ثياب لمناخ معتدل

Alt+ Ctrl+ Delete


شخص واحد يحق له التلفظ بهذا الفعل المقدس: أتذكر. وهذا الشخص قد مات. يؤكد خورخي لويس بورخِس في قصته: ذاكرة فونِس. واختار بورخس لبطله إيرينيو فونس ميتة ملائمة:

احتقان رئوي. يكتظ صدرك، يتورم منك القلب، يتضخم كبدك، ينتفخ طحالك، ثم يعتل دماغك بفعل الذكريات والسموم ــ التي كان يفترض بالكبد أن يخلصك منها ــ إلى أن تنهار.

بورخس نفسه كان ذا ذاكرة مسبوكة من الستانلس ستيل، وكان يتباهى بذلك، ويتذمر. وقد كتب القصة من وحي تجاربه في الأرق المزمن. الذاكرة والأرق إِلْفان غُذِّيا بلبن واحد. فالنوم استسلام للنسيان. ويبدو أن والدتي فعلت ما بوسعها كي تمنحني ذاكرة قوية. فقد أرضعتني حولين كاملين، حرصتْ بعدها على مداومة تغذيتي بحبات زيت السمك التي كانت توزعها ــ مشكورة ومتفضلة ــ الأونروا، ثم قرأتْ في جريدة غير علمية أن الموز طعام الفلاسفة، ومع أني كنت أدرس الطب حينها لا الفلسفة، فقد جعلتْ تحشوني بكميات هائلة منه. لدي وحدي من الذكريات أكثر مما لدى البشر كافة منذ أن صار العالَم عالَما. كذا قال إيرينيو فونس. تصبح اللعنة لعنتين إذ يكتشف علماء في جامعة تكساس أن محاولتك نسيان شيء ما تتطلب بذل مجهود عقلي أكثر من محاولة تذكره. ليس من السهل إذن هذا النسيان المتعمد، قمع الذاكرة، إعادة توجيه الانتباه بعيداً عن الذكريات غير المرغوب بها. حتى لو تحوّلتَ بتأثير تعويذةٍ أو سحر أو دعاء مستجاب أو كرامة صوفية إلى سمكة:

السمكة إحدى تجسدات الإله الهندوسي فيشنو. وعندما بنى مانو سفينته الممتلئة بممثلي الكائنات الحية، ربطها إلى سمكة عملاقة سبق له أن رباها صغيرة ومنحها الحياة. وتقاسمت سمكتان أعضاء أوزيريس الذي قتله وقطّعه شقيقه سِتْ، فصارتا رمزاً للقيامة. وكان السمك رمزاً للخصوبة، لسهولة تكاثره ويسر تربيته. وفي أحد النصوص السنسكريتية يتحدث إله الحب عن “ذلك الذي رمزه السمكة” قاصدا بذلك القضيب. وفي نافذة زجاجية، من القرن الثالث عشر، في الرواق الجنوبي لكاتدرائية “نوتردام دو لوزان”، تُلقم العذراء ثديها الأيمن لسمكة. وسبق لفتى موسى أن نسي حوتهما عند مَجْمَع البحرين، وكانت تلك علامة اجتماعه بالعبد الصالح. ونجا يونس في بطن حوت، أما في الرواية التي تعتزم كتابتها، فيهرب محيي الدين بن عربي من سجنه ممتطياً ظهر سمكة. لكن العلم يحطم أسطورة الثواني الثلاثة التي تدومها ذاكرة السمكة، حتى تلك التي تعيش في حوض للزينة مزودٍ بمضخة أكسجين ومصدر للإنارة، إذ بوسعها استدعاء ذكريات مرَّ عليها خمسة أشهر. ثم إن التفكير يتطلب التعميم والتجريد، لكن ذهناً مثل ذهنك مليئاً بالتفاصيل لا مكان فيه لمثل هذا الترف. لذا فأنت تتذكر فحسب. ولذاكرتك خصائص بُوميّة أو خفاشيّة، فهي تستيقظ بمجرد أن يُرخي الليل سدوله، لتكون عاملاً إضافياً يُحفزك وينمي موهبتك في ممارسة الأرق.


ويبدو أن والدتي فعلت ما بوسعها كي تمنحني ذاكرة قوية. فقد أرضعتني حولين كاملين، حرصتْ بعدها على مداومة تغذيتي بحبات زيت السمك التي كانت توزعها ــ مشكورة ومتفضلة ــ الأونروا

“ما لا يمكنك تذكره لا يمكنك نسيانه”. أذكر أن أخي أقنعني يومها بمنطقية هذه القاعدة، لكنها لم تنجح معي، ولا معه على ما يبدو. فهو لا يفتأ يذكر خبز العدس، ورجل العصفورة، وشُحَّ الدواء، ووجبةَ الغداء المكونةَ من ثلاث ملاعق من الرز، وافتراقَه عن أمه، وطابورَ انتظار السلة الغذائية تحت مطر الرصاص وقذائف الهاون، ومدفأةَ الحطب التي لا تُغنِي من برد، والشايَ غير المُحلَّى، والسنين التي ضاعت، والنومَ بمعدة فارغة وأمعاء تعوي وتنبح وتصرخ وتعَض، وحجمَ الخسائر التي تعرض لها، وعبثيةَ كل ذلك الصمود، والسوادَ الحقيقي والمجازي الذي خيّم على مخيم اليرموك لسنوات، وتخلِّيَ الأقربين والأبعدين، ومن مات جوعاً أو بَرْمَلةً أو غِيلة أو بسبب شبه انعدام الرعاية الصحية وسائر تداعيات الحصار وإنجازاته التي لا ينكرها غير جاحد.

كان بورخس في فندق ما يعاني التذكر لما خطرت بباله فكرة تلك القصة. ربما وجد في الكتابة آليةً للنسيان، إلقاءً لحمولته من الذكريات والأرق. لكن هذه الحيلة لا تجدي معك. تشبه الذاكرة دودة علق، أو كائناً طفيلياً وجد فيك عائلاً مثالياً، وها هي ذي ترسخ وتستوطن وتتكاثر وتنفث ذيفانتها كما يجدر بأي عامل ممرض. وهي إلى ذلك، أو بسبب ذلك، مُعْدِية. تشبه الثُؤباء. تثاءب عمرو إذ تثاءب خالد. صرتَ تتجنب اللقاء أو الحديث مع من شاطرك تجربة الحصار، لأن الذكريات ستكون سيدة الجلسة وعروسَها الحسناء. في رائعة أنطوان دو سانت إكزيبري “الأمير الصغير” يلتقي أميرنا على أحد الكواكب بمدمن خمر لا يصحو. لماذا تسكر؟ يسأله. كي أنسى. تنسى ماذا؟ أنني مدمن. تبدو فكرة معقولة، ما عجزتْ عنه الأسماك والكتابة وضربة على الرأس والاغتسال بالماء البارد شتاءً قد يفلح فيه الكحول. كتب محمود درويش “ذاكرة للنسيان”، مصيرٌ خليقٌ بذاكرتك. النسيان! ما أحوجك إليه! منه، وَفق بعض اللغويين، سُمّي الإنسان إنسانا. إنسانيتك منقوصة إذن ما دمتَ تتمتع وتستمتع بصحبة بورخس أو إيرينيو فونس. سيكون من البديع فرمتةُ الدماغ مثل حاسوبك. تبدأ بدماغ جديدٍ، طفلٍ، ناصعٍ، اللوحِ أو الصفحة البيضاء التي نظّر لها الفيلسوف الإنجليزي جون لوك.

أيُعقل أنه ليس لديك ذكريات جميلة من السنوات التي خلت؟ بلى! لكن إنْ كان المثل الألماني يُصرّ أن الأنف الطويل لا يشوه الوجه الجميل، فأنا أصرّ أن الأنف البارع المتقن لا يُجمِّل الوجه القبيح. كما أنها، في أحسن أحوالها، ذكرياتٌ مَشوبة بالألم، ناهيك بضآلة نسبتها المئوية. تمنعك الذاكرة ليس من النوم فحسب، بل من التخطيط ليوم غد. أستغفر الله، بل من التخطيط لمستقبل لا يبعد أكثر من بضع ساعات: ماذا نأكل اليوم على الغداء؟ فكيف بك ترسم مصيرك في الذي تبقى من عمرك؟ الرضاعة حولين كاملين، ثم حبات زيت السمك، ثم الموز، وها أنت منذ ما يناهز العام مقيمٌ قرب الحدود التركية. أوّاه! لا يزال المشوار طويلا. هل تزوجت؟ أو: هلّا تزوجت؟ عزوفك عنه هو القرار الوحيد الصحيح الذي اتخذتَه في حياة ملأى بالإكراهات والارتجالات والتخبيصات. ثم كما قال مالك بن دينار لما سئل السؤال نفسه: لو استطعتُ لطلقتُ نفسي.

تشبه الذاكرة سرطانا ينهش في خلاياك العصبية. في زمان كالذي تعيش فيه، أرضٍ كالتي أسقطتك السماء عليها، تكون الذاكرة لعنة سلطها عليك مثلا أحد سحرة الفودو، أو بلاءً يمتحنك به الرب، أو عقوبةً على ذنوبك في حيواتك السابقة، أو أيَّ شيء آخر عدا هِبة ومحلٍ للتباهي واستعراضٍ لقوة دماغك وفرادته. كم سيكون بديعاً أن تبدأ بدماغٍ جديدٍ، طفلٍ، ناصعٍ، صفحةٍ بيضاء كما يرى جون لوك، حتى لو نسيتَ ــ فيما نسيتَ ــ اسمَك، والمرةَ الأولى التي أحببتَ فيها، والعلاجَ الثلاثي للقرحة المَعِدِيَّة.

*اللوحة للفنانة الكاتبة زكية بلحسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ستة عشر − 8 =

زر الذهاب إلى الأعلى