ذاكرة ثملة (منزل السكري في حلب)
هل يمكن للذاكرة أن تثمل؟!
النسيان فيما أعرِف هو انشغال البال عن حدث ما إلى غيره، وهو نعمة حين يكون ذاك الحدث مؤلماً، أو حينما تتمكن من استحضار الحدث بكل تفاصيله دون كمّ المشاعر التي اعتادت مرافقته كضيف يعلم تماماً كيف يتملّكك فتصبح أنت الضيف الطارئ في حضوره الطاغي.
أما أن تبذل الجهد في محاولة تذكر تفصيلٍ ما عشته، وتجد نفسك تصارع صوراً مشوشة لاتعطيك مشهداً كاملاً يريح قلقك، فذاك ما أدعوه ثَملُ الذاكرة، كعجوز أثقلته كأسه حتى تفرقت خطاه حول سبيلها، وهذه لايمكن أن تكون نعمة.
منذ ساعتين تقريباً أحاول بيأس تذكر كيف كانت تبدو حلب في الصباح من تلك الشرفة في الطابق الثالث من أحد مباني حي السكري المشرفة على جسر الحج، صورٌ خاطفة تومض ثم تختفي كأنها البرق الذي أضاءه الله لقافلة يمشي من فيها به حتى إذا أظلم عليهم قاموا..
جَمع قمامة على الطرف المقابل للشارع الموصل إلى حي الكلاسة من دوار جسر الحج، كان عمال النظافة –الذين لم يقبضوا رواتبهم منذ ثلاثة أشهر بسبب انقطاع التمويل عن المجلس المحلي للقسم المحرر في مدينة حلب– قد أوقدوا فيه النار لإتلافه.
أعمدة الدخان المتصاعدة لا تكاد تفرّقها عن تلك التي تخلّفها البراميل المتفجرة لولا حالة الطمأنينة التي ربطتها الذاكرة بهذه الصورة، فالطمأنينة وصوت البرميل هاوياً لا يجتمعان في قلب ثائر، و أقول في قلب ثائر لأنهما اجتمعا حقاً في قلوب عدد من زملاء الدراسة، الذين طالما ارتادوا حفلات نادي الاتحاد في القسم المحتل –الخاضع لسيطرة نظام الأسد– من مدينة حلب، على وقع دويّ البراميل المتفجرة تمزق أشلاء شَطرِ المدينة الآخر (المحرر)، بل لعلهم استطاعوا أحياناً شم رائحة الموت ممزوجة برطوبة مسبح النادي الذي تركوا أجسادهم فيه للشمس تمنحها سمرة باتت منذ سنين موضةَ الصيف الرائجة.
تذكّرت..
لعلي التقطت صورة من تلك الشرفة لهذا الصباح ونشرتها، أتمنى فقط أني قد نشرتها على
حساب “إنستغرام”، فموقع “فيسبوك” حذف كثيراً من حسابات
الناشطين ذات الأسماء الوهمية، –أو الأسماء الحركية– التي اخترناها اضطراراً بدايات
الحراك السلمي للثورة في جامعة حلب خشية الاعتقال.
نعم ها هي الصورة.. الثاني من آب عام 2014، وقفت على تلك الشرفة أشرب قهوتي وأدخن “لفافة تبغ” –كما يدعوها حراس العربيّة– وأستمع لصوت فيروز الملائكي يشدو “بحبك يا لبنان.. يا وطني بحبك..”، لبنان نفسه الذي صدّر لنا مقاتليه الطائفيين من “حزب الله”، والذي يضيق اليوم باللاجئين السوريين على أراضيه ويحتال لطردهم.
أذكر حينها أن زميلاً آخر كان قد اختار مغادرة البلد وإكمال دراسته في دولة عربية مجاورة قد أرسل إليّ “الله يحميك..”، لعله ظن أن أعمدة الدخان المتصاعدة تلك كانت بسبب غارة لطيران نظام آل الأسد.
لم أصحّح معلومته..
أحببت أن أشعر بالتقدير من أحدهم على خياري “التضحية” والبقاء للمشاركة
في معركة التحرير، والآن أدرك أني كنت سعيداً.. وكان تعيساً مثقلاً بالخجل لأنه
ليس هناك على الأرض المحررة، كما أشعر اليوم بالخجل ذاته لأني بعيد عن ريف حماة
الشمالي وإدلب التي تقصفها طائرات روسيا ليل نهار لقتل الحياة فيها.. ولن تفعل.
أليس غريباً أن يرتبط لدينا بشكل طردي حجم الخطر الذي نعيشه بالسعادة؟! لعلها إحدى لعنات الثورة على نظام مجرم لانملك في مواجهته وحلفائه الدمويين المدججين بأكثر أسلحة العالم فتكاً إلا الإرادةَ الحرّة.
كان من الجنون حقاً أن يسكن أحد بيتاً في الطابق الثالث في تلك المدينة، خصوصاً في ذلك الحي الذي لم يستطع اعتياد أشباح السماء تبعث الموت في أبنائه كل يوم، لكن من يستطيع مقاومة أن يصبح جاراً لأبو هلال وعائلته.
إذا ما أردت يوماً تعريف العائلة سأقول أبو هلال وأم هلال، أهلنا نحن الأربعة العازبون من إدلب وحماة وديرالزور، والتي ربطتنا ثورة جامعة حلب بهذه المدينة حتى استوطنّاها سنين لا أدري اليوم أكانت وقتاً ضائعاً، أم أسطورة ساهمنا في صنعها.
على أي حال كان المنزل قِبلة فعلاً لأفواج من الثوار والناشطين والصحفيين الذين قصدوا القسم المحرر للسياحة الثورية أو العمل، والسياحة هنا لا أعنيها استخفافاً، بل كما قالها الرسول عليه الصلاة والسلام واصفاً ذروة سنام الإسلام بسياحة أمته، ثوّار كانوا يعيشون –على غير رضا– في القسم المحتل من المدينة، يَؤُمّون قسمها المحرر متظاهرين وناشطين ومقاتلين حتى، وعدد من الصحفيين العرب والأجانب يأتون لتغطية أعظم ثورة في العصر الحديث من أخطر مدن العالم، وآخرون تمنعني الذاكرة الثملة من تذكرهم.
آه.. ما أسرع ما تتبادر الصور بالكتابة عنها..
بداية التحرير في مدينة حلب عصفت أزمة الخبز بالقسم المحرر منها، وأصبح توفير رغيف واحد إنجازاً لأي عائلة عاشت تلك الأيام، حتى بات مشهد طوابير الناس أمام القليل النادر من أفران المدينة العاملة أمراً اعتيادياً لعدة شهور، هذا قبل أن تصبح تلك الطوابير هدفاً لآلة الإجرام الأسدية التي خلفت أمام غير فرن مجزرة مروعة لم يُحص في كثير منها عدد الضحايا لصعوبة عدّ الأشلاء.
آوانا ذاك المنزل في ذاك الشتاء ملتحفين بأكياس نوم
ميدانية أمّنها لنا يوسف (أحد الشابَّين الحمويين في المنزل وخريج كلية هندسة
العمارة من جامعة حلب)، حيث رتّبناها حول مدفئة حطب كنا نوقدها بقطع الأثاث وأغصان
الأشجار وحتى بعض الأحذية المهترئة، أما طعامنا ف”شوال” بطاطا اعتاد
أبوعروة (الشاب الحموي الآخر والطالب المستجد في كلية العمارة مطلع الثورة) لفّ حَبّاته
بالقصدير نفسه الذي تُغطى به رؤوس “الأركيلة” ثم قَذفها في أتون نار
“الصوبّة” –كما يسمّي الحلبيون المدفأة– لتشوى.
البطاطا المشوية كانت إفطارنا.. غدائنا.. وعشائنا.. وتسليةَ ليالي سمرنا.. ولا أكذبكم
حين أقول أنها ألذّ طعام يمكن لأي أحد تذوقه.
لكن ليست كل أيامنا في ذاك المنزل قاسية، ففي فترة أخرى أصبح المنزل نفسه صالة لسهرة “البوكر” شبه الأسبوعية، وقد كنا نستعمل لذلك جرّة من الفئات النقدية المعدنية جمعها بشكل أساسي حمدي (الشاب الإدلبي وطالب معهد إدارة الأعمال في جامعة حلب)، فنعمد إليها عند بدء السهرة ونفرزها إلى فئاتها الثلاثة (الخمسة والعشرة والخمسة والعشرون)، ثم نقسمها بين اللاعبين، ونبدأ اللعب بها كأنها “فيش” حقيقية، حتى إذا فرغنا أعدناها كلها إلى تلك الجرة لسهرة أخرى.
اجتمع إلى تلك الطاولة –في الحقيقة ليست طاولة.. بل بطانية– عدد من الإعلاميين والأطباء والقادة العسكريين والثوار الذين كانوا بعض أوتاد تلك المدينة المحررة، والتي طالما ثبتوها أن يميد بها نظام آل الأسد وحلفاؤه، تحت الضوء الخافت ل “اللّد” الموصول ببطارية سيارة نشحنها في ساعات الكهرباء القليلة التي تصلنا من مولدة الحي، وعلى وقع قرع ملعقة السكر تُحرِكه في كؤوس الشاي، وربما بعض النقاشات الجانبية الحادة حول مختلف القضايا التي تواجهها ثورة السوريين، لعبنا لعبة بوكر لامكسب فيها إلا راحة قضاء بعض الوقت بعيداً عن أعباء الثورة.
سهرة البوكر تلك لم يكن للياليها أن تنتهي لولا زيارةٌ في ظهر يوم جمعة لعدد من ثوار المدينة –من القسم المحتل– والذين فرغوا من حضور مظاهرةِ حي بستان القصر الأسبوعية إلى منزلنا الطابقي الفاره بمعايير المنطقة المحررة آنذاك، غادرتُ صالة المنزل إلى اجتماع مصغر في مطبخ المنزل لنا نحن الأربعة لجمع مالدينا من مال لشراء طعام الغداء لضيوفنا، ولم يكن صادماً أن مالدينا أربعتنا لايكفي ثمن “لفة فلافل” واحدة، وبدلاً من الاكتفاء بالشاي اقترح أحدنا استثمار “فيش البوكر” في تكاليف الكرم، وهكذا كان..
وليمةٌ حقيقيةٌ من الفروج المشوي والبطاطا المقلية والكولا.. وبطون مليئة لساعة.. وسهرة بوكر انتهت إلى غير رجعة.
كما انتهت بعدها أيامنا في ذلك المنزل وصباحات تلك الشرفة التي لم يخفى على أحد الصحفيين الأجانب سحر مشهد أحياء حلب المحررة منها، فالتقط لها صورة لاتكاد تُحيي الذاكرة حتى تميت صاحبها بألف ذكرى تئنّ الروح شوقاً إليها، وإلى أيام كانت –بلا شك– مما سأسترجعه ساعة موتي إن صدق ما يقال عن شريط الذاكرة الذي يمشي أمام عينيك لأجمل أيام حياتك وأكثرها كمالاً.