ثياب لمناخ معتدل

خزامى


سئل سوريّ: ما حدُّ الحرية؟ فأجاب: ما ترون.

وقيل لأم ٍّ: أي أبنائك أحبُّ إليك؟ فقالت: لاجئهم حتى يعود، ومعتقَلهم حتى يُحرَّر، وقتيلهم حتى يُبعث من ركام البيت حيا.
وكتبتْ عشيقة إلى عشيقها: كل ما أشتهيه هو أن تمسكني من يدي تحت وابل من القذائف، وأنت تشتُم العالم بكل ما آتاك قاموس البذاءة من بلاغة.
وشوهد طفل يبحث في أكياس القمامة، فقال شاعر: أعجزتُ أن أكون مثل هذا العبقري؟
وقال متصوف للحق: أرِني أنظرْ إليك! فقال له الحق: ومتى كنتُ محتجبا عنك؟ فقال: مذ أجاءني الجوع إلى قافلة المساعدات.
وحاولت طفلة رسم قوس قزح، لكن الشتاء كان له رأي آخر.
وأراد فقير تهجئة كلمة “وطن”، فلم تسعفه الأبجدية.
وخطب الحسين في جمع غفير: بياناتهم معك، وقاذفاتهم عليك، وهناك من يذبحك باسمي، وهو يذبحني بسيف أبي.
وسئلتُ مرة: ما نظريتك في الأخلاق؟ وبدا السؤال ممعنا في الترف والاستهتار، خاصة والسائلة تعيش في بلد خليجي، والمسؤول محاصَر يتضور جوعا. ثم إن الأخلاق تتغير في الظروف الحدية، أو بتعبير أدق: تتكشف نسبويتها. فيصبح من الواجب مثلا أن تزوج ابنتك فور بلوغها، ومن المندوب أن تغير ولاءك كل ربع ساعة، ومن المباح أن تقتل أحدهم من أجل نصف كيلو رز، ومن المكروه ألا تسطو على أثاث جارك جاعلا منه حطبا للشتاء، ومن الحرام أن تفكر بغيرك أو يفكر غيرك بك. ومادمنا استخدمنا مصطلحات فقهية، ولأن الشيء بالشيء يذكر، فقد أحببتَ مرة أن تكون لك مساهمتك الخاصة في هذا المجال، بعيدا عما يروج له فقهاء السلطان (الذين أجاد عبد الرحمن الكواكبي بتسميتهم: فقهاء الاستبداد) وفقهاء الخوارج الذين لا يعرفون من السوائل غير الدم، ومن الألوان غير الأسود: قائمة قصيرة من القواعد التي ليس لها عراقة شريعة حمورابي، ولا الدقة الرياضياتية لقوانين الفيزياء، ولا جمال الدساتير العربية. وصحيح أنك استقرأتها من تجربتك المحدودة التي لا تتجاوز بضع سنين من الجوع والمرض والموت والرعب في مخيم اليرموك، لكن صديقا لك متعمقا في الفقه واللغة والمعاناة أكد لك أنها قابلة للتعميم في جميع رحاب بلد الأمن والأمان. كما أنها صيغت بحيث تجانس وتستلهم قواعد فقهية شهيرة ما يجعل حفظها أسهل، وتطبيقها الفوري ممكنا دونما حاجة لإعمال دماغك:


وقال متصوف للحق: أرِني أنظرْ إليك! فقال له الحق: ومتى كنتُ محتجبا عنك؟ فقال: مذ أجاءني الجوع إلى قافلة المساعدات.

  • الهروب خيانة، والبقاء خطيئة، ومن جاء بأفضل من قولنا قتلناه.
  • العبرة بعموم الجُرم لا بخصوص المجرم.
  • كل إنسان متهم حتى تثبت براءته، أو انتسابه.
  • السلام على المنتسب، والحرب على من أنكر.
  • لا يُنكر تبدل الأقوال بتغير الأحوال.
  • حزّ الرؤوس مقدَّم على إحياء النفوس.
  • عند الحاجز، يهان المرء أو يُعتقل.
  • الطائفية هي الحل.
  • لا كرامة لمستوطن في وطنه.
  • لا تقل: “لا!” حتى في تشهدك.
  • أشكل المشكلات تأمين الخبز.
  • إذا جاءكم من ترهبون سلاحه فزوّجوه.
  • الأبعدون أولى بالمعروف.
  • بِكرك ثيّبٌ حتى تتزوج، وأمّ حتى تنجب، وطفلة حين تموت.
  • الضرورات تبيح الدماء.
  • من لا وليَّ فقيها له فوليُّه الشيطان.

وكنتَ تود الاستمرار، لكن في تلك اللحظة تحديدا، أفلت الثور المهتاج، والماتادور منهمك في فض بكارة إحدى الحور العين الدنيويات ممن لا يشف عظمهن عن مخه، وليس للواحدة منهن إلا فرْج واحد.
من قال إن البراميل صُنعت لتكون أصائص للزريعة؟ خزاناتٍ للنفط؟ مُعتِّقات لنبيذ مُز؟ منصات يقف عليها طفل قصير القامة ليستشرف مستقبله؟ هراء، ترف برجوازي، أخلاق زمن الاستهلاك.. وظيفتها أن تهبط بجلال ديني: “هاليلويا” لتسوي بالأرض مباني آيلة للسقوط على أي حال، مُجْهزةً على ما شاءت من أثاث وكتب ونباتات وحيوانات ضالة، من بينها بالطبع ذلك النوع المحظوظ الذي نكونه.
بدا من الأنسب إذن، أن تقوم بجولة معجمية تشرح لك كُنْه هذا الكائن، مزودة إياك باقتباسات تحيطك أكثر بصفاته وتجلياته:

  • “البرميل طفل وديع مكتنز تلقي به من جو السماء لقالق روسية الصنع “.
    أبو عثمان المازني، التحفة الغنية في معاني حروف العربية.
  • “القلوب معك، والبراميل عليك، والحاجز مغلق حتى إشعار آخر”.
    الفرزدق مخاطبا اليرموك
  • “فيا سيوف خذيني!
    فأخذه برميل على حين غفلة من العالم المتمدن”.
    من سيرة الحسين رحمه الله
  • “يقال: ما الإنسان؟ والجواب: هو حي ناطق مائت: فالحي دلالة على الحس والنطق والحركة، والناطق دلالة على العقل والروية، والمائت دلالة على فنائه ببرميل”.
    أبو حيان التوحيدي، المقابسات
  • “تجري الأحداث في برميل محشو بالمتفجرات والحيوات البريئة، ينكر رئيس البلدية وجوده. لكن الفلسفة تعلمنا أن للأشياء وجودها الموضوعي المستقل عن الذوات المدركة، تحديدا حين تؤدي هذه الأشياء إلى سحق هذه الذوات…”.
    من نقد لمسرحية صامويل بيكيت The Endgame
  • “البرميل الذي لا يقتلك، يهدم بيتك”.
    فردرش نيتشه، أصل الأخلاق وفصلها.

وكان بوسعي، بل بوسع المعجم، الاستمرار طويلا طويلا لولا أن الزمن انتهى. هو لم ينته في واقع الأمر، إنما لم يكن موجودا من الأساس. كذا يُصر كثير من الفيزيائيين. ولعل هذا يفسر كيف حاولنا مرارا تجميد ليلة جميلة، أو تخثير لحظة سعيدة، إكسابَها أبعاد الدهر نفسه، بحثا عن الخلود ربما، أو هرباً من كل ظرف لِما يُستقبل من الزمان; وكانت كل محاولاتنا تذهب أدراج الرياح وقذائف الهاون. الزمن غير موجود! وما الذي يوجد؟ الحركة. كثيرا ما كنا ضحية الملكة الحمراء في قصة ألس في بلاد العجائب: نجري ونجري ونجري ونظل في مكاننا، بعد هذه المعلومة صرنا نتقهقر في أكثر الأحيان.
إن كنتَ مثلي، خمجت منك الروح، ونما العفن على جسدك، وفسد ملحك، وأنت تنتظر شيئا ما، شيئا لن يأتي، أو هو أبعد من المدى المجدي لقدرتك على الانتظار، فهذا يرجح أنك مثلي تعيش هنا، وهذا يرجح أن يكون لك موقف غير اعتيادي من كلام مثل هذا:
“رميتُ هذا الشيء الصغير جدا
الذي يسمونه أنا
وأصبحتُ العالم الفسيح”
خرقاء هي الطبيعة حين تريد منك أن تكون سويّا، فيما تحيطك بكل أسباب الجنون.

حاشية:
تفيد الخُزامى، عبر شربها شاياً أو من خلال زيوتها، في تخفيف القلق وعلاج الإنتانات الفطرية والحد من تساقط الشعر. الأهم من ذلك، أنها تُسرّع من التئام الجروح.

اللوحة للفنانة الكاتبة

زكية بلحساوية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

10 + 16 =

زر الذهاب إلى الأعلى