ذاكرة لجوء

بيت ومفتاح

“يعني خلص ما عاد راح نشوفكن؟” يسألنا صاحب البيت.

لم نعرف بماذا نجيبه، لننطق بعد صمت: “ادعيلنا عم” ونسلمه مفتاح البيت، لأسير بعدها مع زوجي وطفلتي دون أية كلمة، مثقلين بذاكرة أحد عشر عاماً مع ذلك المفتاح.

كانت تلك أولى خساراتنا التي بدأت بعد الحرب، لتليها الخسارة تلو الأخرى، وكأن قصصنا باتت تتسرب من أيدينا كرمال الشاطئ. قبل أن تأتي خسارتي الكبرى بزوجي.

كنا أنا وزوجي سامر قد جئنا إلى صاحب البيت عام 2004 طالبين منه مفتاح الشقة التي يملكها لنستلمها منه بعد أن اتفقنا على استئجارها، ولنبدأ فيها برحلة حياتنا الزوجية، وخط تفاصيلها اليومية.

لكن ذلك قد مضى، وبدأنا ببيع أثاث منزلنا الذي بنيناه خلال كل تلك السنوات، لأقف أمام الراغبين بشراء أثاث منزلي الواحد تلو الآخر. أستيقظ صباحاً أشرب قهوتي على الكرسي المتبقي لي في المطبخ وأنا أراقب ابنتي الصغيرة تبعثر ألعابها في المطبخ دون أن أعاتبها على ذلك، فلم تعد مهمة تلك التفاصيل في بيتٍ أهِمُّ بمغادرته.

أربط شعري بعجالة وأستعد لاستقبال القادمين الذين اعتدت استقبالهم في الأيام الأخيرة. أفتح الباب لرجلٍ وزوجته، يبحثان عن غسالة لبيتهما. أدعوهما لدخول المطبخ ومعاينة الغسالة التي أعرضها للبيع. يقترب الزوج من الغسالة ويبدأ بفحصها واستكشافها، يتحسسها بيديه وعينيه، ثم يحركها من مكانها فجأةً لأجفل عند حركته تلك التي أشعرتني باقتحام أشيائي الخاصة بشكلٍ فج، شعرت وكأن جسدي قد اهتز مع اهتزاز الغسالة، لتوقظني الزوجة من شرودي بسؤالها عما إذا كنت أرغب ببيع طناجر الطبخ حيث كانت الزوجة تقلبهم وتعاينهم بإعجابٍ ورضى، أجيبها على عجل: “لأ… عفواً، قصدي… يعني”، تتعجب الزوجة لجوابي لتستفهم مني قائلة: ” كيف يعني؟” فأجيبها: “يعني قصدي إي عم فكر بيعهن”.

أن أرى أغراض بيتي تتسرب من أمامي وأعرف لمن تم بيعها، يجعلني أفكر بالناس الذين خرجوا من بيوتهم دون أن يأخذوا شيئاً معهم، هائمين على وجوههم هرباً من الموت، لم يعد يعنيهم غسالة أو براد بقدرما تعنيهم النجاة من هذا القدر الأحمق الذي وجدوا أنفسهم فيه، تحدثني (أم محمد) امرأة في الخمسين من عمرها، استأجرت شقة بجانب شقتي مع أولادها الثلاثة كيف تركت منزلها الممتلئ  بكل ما تحتاجه، بعد القصف الذي تعرضوا له في بلدة الحراك في محافظة درعا. نعم أم محمد تركت كل شيء والآن لا تملك شيئاً. بالكاد هربت بأولادها الثلاثة ليأتيها خبر استشهاد زوجها في المعتقل لاحقاً.

والآن أنا أبيع أغراض بيتي بإرادتي، لقد كان لي علاقة خاصة بأدوات مطبخي، ففي بداية سكني في هذا المنزل قلما كنت أتدخل في شراء أثاث المنزل مقارنةً بأثاث وأدوات المطبخ التي عملت على انتقائها بعناية لتكون عماد راحتي فيه. سامر الذي لا تربطه علاقة بالطهي وفنونه ترك لي تلك المهمة واكتفى بمساعدتي في البحث في المحال التجارية عما يناسبني من أثاثٍ وأوانٍ أرغب بأن تكون شريكتي في المطبخ، وبذلك لم يكتمل أثاث المطبخ إلا بعد أسابيع طويلة من سكننا في المنزل، كانت فرحتي بذلك وكأني مع كل قطعة أضيفها هناك أضيف الحجر المناسب في جدار تفاصيل منزل مستقبلنا.

“لأ… عفواً، قصدي… يعني”، تتعجب الزوجة لجوابي لتستفهم مني قائلة: ” كيف يعني؟” فأجيبها: “يعني قصدي إي عم فكر بيعهن”.

كان والدي ووالدتي قد جلبا الغسالة لمنزلي كهدية لعرسي، ليساهما معي في حياتي الجديدة، توفيت أمي قبل سنتين، ليبقى والدي وحيداً يتسلى بدكانه الخاص أمام منزله، ليشكل بقاءه وحيداً أكثر الأمور التي أضعفت قراري بالسفر.

كل تلك الذكريات والأفكار قفزت إلى رأسي ومخيلتي دون أن أستوعب حضورها دفعةً واحدة مع تحريك الغسالة من مكانها، وكأنها خبأت ذلك الماضي خلفها، ذلك الماضي الذي تطاير مع شوائب الغبار في الجو، ليثقل علي بقيوده ويمنعني من الكلام.

يقتحم الهدوء صوت المفتاح في الباب، إنه سامر قد جاء أخيراً وبيده طعاماً جاهزاً للفطور، ولعله سيستلم الآن زمام مفاوضتهم على السعر ويريحني من تلك المهمة الصعبة.

اتكأتُ على حضور سامر، والتحقت بابنتي إلى غرفة نومها، لكن غرفة النوم تنتظر هي الأخرى زبوناً لشرائها، أراقب ابنتي التي تغيرت عليها أوصاف المنزل رويداً رويداً في الأيام الأخيرة مع كل قطعة أثاث يتم بيعها، وكعادة الأطفال تحاول ابنتي استكشاف الجديد في ترتيب المنزل ومحاولة بناء علاقةٍ معه دون أن تدرك ما ينتظر مصيرها ومصير المنزل كاملاً بعد أيام قليلة.

يرن الجرس مرة أخرى، لأفتح الباب عن شابٍ وشابة وابنتهما الرضيعة، أستقبلهم و أنادي لسامر وكأنني لا أريد الغور في تخبط الذاكرة مجدداً معهما، لكنني هذه المرة مضطرة للإجابة على أسئلة الزوجين الذين جاءا لشراء عربة ابنتي وسريرها.

تفتتح الزوجة حديثاً معي حول السرير والعربة، في حين يقف سامر وزوجها خارج الغرفة قليلاً ويتبادلا أطراف الحديث عن السفر والهجرة ويحمل الزوج الزائر ابنته في حين تبقى ابنتي في غرفة النوم تراقب حديثي مع الزوجة، وتلتصق بجسدي وهي تراقب نظرات الزائرة نحو سريرها وعربتها.

لم ننجب أنا وسامر أطفالاً طوال السنوات السبع الأولى من زواجنا، فالطفل يحتاج إلى الكثير من التحضيرات قبل مجيئه لتوفير كل ما يحتاجه وما تتطلبه حياته وتربيته من تفرغ واهتمام ومال، فكان قرارنا بإنجاب طفلتنا بعد أن استطعنا تأمين ما يلزمها لتعيش بيننا حياة كريمة تتوفر لها فيها كل مقومات نشأتها.

كنا قد اشترينا سوية سريراً لابنتنا بعد ولادتها، في حين جلب أصدقاء لنا العربة كهدية. أشعر بأنني أبيع اليوم لا أغراض بيتي فحسب بل ذكرياتي أيضاً وذكريات منزلي وعائلتنا الصغيرة. فمع كل شيء أبيعه أشعر وكأنني أتخلى عن جزء مني لتتناثر روحي بين شتات أغراضي.

كنا أنا وسامر نرغب في العيش بهدوء ضمن عائلة صغيرة تتيح لنا القدرة على التحكم بمسار حياتنا وحياة ابنتنا، لكن القدر لم يكن مسايراً لنا، وكانت الحرب وآثارها المدمرة ضربة قاصمة لما خططنا له، خاصة وأن الحرب بدأت مع بداية مرحلة جديدة لنا مع ولادة ابنتنا، تلا ذلك ترك سامر لوظيفته خوفاً من سوقه للخدمة الاحتياطية، لتبدأ فكرة السفر واللجوء إلى أوروبا تجول في بالنا، خاصة وأنني خسرت وظيفتي أيضاً في شركة إكساءٍ تراجع عملها واضطرت للاستغناء عن موظفيها. الأمر الذي دفعنا للتفكير جدياً بالسفر، وكان علينا أن نغادر على انفراد، حيث سيخرج سامر بطريق التهريب إلى تركيا، ليقطع البحر بعدها مع غيره طالبي اللجوء إلى أوروبا، وأنتظره أنا بدوري في بيت والدي ريثما يحصل على قرارٍ يسمح لنا باللحاق به.

لكن القدر شاء أن يقحمنا في عين مأساة السوريين جميعاً، ويبتلع البحر زوجي مثلما ابتلع العديد من طالبي حلم الهروب من الجحيم ليأخذهم إلى جحيمٍ آخر في مستقره.

خسرت وظيفتي وبيتي ثم زوجي في هذه الحرب الكارثية، وكأن تعاطفي مع أم محمد شاء أن أتماهى معها حد التشابه في المصير، لأنزوي اليوم في منزل والدي مع طفلتي الوحيدة أتقلب بين أحلامي وآلامي، وأجر خيبتي في بناء حلمٍ صغير بأسرةٍ صغيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عشرين − ثمانية =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى