Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
ثياب لمناخ معتدلذاكرة طبيب

حسناء اليرموك التي فتكتْ بعاشقيها

مثلما لا يمكن الحديث عن الحب حق الحديث دون زاد من الشعر، كذلك لا يمكنك إلا أن تقع في غرام هذه الجميلة: بعينيها السوداوين كأصباح اليرموك ولياليه، وشعرها الأحمر المجدول كالخط الكوفي المضفر، وليونة جسدها وانسيابه وهي تسبح في أحشائك مثل سمكة سلمون.

“لي حبيب حبه وسط الحشا” لكن هذا شعر الحلاج، تصوفه، تعبيره المجازي عن حلول الذات الإلهية فيه. أما هي، حسناؤنا، فتفعل ذلك حرفيا وحقيقة. ومن أعراض الوقوع في شباكها، مثل أي مبتلى بالعشق، أنك تصاب بالحمى والهذيان. ومن تجليات إخلاصها/خيانتها أنها لا تبادل الغرام إلا ذلك النوع المحظوظ الذي نكونه نحن.

ولا تحسبنْ هنداً لها الغدر وحدها ….. سجية نفس، كل غانية هند

وكان أن سمى العلماء هذه الغانية، وكل العلماء شعراء بحكم المهنة: السالمونيلا التيفية، وهي الجرثومة التي تسبب التيفوئيد.

تزامنت شيخوخة العالم والطبيب الألماني رودلف فيرشوف مع حدثين مثيرين: تفشي مرض التيفوئيد في عام 1847 واندلاع ثورات عام 1848 الفاشلة. من هذين الحدثين استخلص فيرشوف نتيجتين مهمتين: الأولى تشير إلى أن ثمة علاقة متينة بين انتشار الأمراض وظروف الحياة الصعبة، والثانية تؤكد أن من بيدهم القوة يمتلكون وسائل فعالة لقهرِ من لا حولَ لهم ولا قوة.

وسواء كان التاريخ يعيد نفسه بشكل مأساة، أو ملهاة، أو مسرحية عبثية كتبها أوجين أونيسكو، أو نقد مابعدحداثوي لا تفهم منه شيئا، أو مصداقا لقول العرب: ما أشبه الليلة بالبارحة! فإن هذا ما حدث معنا في مخيم اليرموك في ربيع وصيف عام 2015: كان الثوار الذين حرروا ستين أو سبعين أو مئة وعشرين بالمئة من الأراضي السورية يتراجعون ويقتتلون فيما بينهم، واجتاحت السالمونيلا سكان اليرموك الجائع المحاصر المنسي المريض الواقع في الحر والحب والحرب.

دخل “جمال” إلى عيادتي في المجمع الطبي الخيري متعرقا، محموما، مهتاجا، مألوم البطن. شيء واحد ربما منعه من ضربه إياي: معرفة تجمعنا. أين أنت يا رجل؟ سألني. ثم بدأ يخلط في كلامه ويقول جُملا لا رابط بينها (كان اليرموك بحاجة إلى سبعين نسخة من سيجموند فرويد، لكن لهذا حديث آخر). فهذه الحسناء لا يشبعها أن تخترق أمعاءك، ولا يكفيها أن تنتشر في دمك، ولا يرضيها أن تعشش في كبدك (في المرارة بشكل أدق)، ولا يقنعها أن تستوطن طويلا في مخ عظامك فحسب: فالغرام الجدير بهذا الاسم يحدث اعتلالا في الدماغ. ستصاب بالهياج، والتخليط الذهني، والهذيان. وإن كنت محظوظا بما يكفي ستقع فريسة شيء يسميه الأطباء، وأكثر الأطباء شعراء بحكم الضرورة: الغيبوبة السَهَرية، حيث تفقد وعيك لكنك تبقى مفتوح العينين: من ذا الغبي الذي يريد أن يفوِّت على باصرته كل هذا الجمال الذي يكتنف العالم؟

من هذين الحدثين استخلص فيرشوف نتيجتين مهمتين: الأولى تشير إلى أن ثمة علاقة متينة بين انتشار الأمراض وظروف الحياة الصعبة، والثانية تؤكد أن من بيدهم القوة يمتلكون وسائل فعالة لقهرِ من لا حولَ لهم ولا قوة.

في أول أربعة أشهر، تم توثيق أربع وتسعين إصابة بالتيفوئيد في مكان يقطنه بضعة آلاف (في الولايات المتحدة مثلا، ذات 330 مليون نسمة، تُشخّص مئتا حالة سنويا. لكن تلك أمريكا!). ربما هذا ما يسمونه وباء، إذ لا أذكر جيدا التعريف الذي أتحفتنا به مادة الإحصاء الطبي في كلية الطب. والسالمونيلا، لإخلاصها وخيانتها المذكورتين آنفا، تعشق للغاية الانتقال من خليل إلى خليل. ولعلها هي من قصدها الشاعر بقوله:

إني رأيتك في الهوى ذواقة ….. لا تصبرين على طعام واحد

ثم تفاقم الأمر، صار هناك كل يوم ما لا يقل عن خمس إصابات جديدة بالتيفوئيد، ومضاعفات هذا المرض خطرة وقاتلة. أين كانت المشكلة؟ هنا علي الاستعانة بالطبيب الكندي وأحد مشاهير أساتذة الطب في القرن التاسع عشر وليم أوسلر: “إن أخطر أعداء البشرية هم المجاعة والحمى والحروب، ومن بين هؤلاء لا شك أن الحمى هي الأخطر”.

كان الثوار الذين حرروا ستين أو سبعين أو مئة وعشرين بالمئة من الأراضي السورية يتراجعون ويقتتلون فيما بينهم، واجتاحت السالمونيلا سكان اليرموك الجائع المحاصر المنسي المريض الواقع في الحر والحب والحرب.

أتفهم أستاذنا أوسلر تمام التفهم. ربما كانت الحمى في زمانه هي أشد أعداء البشرية، فلم تكن المضادات الحيوية قد اكتُشِفت بعد. في اليرموك، اجتمع أعداء أوسلر الثلاثة. في اليرموك، من حيث الزمان، كان الطب اكتشف واخترع وطور عددا هائلا من المضادات الحيوية. في اليرموك، من حيث المكان، لم يكن يوجد شيء منها تقريبا. كان الماء ملوثا، المجاعة أنهكت الأجساد التي لم تمُتْ وأضعفتْ مناعتها، وأي طب هذا هو الذي يشخص الأمراض دون علاجها؟ “على الطبيب في حالات الأمراض السارية أن يلتزم باتباع التنظيمات الصحية والموضوعة لذلك، بما في ذلك الإبلاغ عن هذه الحالات للجهة المختصة واتخاذ ما يلزم من إجراءات.” كذا تنص إحدى مواد الميثاق العالمي للأخلاق الطبية والصحية. كان أن نظمنا حملة عنوانها: “ثقل الداء ولا دواء”، وتوجهتُ بنداء عبر وسائل الإعلام إلى المنظمات الطبية والإنسانية والممثلة للشعب العربي الفلسطيني (أستطيع استشعار السخرية في الكلمات السابقة، لكن ما العمل؟) تحدثتُ فيها عما يستبيحنا من أمراض سارية ومزمنة، عن الشح الدوائي الشديد، عن ظروف التصحُّح التي في أسوأ حالاتها، عن نقص (نقص!) الكادر الطبي المتخصص. أقمنا محاضرات توعوية صحية لأهلنا في اليرموك. وفي الفاتح من سبتمبر ــ ما أحسن هذه الكناية! ــ اعتصمنا أمام المجمع الطبي الخيري تتويجا للحملة. وكانت النتيجة أننا تمكنا من إدخال كمية من الأدوية ــ لا يحتاج إسحق نيوتن في حساب مقدارها إلى معادلات التفاضل والتكامل ــ عالجتْ من عالجتْ، وأنقذتْ من المضاعفات من أنقذتْ، ولطّفتْ من الأعراض لدى بعضهم. لكنها طبعا لم تستأصل المرض، وما كان لها أن تفعل ذلك. فسكان المخيم صاروا بمعظهم حاملين للمرض، محتضنين للسالمونيلا التيفية في أكبادهم (مراراتهم بشكل أدق) وكنا بحاجة لقدوم ربيع عام 2016 كي نرصد أول إصابة بالتيفوئيد، وندخل في الدوامة ذاتها، لعنة العود الأبدي.

ولي كبد مقروحة من يبيعني ….. بها كبدا ليست بذات قروح؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عشرين − إحدى عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى