قصة

سأخون… وطني

لم تكن الحربُ هي البداية، لينشبَ اليأس أظافره اليابسة في جسدِ “أحمد السوري”، فمنذ ثلاثين عامًا، والحال على حالهِ، الغرفةُ الضيقةُ الرطبة أسفل الدرج،

الغرفة البيت، التي من جدرانٍ شغلتها صور محمود درويش ومحمد الماغوط ورياض الصالح الحسين وأسماك يوسف عبد لكي، كما يشغلها الحزنُ والوحدة، ونافذة كوّة، تطل على الصفيح المعدن إذ لا سماءَ قصيرة تشد الحلمَ من يديهِ النحيلتين.

لم تكن الحرب هي البداية، كانت الأرصفة وليالي الشتاء الطويلة التي قضاها ملتوياً على جسده تحت الأضواء الخافتة، والبرد الذي ينخر عظامه حتى النخاع.

أحمد السوري كاتبٌ من “هنا” أمطره الفقرُ بوابلٍ من حجارةِ القدر، ولم تكن كتاباته سوى مشاهداتٍ ألِفها، أبطالها التشرد والجوع والحنين والفقد، هكذا انقاد بكليّته ليحيك من كآبتهِ قماشةً من ورق، تسردُ المشهد السوري بعربيته الموغلة في الاستبداد، القهر، التزييف، وكان السؤال الأول الذي يشغل باله:

“هل سيقتلني العربُ إذا ما أحببتُ في الضوء، كتبت الشعر في الضوء، إذا ما وضعت إصبع الاتهام في عين السجان وقلت له “لا” أيضاً في الضوء؟”


نظر أحمد السوري بعينين أطفأ الظلام عنهما الضوء نهاراً كاملاً، فرأى أن الناس في الشارع يمشون ويبتاعون كأن شيئاً لم يكن، رأى أيضاً عدداً من الأطفال يتسلقون برميل القمامة الذي ينبثق من المشهد، يستجدون منه ما يأكلون، أو ما يعودون به إلى منازلهم (إن كان ثمة منازل لأمثالهم).
أبعده المحقق عن النافذة..
ـ أرأيت؟ شعبنا سعيد
ـ ورأيت أيضاً أطفالاً يأكلون القمامة

كانت الأسئلة مفتاحاً لأقفال ذاكرته، يسردها على الورق السري في غرفته السرية، الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، من الرملِ إلى البحر، من الجنوب إلى الشمال، من الأرصفةِ إلى العشوائيات التي تختبئ الجريمة في أوكارها، إلى فعل الحب المهدور سِفاحاً خلف الأٍسوار، إلى السجونِ التي تشير بقضبانها كالأعينِ للعورات النبيلة.

جميعها أسئلة بدأ أحمد السوري في تشريعها كتابةً في الجرائدِ التي يقول عنها أهل الساسة إنها يسارية، جميعها أسئلة تبدأ برغيف الخبز المعجون بالدماء، وصولاً إلى الأمل بالخلاص، كحلمٍ يتسرب من نافذةِ إيّ عربي يريد لأناه حيّزًا في هذا العدم.

في غرفتهِ الصغيرة، كان أحمد يكتب ما يخاف أن يقول، بإسهابٍ حُرّ لا يحدّه سوى كدماتِ الواقع.

تسربت كتاباته بين الصحف والجرائدِ كما يتسربُ الرمل بين الأصابع، وأصبحت مرجعًا للقارئ العربي على حد سواء، إذ لا بد لليائسِ من نافذة يستعير منها خيط الأمل ليرتقَ أيامه السوداء، وهكذا أصبح أحمد السوري مطلباَ شعبيًا، وحديث العابرين والقارئين، فاقترن اسمه بالكوميديا السوداء؛ إذ كان ساخرًا من الموت والحياة، الحرية والعبودية، الطاغية والضحية، السجان والسجين، بقالبٍ أدبي تغرق صفحاته بالأدب الأصفر، الذي يزيل عن الأعين غشاوتها وعن الأفئدة عتمتها.

من غرفته، بينما يغرق بين أوراقه، سمع وقع أقدامهم، هو يعرفها جيدًا، من ثقلها في وضح النهار، أو خفتها في عمق الليل، طرقوا الباب بما يملكون من سطوةِ الوحوش في الغابة السورية، دخلوا عنوةً، ثمّ أنهم لم يسألوه عن شيء، وضعوا على رأسه كيسًا أسود، كمموا فمه، أخذوا بعض كتبه المشبوهة سرّاً في تفاصيل عناوينها، ورموه في صندوق السيارة الحديدي، حيث المعدن يلفظ رائحة الأجساد البشرية التي حملها قبله، قبل أحمد السوري.

المكان ضيق، وكأن الأماكن الضيقة نصيبي المكفول من وجودٍ غير مكفول، إلا أن غرفتي ـ هناك أسفل الدرج في حي العمارة الدمشقي ـ أقلّ رطوبة وأكثر دفئاً، حدّث أحمد السوري نفسه بصمتٍ شاحب، نظر حوله بعينين متفحصتين وكأنه يحاول استجداء الجدران، نظر إلى يديه وقدميه المصفدتين بأقفالٍ من حديد؛ لكنّ الغرفة مقفلة أيضًا، ممّ يخاف السجان إذاً، لماذا يصر على لغةِ المعدن التي من لسان القيد؟ يتساءل أحمد، ثم يتكور على جسده كما كان يفعلُ قبلَ أن يصبح كاتبًا أسفل المصابيح الباردة، يتكور وينحسر ويتمدد ويتجسد ويتلاشى، يقفُ، يمشي بعجز جهة النافذة القصيرة في الباب المعدني، نافذة بقضيبين حديديين، يصرخُ بكل ما أوتي من فراغ، يركضُ في سجنه وكأنه يركض في وحدته، يمسك رأسه بين يديه، ثم يسقطُ من هولِ العتمة:

(ستوقظه الأقدام ذاتها، تلك التي داست على كل الكلمات الهاربة من فمه منذ عبورها أحياء دمشق القديمة وصولاً إلى غرفته في حي العمارة الشعبيّ)

سيفتحون الباب ويضعون على عينيه عصبةً سوداء لتكملَ العتمةُ دائرتها الأشد في رسم المشهد، سواداً لا يُرى:

“قوم ولا عرصا” قال أحدهم ثم شده كشاةٍ من عنقه بينما ضحك الآخر باسترسالٍ، النفق المؤدي إلى غرفة التحقيق أيضاً معتم؛ هي لكنة السواد المحكمة التي يلفظها لسان السجنِ بأحرفٍ محكمة.

نزل منقاداً بكله أدراجاً كثيرةً ثم صعد أدراجاً أخرى بتقييمِ من السجان في لعبة التضليل التي تؤدي إلى غرفة المحقق.

كان المحقق جالساً على كرسيه الخشبي، خلفه صورة الأخ الأكبر تحرس الجدران من الحقيقة!

رُمي أحمد السوري بقيودهِ على ركبتيه المنهزمتين، “قف” جاءه صوت المحقق الممهور بالسلطة، حاول أحمد الوقوف مستندًا بيديه إلى الطاولة..

“اسمك” قال المحقق

ـ أحمد

ـ ويلقبك قراؤك بأحمد السوري

ـ تعرفون كل شيء وتسألون، أجاب أحمد بلكنةٍ ساخرة

ـ جميلٌ أنك تعرف أننا نعرف كل شيء، فنحن الحقيقة، قال المحقق بثقة العارف

ـ ونحن السراب الذي تلاحقونه في هذه الصحراء العربية

ـ لو كنت سراباً لما أمسكنا بك، أنت أيضاً حقيقة

صمت أحمد السوري للحظات سمع خلالها صوت الولاعة يشعل المحقق بها سيجارته.

ـ أتدخن؟ قال المحقق

ـ لا، قلتَ أنني حقيقة أيضاً، لا أفهمك

ـ قصدت أنك واضح كالحقيقة، أمثالك لا يغشون أبصارنا

ـ وما هي تهمتي؟

ـ أنك عربي

ـ ومنذ متى والعروبة تهمة؟ أجاب أحمد بلسانٍ ثقيل كجبل

ـ مذ ظنوا أنهم أحرار

ـ ربما ظننتم أنتم أنهم عبيد

ضرب المحقق الطاولة بكفه ضربة اهتزت لها جدران الغرفة ثم قال بصوت رخيم يبتلع نصف المعنى:

ـ سأجعلك ترى بعينك

اقترب منه وفكّ عن عينيه العصبة السوداء، وقاده من يده جهة النافذة الوحيدة؛ أزاح عنها الستارة، وقال:

ـ أنظر

نظر أحمد السوري بعينين أطفأ الظلام عنهما الضوء نهاراً كاملاً، فرأى أن الناس في الشارع يمشون ويبتاعون كأن شيئاً لم يكن، رأى أيضاً عدداً من الأطفال يتسلقون برميل القمامة الذي ينبثق من المشهد، يستجدون منه ما يأكلون، أو ما يعودون به إلى منازلهم (إن كان ثمة منازل لأمثالهم).

أبعده المحقق عن النافذة..

ـ أرأيت؟ شعبنا سعيد

ـ ورأيت أيضاً أطفالاً يأكلون القمامة

ـ هم أيضاً أحرار، نحن طيبين لا نتدخل في شؤون أحد.

ضحك المحقق كدمية تحركها حبال الأخ الأكبر

ـ ولمَ أنا هنا “تساءل أحمد”

ـ كتاباتك تثير اليأس في نفوس الشعب، وتوهن شعور الأمة

أراد أحمد أن يضحك لكن دمعة هائلة اختنقت في حنجرته.

ربت المحقق على كتفيه بينما اجترح صوت أحمد الهواء المخنوق في الغرفة.

ـ سمعت في الزنزانة التي جواري صوت أناس يصرخون

ـ ظنوا أنهم أحرار أكثر من غيرهم، مثلك تماماً،

ـ والآن؟

ـ الآن سأسألك سؤالاً واحداً لا غير، ماذا ستفعل إن أطلقنا سراحك؟

نظر أحمد السوري جهة الشرق حيث النافذة، تنفس ببطءٍ شديد وقال دون ترددٍ:

ـ سأخونُ وطني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

10 − سبعة =

زر الذهاب إلى الأعلى