ذاكرة مكان

غرفة خاصة في حقيبة النزوح

كان لي تحت درج منزلنا وخلف المغسلة، مكان خاص بي أضع به عجلة مهترئة لدراجة نارية، اضربها بكف يدي وأركض خلفها بحارتنا، لكن أمي طلبت مني تغيير مكان العجلة، لأنها كانت تشارك تحت الدرج المساحة الخاصة بالغسالة، غيرت مكاني إلى غرفة المونة الصغيرة، كنت أضع بقلب كيس أسود كبير، أغطية قوارير المشروبات الغازية من معدن التنك، كنت قد فزتها إثر رهانات مع أبناء الجيران، أو جمعتها من أمام دكاكين السمانة ليلاً، أو من حواف الطرقات.  

لكن أمي أيضاً طلبت مني تغيير مكان الكيس، فالأغطية قد تسبب بقصد أو بدون قصد تلوث في الجبنة أو مكدوس المنزل، و قد أكسر قطرميز الدبس الفليفلة أثناء فتحي لغرفة المونة.   

بات السخط يسيطر علي، لا مكان خاص، خاص بي، لا غرفة لي أقفل بابها خلفي، و لا أحد يقاسمني إياها، أنا مباح بكل ألعابي واهتمامتي وعلبي الخاصة التي أضع فيها بجانب أغطية المشروبات الغازية كل ما أجده غريب وغير مألوف.  

لا أمي قدمت لي حلولا بإيجاد مكان أضع فيه أشيائي الخاصة، ولا أنا وصلت لحل يرضيني.  

شاهدت على قناة “سباستون” عملا كرتونيا يسمى الحديقة السرية، تدور أحداث العمل عن حديقة سرية يجتمع بها الأصدقاء.  

تمنيت لو أن لي رف شباك خاص، لا أريد حديقة سرية ولا مروج خضراء ولا تلال، لكن هذا ما كان ليحدث، فكلما أجمع شيء يشغف انتباهي، أقرر التخلي عن شيء سابق وهكذا تدور السنة ليكون ما كنت أشغف به قبل سنة لا معنى له الأن وأتخلى عنه.  

سألت والدي _ بعد أن ولدت في خاطري فكرة _ هل ستعمر غرف حجرية على سطوح منزلنا أم لا؟ أجاب لا بشكل قطعي.  

أدخرت بعض المال من عملي في بيع الخبز، بغية شراء خشب، الكثير من الخشب، الذي لا يجلب الحشرات تجاوزاً لإلحاح أمي المهوسة بنظافة المنزل، بعد أن اشتريت الكثير من الخشب، رسمت مخطط لغرفة صغيرة في زاوية سطوح منزلنا، اخترت الزاوية، لئلا أتكلف بجدارين استطيع توفيرهما، سقف وجدارين خشبين فقط، بالمسامير والمطرقة، وعمل أكثر من أسبوع، انتهيت من الغرفة، وضعت بها كل ما لا يلزم في المنزل، كومبيوتر أرضي قديم، فرن قديم، مبرد هوائي قديم، شريط كهربائي طويل ولمبى صفراء، “لوكس” أشعله في فترات انقطاع الكهرباء.  

أغلق الباب الخشبي على نفسي، أستلقي على اللباد المهترئ، أفكر، أرسم.  

لا أعلم من أين أتت فكرة الغرفة الخاصة بي وتشيدها، هل لقطة من فيلم كنت قد شاهدته بالصدفة؟ أم من عمل درامي كرتوني عابر؟

لا أعلم من أين أتت الفكرة، فكل ما نراه ونشاهده غير منتظم، غير منَظم، لا حلقات الأعمال الدرامية ولا الحصص الدينية ولا الدروس المدرسية، حياة علمية غير منظمة لتعليمنا ولا برامج منظمة تسعى لفهمنا بالحياة، لذلك لا ألح على نفسي بالتذكير من أين أتت الفكرة.  

لكنها أتت وتم تنفيذها وتعميم التجربة على أكثر من منزل من منازل الحي، أخرين قالوا أنهم قد نفذوا الفكرة قبل غرفتي، عند تشييدهم لل ” العريشة” سقف من التنك أو دالية عنب في زاوية منزل، لا باب لها، الباب كان الفصل الذي يميز غرفتي عن عرائش الأخرين.  

أخذت غرفتي الخشبية بُعداً أخر، وضعت بها الغاز السفري وعدة الشاي والمَتّة للضيوف وكاسات في الفرن، الماء لغسل الكاسات في سطل كبير ورسومات مبعثرة على الجدران كلها.  

أغلق الباب على نفسي، أتحدث مع نفسي، أتحدث مع ذاتي عام ٢٠٣٠ على سبيل المثال، أتحدث معه، أطلب منه ألا ينسى الاعتناء بالغرفة وتطويرها، أتحدث مع شخوص روايات كنت قد قرأتها ولم أكمل بعضها.  

لم أعد اسميها غرفة، بل صومعة، أطيل الجلوس بها، أهرب من المشاكل التي تتثاقل على جسدي النحيل أنذاك وأختلي بها وأصرخ حتى أجد حلول لتلك المشاكل.  

مرت الأيام، بدأت بالعمل الإعلامي، البعد والسفر حال دون السكن بالغرفة، قررت أن يوماً بالأسبوع يجب علي النوم بالغرفة، يوم بالشهر، شرب كأس من الشاي في زيارة عابرة، لم استطع العودة إلى الغرفة بعد فرض نظام الأسد وإيران وروسيا سيطرتهم على حيّنا وقتلوا شاباً عاد الى الحي بعدما أمن للنظام وقام بالتسوية معه، لكن أبناء عمومته ممن هم مع النظام السوري، ممن قاتلوا تحت لواء اللجان الشعبية ولواء القدس، قتلوه ووضعوا جثته في الشارع العام.  

رمتني الجغرافيا السورية على بعد 40 كيلو متر من مكان الغرفة، أحياناً، 50 كيلو متر، ومن حي ضاحية الكهرباء في القسم الغربي من حلب كانت غرفتي تبعد مسافة 10 كيلو متر، هي حياة أخرى لم أكن لاستسيغها، لا استقرار ولا مكان أمن وسري تحت سماء في أي لحظة تمطرك بالغارات الجوية أو في أي لحظة تنفجر سيارة بالقرب منك، لا مكان أمن وحذر قلق.  

جرت العادة، في أي مكان أبيت به أو أعزم على الاستقرار به لفترة معينة، أن أقيس المسافة عبر تطبيق googlemaps عن مكان غرفتي الخاص

حاولت مراراً أن ابني غرفة خاصة بي، لكن فكرة النزوح والسفر تحول دون المضي في تشييدها، في منازل ليست لي، بل لها أصحابها الذين كنت قد استاجرتها منهم، ربما في أي لحظة يطلبون مني الخروج من منزلهم، من جانب أخر عند أي فكرة لتشييد غرفة خشبية خاصة، تتواتر صور النزوح المتكرر داخل البلد، تتواتر صور أشخاص أخرين يستثمرون الغرف الخشبية التي قد أشيدها ليسكنوا بها، خاصةً أن جغرافية سورية تحولت للعبة تتبادلها الدول المسيطرة على الجغرافيا كلما اتفقت أو اختلفت، لا غرف سرية وأماكن خاصة للشباب السوري، أي كان رأي الشاب وتوجهه السياسي، إما تهجير فرضته السلطات المتعاقبة على منطقته، أو أخرى اغتالت هويته، إذ باتت غرفته الخاصة شيء لا قيمة له بعد اغتيال هويته الدينية أو السياسية أو القومية، وأخرين من الشباب السوريين رمتهم أمواج المتوسط في القارة العجوز، آخرون نازحون في بلدهم، يتنقلون بين قرى البلد ومن مكان لمكان بحسب حدة القصف أو بحسب العمل الذي يسد جزء من متطلبات الحياة.  

تضاربت حياتي ومراهقتي وتم بتر طفولتي عما أعيشه، تناسيت عن قصد كل ما مررت به في طفولتي من أصدقاء الطفولة، شوارع تربينا فيها، لا لشيء، إنما لاستمرار في الحياة الحالية، لا لشيء أخر، لكن هاجس الغرفة الخاصة لم استطع تناسيه والتأقلم على نسيانه، كمن يحمل قدمه المبتورة ويضعها مكانها ويشد عليها بيده كي تبقى مكانها، لا جدوى في ذلك.  

أثناء جلسة استرخاء على ضفاف نهر الفرات، نصف جسدي داخل مياه الفرات، النصف العلوي على رمله الرمادي، توصلت لتشييد غرفة خاصة لا يأخذها غيري مني، لا أفكر بها إينما ذهبت ولا ينزعها مني عدو طماع، لا أفكر بنقلها إذا ما انتقلت بحكم سفر أو نزوح مرتقب أو تهجير مرتقب، كانت غرفتي الخاصة التي بدأت بتذكر كل ما عشته من طفولتي حتى اللحظة.  

اكتب كل ما يدل على هوية غرفتي الخاصة السابقة، أحاول أن أقلل من الحمولة الخاصة بي، لتكون غرفتي، عدة مقاطع على اليوتيوب لأغاني شعبية لبعض المطربين وآيات قرانية لبعض القراء، كنت قد تربيت عليها، اتجاه محدد أجلس به ووجهي تجاه مكان غرفتي الخاصة، دفتر وقلم وعدد من الأورق، غاز سفري وعدد من كأسات، كل ما يلزم لتحضير الشاي.

كلما تضيق علي الحياة بمشاكلها التي لا عدالة بها لشاب بعمري، أضع البساط من نوع ” الحصير” وأضع الغاز السفري، أجلس باتجاه غرفتي الخاصة، أهم بصنع كوب شاي لي، استمع لعدد من الأغاني، ارسم، اشخبط على الورق، اكتب كل ما يجول في خاطري من كلمات وأفكار، ليعيدني هذا الطقس لغرفتي الخاصة التي كنت أدخل إليها مزعوج ومشوش ومتوتر، اخرج منها كناسك خرج من صومعته بعد جلسة عبادة وتأمل مطوَّلة.  

أحمل غرفتي الخاصة إينما ذهبت وارتحلت، لا يحول بيني وبينها قرية أو بلدة أقيم بها أو أسافر إليها، ليأخذ من يشاء ما يشاء من البيوت، لكنهم لن يستطيعوا أخذ غرفتي الخاصة بي مني، التي هي بمثابة بلدي الخاص، ولا هم يستطيعوا انتزاع كوب الشاب مني الذي هو بمثابة وطني الخاص.  

كلما تشوشت بسبب ضغط العمل وتخبط بالقرارات على الصعيد الشخصي، أو على الصعيد العام المرتبط بأحداث البلد المرتبطة بطريقة مقيتة مع الصعيد الشخصي لحياتنا، أدخل إلى غرفتي المتنقلة  عن طريق حقيبة التهجير والنزوح، هكذا أطلقت اسم عليها، أخرج منها وكأن القضايا الخاصة والعامة تم معالجتها، لدرجة أنني بعد فترة تفكير مطوّلة بالقرب من كوب الشاي وعلى البساط والشخبطة على الدفتر والورقة، هممت بالعودة إلى حيينا في شرق حلب، لكن هذا لم يكن ليحدث، ظننت أنه بإمكاني الذهاب إليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثلاثة عشر − تسعة =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى