ذاكرة حدث

حين دخلت جحافل (الجيش) إلى كفر نبل

عاشت المدينة شهراً كاملاً وهي تغصّ بالشائعات حول موعد دخول جيش نظام إليها، مع اتساع رقعة المظاهرات السلمية فيها وشهرتها بين المدن السورية، نسبةً إلى لافتاتها التي كانت مادة دسمة لوسائل الإعلام العربية والعالمية آنذاك.

البعض يقول: إن بضع حواجز ستنتشر في المدينة، والبعض الآخر يؤكد أن عتاداً وعساكر كثراً سيقتحمون المدينة، فيما قلّة قليلة تستبعد ذلك كلّه… إلى أن قضيَ الأمر.

الساعة العاشرة صباحاً، في الرابع من تموز من عام 2011 ذلك اليوم الصيفي، الذي كان من المفترض أن تكثر فيه على أرصفة المدينة، بسطات البطيخ الأصفر والفواكه الصيفية ممّا تجود به الأرض… ونساء يُسرعنَ صباحاً إلى السوق لشراء حاجيات المونة.

كانت شوارع المدينة في ذلك اليوم خاوية على عروشها، إلّا مِنْ بعض الشباب الذين يترقّبون دخول مدرعات ودبابات (الجيش الباسل) إلى كفر نبل.

نَزَحت بعضُ العائلات، فيما بقي الكثير من الناس يترقّبون مواجهة غير عادلة مع حماة الوطن الافتراضيين.

مرّت ساعة، استهلك فيها الناس آخر التكهّنات، التي تقول بعضها إن الجيش لن يدخل، فيما تؤكد الأخرى نقلاً عن تسريبات بأنّ جحافل الجيش وصلت تخوم معرة النعمان، ما يعني أنها على بعد 13 كيلومتراً عن كفر نبل.

ووسط هذا السكون غير المعهود.. بدأت أصوات الرصاص تشقّ صمت المدينة الغارقة في التفكير بحدَثٍ غير اعتيادي، لم يتعامل معه الناس من ذي قبل.

وعلى وقع أصوات الرصاص وزحف الدبابات إلى كلّ شارع وحيّ، كانَ أبي يتحدّث لي في قبو الدار، كيف اقتحم الأمن (كفر نبل) حين كانت قرية صغيرة، قبل عشرات السنين، لملاحقة أناسٍ يتبعون لحركة الإخوان المسلمين، إلّا أنه لم ينكر أن هذا الزحف الذي تشهده شوارع المدينة الآن أقوى بكثير من الذي عايشوه أيام الثمانينيَّات.

كان زحفاً وقِحاً… رافعاً سقف الضجيج حتى السماء.

جميع سكّان المدينة داخل منازلهم، وأصوات الجنود بدأت تتسرّب في الأزقة بعدما هدأ تماماً صوتُ الرصاص..

عند الرابعة عصراً بدأنا نسمع أصوات بعض الدراجات النارية وهي تعبر الشوارع، فخرجنا إلى الحارة، لنرى ما حصل بالضبط، فأصوات الرصاص التي استمرت لساعات توحي إليك بأنّ الجثث قد ملأت الشوارع..

وقفتُ مع صديق لي، عند أوّل الحارة، نراقب أربعة دبابات التفّت حول دوار الساعة وسط مدينة كفر نبل في ريف إدلب الجنوبي، وعشرات الجنود بعتادهم الكامل..

 كنا للمرة الأولى نرى فيها العسكر في الشارع، وكانت عيونهم توحي بأنهم غرباء يحتلون بيتك..

بين عصر ذلك اليوم وغياب شمسه، حاول العساكر كسبَ ودّ الناس، حيث كانوا يبادلون المارّة بابتسامات عريضة، في حين أنّ المارة أنفسهم جاؤوا فقط ليختبروا نوايا (جيش الوطن)…

قال الضابط الذي احتلّ بسطة فواكه على الرصيف في الشارع الرئيسي، بعدما هرب صاحبها: “نحنُ هنا فقط للقضاء على المسلحين”

ثم أتبعَ كلامه بعبارة: “تظاهروا… لا علاقة لنا بذلك لكنّ السلاح ممنوع!”

خالد الذي كان بجانبي، والذي تحول فيما بعد لمعتقل لمدّة ساعات، بسبب ابتسامة ساخرة في وجه عسكري، همس لي قائلاً: “مفكرنا جدبان ابن الـ…. بدو يورطنا”

في تلك الأثناء كانت عناصر النظام يرتّبون حواجزهم بهدوء قبل غياب الشمس، فلا يعطون بالاً للمارة ولا يطلبون هوية أحدٍ…

العناصر لا يتحدّثون بأي شيء مع الناس، فقط رئيس الحاجز أو الضابط المتواجد في الشارع أو الحيّ هو المكلّف بهذه المهمة، وكأنّ كل شيء متّفَق عليه من أعلى الهرم إلى أسفله.

علمنا فيما بعد من العساكر الذين جاؤوا في الحملة العسكرية، والذين ينحدر بعضهم من كفر نبل وقراها، أنهم كانوا خائفين جدّاً من أهالي المدينة، على غرار الصورة التي أعطاها الضباط لهم عن طبيعة الناس هناك.

مع غياب الشمس، طلب الضابط من خادم الجامع الكبير أن يذيع بيانَ منعِ التجوال الذي حدّده “من غياب الشمس وحتى السادسة صباحاً”..

وحين تسرّبت العتمة إلى شوارع المدينة وأزقتها صرخ في وجهنا الضابط طالباً منّا الذهاب إلى المنازل..

كان معنا (محمود) وهو شاب درويش (على البَرَكة) لكنّه لم يتحمّل صراخ الضابط في وجوهنا، فسبّه بصوت عالٍ، ما دفع بالجنود أن يلقّنوا محمود أول درسٍ من دروس (الوطنية)، ليتولى سليم، أكبرنا سنّاً، من بين الشباب في الحي مسؤولية فكّ محمود من مخالب الجنود الذين فتحوا شهيتهم الإجرامية على درويش الحارة، ثمّ دخلنا جميعاً إلى الحارة، ليصرخ فينا الضابط من بعيد أن ندخل إلى البيوت بشكل كامل لا أن نختبئ في الحارة فقط.

لا كهرباء، ولا هاتف خلوي في المدينة إطلاقاً، لقد أبقى النظام على الهاتف الأرضي بدون الصفر الدولي وصفر المحافظات، تاركاً الاتصالات محصورة فقط ضمن محافظة إدلب..

كنتُ أودّ في تلك اللحظة أن أكونَ من أي بلد إلا سوريّاً، ففي تلك اللحظة شعرتُ بأولى درجات تقييد الحرية..

لم أعهد يوماً أن يمنعني أحد من الخروج حتّى على شرفة البيت، كُنا نسمع عن منع التجوال في فلسطين، من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وللمفارقة كنّا نسمع عن ذلك عبر وسائل إعلام نظام الأسد، الذي يأمرنا اليوم بذلك.

حجزَ عساكر حاجز الدوار الرئيسي بيتاً لهم أول حارتنا، بعدما هجره المستأجر، هرباً من الجيش، وحوّلوه مكاناً للنوم والاعتقال والسهر.

كنّا نسمع أصواتهم بكل وضوح، بعدما غرِقت المدينة تماماً في صمتها الذي لا يشقّه إلّا رصاص متقطع بين الحين والآخر..

عند الواحدة والنصف بعد منتصف ليل الخامس من تموز، ركب أحد الجنود دراجة نارية، متّجهاً من الحارة نحو الشارع الرئيسي، كنتُ أراقب المشهد بوضوح، وما إن وصل أول الشارع، حتى سقط أرضاً بسبب رصاصة، عرفتُ بعد دقائق أنها جاءت من زميل له…

سحبوا جثّة العسكري، وبدأ الجنود يسبّون الذات الإلهية لهذا الخطأ…

أخبرهم زميلهم أن هذا العسكري واسمه محمود كان ذاهباً إلى الحاجز الآخر ليجلب علبة (متة)، وفي اليوم التالي ورد في خبر عاجل على الشريط الإخباري لقناة سما الفضائية التي يديرها نظام الأسد: “استشهاد عسكري في مدينة كفر نبل بعد قنصه من قبل العصابات الإرهابية المسلحة!”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أربعة × 2 =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى