يا يرموك! بنحبك خيا” يقع مشفى فلسطين بجوار سينما النجوم، ويفصل بينهما شارع راما. وبعد أن تغادر من صلاة الظهر في مسجد الحبيب المصطفى، تجد في وجهك فرن الخواجة، فتحمل معك ربطة خبز وتسير في شارع المغاربة حتى تصل إلى مركز الشهيدة حلوة زيدان، حيث تُعقد ندوة تُرشدك إلى العنوان الجديد لفروج التاج. أما إن وقفت على شجرة مرتفعة في شارع الثلاثين، فيمكنك الإطلال بسهولة على بنات ثانوية اليرموك وهنّ يُصلحن مكياجهن قبيل الانصراف. موقع بُنّ الحسناء بجوار التربة القديمة مناسب جدا لاحتساء القهوة وقراءة الفاتحة على أرواح الشهداء… لكن أين يقع بيتي بالضبط؟
وجدتُه في ثانوية اليرموك للبنين، حيث درست.
وفي التربة الجديدة، حيث يقيم جدّاي وجدّتاي.
وفي مشفى الجمعية الخيرية، حيث عملت لأمد.
وفي دوار البطيخة، حيث اشتهيت الماء مرة وأنا صائم.
وفي المدينة الرياضية، حيث نلجأ إليها هربا من قرف الحصتين الأخيرتين.
وفي استديو القنديل، حيث تصورتُ أول مرة.
وفي منطقة المشروع، حيث استأجرت للخلوة.
أين أيضا؟
في كل مكان، وتحديدا في قلب هذه العاشقة التي لسبب إبيستمولوجي لم يكرمها فخامة رئيسنا الفلسطيني بالجنسية الفلسطينية تأسّياً بعادته التي أصابته منذ أمد. ثم إنه بوصفه إلهاً، بحُكم فلسطينيته، لا يُسأل عما يفعل.
ما حاجتنا للنرجس ما دمنا فلسطينيين؟ كتب محمود درويش هاجيا ومتألما.
ما يحتاجه الفلسطيني هو هجاء لم يصل إليه الفرزدق وجرير على الرغم من إبداعهما، وطول باعهما، وإتقانهما الفطريَ للسباحة في بحور الخليل.
وبصفتي فلسطينيا، إن لم أجد من يخونني خنت نفسي. هذا أيضا جزء رئيس من مكوناتِ فلسطينيتي. لا حاجة لي بإسخريوطيٍّ أو غير إسخريوطيّ.
لِمَ أقصّ عليكِ كل هذا الهراء؟ لأخبرك كم أفتقدك! كم أنا مشتاق لهوائك وسمرتك ومذاق النبيذ في حضرة بهائك! ليس كما يشتاق فلسطينيٌ سويدي الجنسية إلى اليرموك، فهذا ترف ميتافيزيائي. بل مثلما يشتاق متصوف إلى جلسة ذكر كان ينشد فيها متحداً مع حبيبه:
اترك حديث الهوى … يا قاصر الفهم!
كم مُدّعٍ قد هوى … في أسفل الوهم
واخلع رداء السِّوى … واجنح إلى السَّلم
نحن عرفنا الدوا … من مبدأ العلم
أجل! الذي كان بيننا لم يكن هوىً أو عشقا، هذا قصورٌ معجميّ وكسل فكريّ وعجز عن وصف حالة الاتحاد. لكننا على كل حال أضعناه، ولم نضع وإنْ إعلاناً في جريدة. مثلما أضعنا كثيرا، كأن هذه طبيعة الأشياء، طريقة تعاطينا مع الحياة. لا يولد الفلسطيني فلسطينياً، تلك كذبةٌ أخرى، حتى إنه يولد أقلف.
كل هذا ولا أزال في الحرف الأول من اسم اليرموك الأعظم، الياء، والتي هي بالصدفة آخر حروف الهجاء، إلهة البدايات والنهايات، إلهةٌ بطبعة فلسطينية.