ثياب لمناخ معتدلذاكرة طبيب

كانت الساعة ضَبْط السابعة

تُظهر الصورة المرفقة أداةً تكنولوجية متقدمة تعود إلى عصر الخشب. يسميها بعضهم لسبب ما أجهله: خافض اللسان. ويستخدمها الأطباء المترفون لفحص حلوق المرضى بغرض تشخيص مرض تافه ينتشر شتاء من قبيل تقيح اللوزتين، كما يمكن إعادة تدويرها لتصبح وقودا في مدافئ الحطب.

هناك فصيل فلسطيني سبق له ودوّخ الدنيا بعمليات خطف الطائرات، وثانٍ طوش سمانا وهو يمن علينا بطلقته الأولى وقيادته الثورة، وثالثٌ طوّر صواريخ واخترق هواتف الجنود الصهاينة، ورابع يفخر بانتمائه للكادحين والمعترين ناهيكم بعراقته في الديمقراطية الشعبية، وخامس وسادس وسابع ورابع عشر… (ولأغلبهم ممثلون “هنا”) لكنهم، أيضا لسبب ما أجهله، عاجزون عن تزويد من تبقى من أبناء “عاصمتنا في الشتات” بهذا المنتج باهظ الثمن عالي الخطورة الإرهابية.

لكن لم التنطع أيها الطبيب؟ استخدم أي شيء آخر، يد ملعقة مثلا، أو اكتب وصفتك الطبية دون حاجة لبدعة التشخيص، خاصة وكل بدعة ضلالة.

عرفتُ “جهاد” فور ولادته أواخر 2013، وتبين فيما بعد أنه مصاب بفقر الدم المنجلي. في الحالة الطبيعية، أي حين تكون إنسانا سويا في عالم سوي، تكون كريات دمك الحمراء مستديرة، مرنة، تتحرك بسهولة في أوعيتك. في هذا الداء، تصبح صلبة، لَصوقة، تشبه المنجل على الراية الحمراء، أو هلال أعيادنا وشهورنا المباركة. الأمر الذي يجعلها تعلق وتسد أوعيتك الدموية الصغيرة حارمة إياها من الأكسجين (في اليرموك، لم يكن ينقصنا إلا أن ينقطع الهواء عنا حتى نبلغ النيرفانا). ولأنه ما من علاج إلى الآن لهذا المرض المورثي، فلا يملك الطبيب حين يأتيه مريضه مصابا بنوبة تمنجل، إلا أن يخفف آلامه، ويلطّف من أعراضه، ويحول دون مضاعفاته الخطيرة. استيقظ جهاد صباح أحد ثلاثاءات تموز 2017 وبطنه منتفخة ومتحجرة، وكان يشكو آلاما مبرحة في صدره وعظامه. أحضره والداه ظُهرا إلي. لم تنجح الإجراءات الطبية الإسعافية المعتادة ــ والتي كانت تفيده سابقا ــ في مساعدته وإن قليلا، رغم أنها دامت قرابة ست ساعات. ونظرا لاستنفادنا الجهد، وخوفا على الطفل من تموُّت أمعائه أو مضاعفات أخرى، ولحاجته لصور شعاعية وتحاليل مخبرية وربما عمل جراحي إسعافي، كان لا بد من إخراجه إلى المشفى الميداني في يلدا. لكن جهاد محظوظ أربع مرات: فهو فلسطيني، وُلد في الحرب، من سكان مخيم اليرموك المحاصر، كما أن الحاجز الذي يفصله عن المشفى لا يُفتح بعد السابعة مساء، نظرا لأنه لا يمكن لأحد أن يمرض بعد الساعة السابعة مساء، أو أن يصاب بحالة إسعافية أو طارئة بعد الساعة السابعة مساء.. وهذه قاعدة طبية ثابتة ومعروفة جيدا كما تعلمون. هل سبق لأحد منكم أن سمع بمريض بعد الساعة السابعة مساء؟ ولمن لا يعرف هذا الحاجز، فإن اسمه “حاجز العروبة”، وهي تسمية موفقة للغاية. من الطبيعي أن يُخترق خط ماجينو، أن يُدمر خط بارليف، أن يُفتح معبر إيرتيز من حين لآخر، بل أن يُنقب ردم ذي القرنين. لكن لحاجز العروبة شخصيته الفريدة، وإرادته المستقلة. والبيان الذي يمنع فتح الحاجز بعد الساعة السابعة مساء موقع وموافق عليه بالإجماع باسم “أهالي بلدة يلدا الممثلين بالهيئة العمومية”.

ما الذي حل بجهاد بعد ذلك؟ ليس مهما، المهم أن الفلسطينيين الذين سبق لهم ونزحوا إلى يلدا، ولأسمهم اختصارا “فلسطينيي يلدا”، وفيهم من النخب من فيهم، كانت تشغلهم أمور أهم من حاجز هو للرضع علبة حليبهم، للمرضى صيدلية دوائهم، للطلاب مقعد دراستهم، للشباب سوق عملهم، للنساء هواء رئتيهم، للبشر مخبزهم ونافذتهم ووقودهم.

الأمر الأهم من جهاد وأمعائه الذي شغل فلسطينيي يلدا، كان أيضا يتعلق بحاجز، وتفتيش، ومنع الاحتلال الإسرائيلي الفلسطينيين من حرية عبادتهم في المسجد الأقصى. وقفتنا من أجل الأقصى ضرورة، لكن هذه الوقفة قد لا تلفت انتباه أحد. وصراخنا من أجل المقدسيين واجب، لكن هذا الصراخ قد لا يُسمع أحدا. أما وقوفنا وصراخنا من أجل أهلنا في المخيم، أخص بالذكر مرضانا ممن تضيق بهم السبل والحيل، فضرورة وواجب ولا بد أن يكونا مجديين، وإلا كيف ندعي تمثيلهم؟ وكيف لا نتضامن مع أنفسنا وندافع عن حقوقنا بدل أن نضع اللوم كله على عالَم لا يعلم أصلا بوجودنا الذي لا يعني له شيئا على أي حال؟ مثل هذا الالتزام بالقضايا الكبرى (حق العودة، القدس عاصمة فلسطين، المسلمون الروهينجا…) مفيد جدا لملتزميه. فهو أولا ضماد نفسي، ثم ان اعتصاما او مظاهرة بهذا المطلب لن يكلفانك شيئا. لن يعتقلك أحد لأنك تقوم بمظاهرة من أجل حق العودة، ولن يتهمك أحد بإخلال الأمن وتهديد السلم الأهلي لدفاعك عن أقلية مضطهدة، كما لن تخشى على رأسك الثمينة من القطع والدحرجة. وتستطيع بعدها ان تعود إلى بيتك وقد تعافيت  ــ وإنْ مؤقتا ــ من رضوض الاغتصاب الذي يمارس عليك في كل لحظة، واستعدت قليلا من كرامتك المهدورة. لكن لأن المخيم بعيد عنا مرمى حاجز، لأن سكانه هم بشر حقيقيون نعرفهم ويعرفوننا، لأن التحرك من أجلهم يتطلب موافقة الباب العالي في الحركة أو الجبهة أو المنظمة، لأن تحركنا من أجلهم يمكن بل يجب ولا بد أن يغير شيئا، لأن موته سيوقظ فينا شاعرية الرثاء، لأن التضامن والاعتصام والتظاهر والعمل الحقيقي من أجله يكلفنا جهدا وتخطيطا وعزما ووجع رأس وهمَّ قلب وقيلَ وقال وتخويناً متبادلاً واتصالاتٍ وخلافات (عدا طبعا، وفق بعضهم، إنه ما في رزق من وراه) لذلك كله، وغيره، بلاه خيا. سنتضامن مع المثليين، مع حق الكاتالان بالانفصال عن إسبانيا، مع سبايا بوكو حرام، مع النساء اللواتي يتحرش بهن دونالد ترمب … مع كل قضية عادلة وغير عادلة وسننسى أنفسنا، ثم نصرخ بكل ألم ووجد: ليش ما حدا معنا؟ ليش العالم كله ضدنا؟ بيكفي خيا!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أربعة × 4 =

زر الذهاب إلى الأعلى