رزان

“رزان“
الجميع يتحدث عنها بسوء، لكنها لم تكن ضحية، أو هكذا بدت لي حينها
هل كنتُ أغار منها؟
لا أعلم
لكنها لعنة الفتاة الجميلة التي سافر والدها وليس لديها أخوةٌ ذكور في البيت
أحياناً كنت أحسد رزان على هذه اللعنة، نعم، ففي مجتمعٍ ذكوريّ ومنغلق كـ (زملكا) يبدو لي من الأفضل ألا يكون لديكِ إخوةٌ شباب، لأنك ستصبحين حربهم وشرفهم وعرضهم الذي يجب أن يصان، وهناك حساباتٌ لكلِ إيماءةٍ قد تقومين بها؛ خيوط العنكبوت التي تقيدك من الداخل والخارج.
يا ويلي..! كيف لي أن أصبح نصف رزان، بل ربعها على الأقل، أريد أن أمشي بحريةٍ مثلها، أن أقول صباح الخير للبائع الشهواني دون أن تعنيني نظراته، أن يأتي صديقي إلى البيت ويُقلّني بسيارته إلى الجامعة، ولكن لكل شيءٍ ضريبة، فالجميع ينعتها بالعاهرة، وكثيراً ما كنت أتنصتُ على أحاديثِ أخي وأصدقائه حول (رزان)؛ كلمة واحدة يسمعونها منها كانت تكفي لقضاء سهرة كاملة في الحديث حول جمالها والكثير من الأكاذيب التي يخلقها خيال أصدقاء أخي عنها، كنت أشعر بالغيرة وألعنها، وجميع الصبايا اللواتي يعشنَ في الحي كنّ كذلك.
أذكرُ عندما قتلَ ثلاثةً من شبانِ الحي في بداية الثورة السورية كيف اجتمع كبار الحارة في زقاق حارتنا كي يدفنوا الشهداء ليلاً حتى لا يؤججوا الوضع مع الأمن، حين احتجت رزان بشكل ووقت لم يكن أحد يتوقعه، هل من المعقول لفتاةٍ تهتم بجمالها إلى هذا الحد وتعتني بأصغر تفصيلٍ يبدأُ من لون حجابها المثير وحتى الخاتم الزمردي في خنصرِ قدمها، أقول هل من المعقول لهذا الجمال أن يحمل كل هذا التمرد؟!، كنت ألمحه في عينيها وهي تصيح بهم:
– (كيف يعني تدفنوهون بالليل، لك هدول شهداءكون ولازم ينعمللهون تشييع، ارفعوا إسم البلد فيهون، هنن ما ماتوا مشان أنتو تجوبنوا، ماتوا كرمال تكونوا أحرار).
أبو سمير الرجل الذي كان يتاجر بكلِ شيء وهو أشبه بكبير الحارة حاول إسكاتها بالمصطلح الأسهل دائماً:
– (فوتي ع بيتك يا حرمة).
لأول مرةٍ في حياتي أسمع شيئاً كان يلسعني في الصميم، هكذا عندما عبَّرت رزان عن غضبها من كلام (أبو سمير)، كلاماً كان يغسل آفات الخوف في رأسي و يحاول أن يظهر الصورة على حقيقتها، نعم … كما قالت رزان، نحن سوف نشارك بالجريمة إن سكتنا عنها، ويكفي ما مر علينا من زمنٍ ونحن نُعَلم أبناءنا مقولة “الحيط الحيط و يا رب السترة”، نحن الذين نتجرأ على الله ولا نتجرأ على رجلِ الأمن، والذين نشكر القائد ألف مرة على نعمة الكهرباء والماء والخبز الذي توفره الدولة، نحن الأبقار النعسة، والخراف الجاهزة للذبح والكائنات التي تسير نائمة وتنامُ مستيقظة، والكثير من الكلام الذي قالته رزان والذي كان أكبر من وعيِ الحاضرين، ولكن الصدمة كانت حين خلعت رزان حجابها أمام الجميع فذكرتني بأيام المدرسة، وبحكاية “بزرجمهر”، وصرخت بهم من فمها الذي كنتُ أحسدها عليه:
- (إنتوا مالكون رجال وهدول الشهدا ما بلبقولكون).
ثم ما لبثت أن هتفت:
“ألله سورية حرية وبس”
” ويا جنة فتحي بوابك.. هالشهدا من أحبابك”
كانت تهتف وحيدة بين خمسينَ رجلاً فالخوف في بداية الثورة كان ما يزال مستوطناً في نفوس الناس والجميع يخشى من (العواينية)، أما رزان التي كانت تشارك في كل مظاهرات المناطق المجاورة فقد تجاوزت حاجز الخوف بمسافاتٍ شاسعة جعلت الجميع يخشى منها، فالعقلية المؤامراتية التي استوطنت نفوس الناس جعلتهم يقولون عنها أنها عميلة للمخابرات وأنها تحاول توريط أبناءهم لكي تكتشف أكثر الأشخاص قابلية للتظاهر في (زملكا) وتخبر عنهم الأمن، و لكن اليوم التالي كان كفيلاً بأن يسقط نظرية المؤامرة عندما اقتحم الأمن بيت رزان وجرها بقسوة إلى السيارة “الجيب” وهي تشتم وتبصق دون أدنى خوف مع أنها تعرضت لصفعات شديدة وكلامٍ يهينُ كرامتها و يتهمها بالعمالة لإسرائيل.
*********
بدأت الانتفاضة تأخذ شكل الثورة الشعبية، ولا زال حيُنا ينعم بخوفه الذي حاولت رزان تفجيره بيأس، وما زالت الاتهامات لها بأنها (مسترجلة وما عندها أهل يضبوها) مستمرة، هذه الاتهامات التي كنت شخصياً أشارك بها ولا أنفك عن تكرارها حتى ينجلي ضميري وأنام هانئة.
لماذا كنا نحمل كل هذا الحقد على فتاةٍ جميلة يمكنها أن تطلب أي شيء فتناله في مجتمعٍ يُقَيِّم المرأة على أساس شكلها؟، هل كان السبب خوفنا الذي نختبئ وراءه ونريد أن نبرره بتحقير الآخر والادعاء بأنه لا يملك أي ضوابط أخلاقية أو دينية؟، من اللاأخلاقي في هذه القضية؟
ذات يوم كنت أستمع لأخي و أصدقائه و هم يتكلمون عن رزان مجدداً، كان هناك حديثٌ عن أن رزان خرجت من “فرع المخابرات الجوية” وأنها تعرضت للاغتصاب، فانتابتني غبطةً مفاجِئة لم أدر معناها، وكان أولُ شيءٍ قفز إلى رأسي أن رزان لن تستطيع الزواج بعد اليوم، فمن سيتزوج من فتاةٍ تعرضت للاغتصاب أو ألصقت بها هكذا تهمة؟، شعرتُ وكأنني تخلصتُ من منافسة قوية للحدِ الذي أصبحتُ به أسيرُ في الحارة وأنا أكثر ثقةً واعتداداً بنفسي علماً أن رزان لم تكن في يومٍ من الأيام تهتم لأحدٍ من شباب الحارة، وأنا متأكدة من أنه لا توجد عائلة ستقبل أن تزوِّج ابنها من رزان، فلماذا هذه السعادة الوقحة التي انتابتني؟، كان خيالي لصيقاً بغشاءِ بكارتي الذي لا زال بخير، وكان على رزان تحديداً أن تتعرض للاغتصاب كي أتأكد من ذلك.
*******
عندما بدأت التظاهرات تجتاح (زملكا) كانت رزان قد غادرت الحي والتحقت مع الثوار في حمص وأصبحنا نعرف أخبارها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وكلما خرجت فيديوهات مصورة من حمص وفيها رزان محمولة على الأكتاف وهي تهتف للحرية كان جميع من في الحي ينتشي لابنة (زملكا) البطلة والحرة و(اللي الله محيي البطن اللي حملها) متناسيين كل الأحقاد والنميمة التي كانت تنال منها.
بدأت الانتفاضة تأخذ شكل الثورة الشعبية، ولا زال حيُنا ينعم بخوفه الذي حاولت رزان تفجيره بيأس، وما زالت الاتهامات لها بأنها (مسترجلة وما عندها أهل يضبوها) مستمرة، هذه الاتهامات التي كنت شخصياً أشارك بها ولا أنفك عن تكرارها حتى ينجلي ضميري وأنام هانئة.
الآن أفهمُ تماماً لماذا كانت رزان لا تتأثر بالكلامِ الذي يدور حولها، كانت قضيتها أكبر من كل الشائعات التي طالتها، ولأنها لم تقف عند أيّ منها فقد استطاعت أن تمضي قُدماً مخلفةً وراءها نفاقنا الذي كان يرتدي في كلِ مرة حلةً جديدة.
آخرُ مرة رأيت بها رزان قبل أن تغادر الحي كان ينتابني الفضولُ لمعرفة ما إذا كانت حقاً قد تعرضت للاغتصاب، لذلك تجرأتُ وسألتها عن الموضوع، لا زلتُ أذكرُ ابتسامتها القوية وهي تجيبني:
“إن كان هذا ما يشغلُ بالُ الجميع في الحي،
نعم، لقد تعرضتُ للاغتصاب، وقد استمتعت به كثيراً”.