قانون أمن الدولة السوري بين الدراسة والتطبيق

لطالما كانت مادة “قانون العقوبات الخاص: أمن دولة” في كلية الحقوق مادة نظرية وجامدة، حتى وإن قام بتدريسها أستاذ خبير وحاول شرحها بطرق مبسطة أو حديثة.
هذه المادة أساسية لطلاب السنة الثانية في كلية الحقوق جامعة دمشق، تستند إلى كتاب ضخم يحتوي على ألف صفحة تقريباً، يدرس على فصلين الأول يتحدث عن الجرائم الواقعة على أمن الدولة والثاني عن الجرائم الاقتصادية. ضخامة الكتاب لها سبب، خاصة ذاك الجزء المتعلق بالجرائم الواقعة على أمن الدولة فمؤلف الكتاب الأستاذ “الكبير” جاك الحكيم لم يستطع رغم باعه الطويل في القانون أن يشرح الأسباب الموجبة لتجريم شخص ما بالتآمر على أمن الدولة أو النيل من عزيمتها أو إضعاف شعورها القومي، لذلك كان يسوق المادة على شكل أمثلة لا يمكن حصرها بقانون جامع مانع. أما أستاذة المادة الدكتورة صفاء أوتاني فحاولت أن تبسطها باستخدام أسلوب جديد في كلية الحقوق وهو تقديم المحاضرة على شكل شرائح ضوئية تظهر على السبورة البيضاء عبر جهاز العارض الضوئي “بروجكتور”. أذكر أن الطريقة الجديدة علينا كانت مفيدة لحث الطلاب على حضور المحاضرة وذلك لتصوير الشرائح ومن ثم سهولة الرجوع إليها في أثناء الحفظ، “الحفظ فقط” أما عن فهم المادة فهذا شبه محال، فكيف لطالب درس في السنة الأولى أن “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني” أن يفهم تجريماً عليه أن يقره تبعاً لأسباب غير محددة، ولا يوجد لائحة بتفنيد دوافع “الجريمة” التي تقع على أمن الدولة فلا يعرف منها ما يعتد به وما هو غير مفيد في عملية الدفاع، وكيف سيحدد الطالب الحكم الذي ينتج عن تلك العشوائية في صياغة هذا القانون؟ ربما كان من الصعب على أساتذة القانون الكبار أن يقروا بأن من يصدر القوانين ويعتقل ويحقق وينفد الحكم في حالة الاشتباه بفعل واقع على أمن الدولة في سوريا ليس المشرّع ولا القضاء.
الأفرع الأمنية في سوريا هي التي تسن القوانين المتعلقة بأمن الدولة وتحدد إجراءات التوقيف وكيفية التعامل مع المشتبه بهم. يظهر ذلك جلياً من خلال المداهمات التي كان يقوم بها رجال الأمن على البيوت منذ بدء الثورة في آذار 2011. يختارون توقيت ومكان المداهمة ويغلقون الشوارع ويدخلون البيوت لتفتيشها والبحث عن مطلوبين كان قد وصلهم وشايات وتقارير بأنهم قاموا بالتظاهر السلمي أو أبدوا رأياً معارضاً لسياسات السلطة (رغم أن حق إبداء الرأي مكفول بموجب الدستور)!
تتم المداهمة دون إذن من النيابة وهو شرط لازم قانوناً لدخول بيوت المدنيين وتفتيشها، ولكن رجال الأمن في سوريا لديهم الأفضلية على القانون ولديهم الصلاحية بدخول البيوت من دون إذن نيابة بموجب السلطة القمعية الحاكمة. وجود قانون غير واضح يقتضي بالضرورة ممارسات غير مبررة من قبل القائمين عليه الذين لا يمكن محاسبتهم فهم يطبقون القانون كما تدعو الضرورة _حسب رأيهم_ حيث لا مجال لتحديد خطأ أفعالهم أو تجاوزاتها فهم دائماً على صواب فيما يقومون به، أما عن رجال القانون والمشرعين فوظيفتهم هنا فيما يخص أمن الدولة هو فقط نقل مجموعة أفكار وأمثلة لطلاب كلية الحقوق لا يفهمون منها شيئاً.
كنت من الطلاب الحريصين على حضور محاضرة “قانون العقوبات الخاص: أمن دولة” وكان لا بدّ لي من الخروج من منزلي في الساعة التاسعة صباحاً أي قبل المحاضرة بساعة لأن الطريق من بيتي في حي ركن الدين للجامعة في البرامكة يحتاج بالسيرفيس (ميدان- برزة) حوالي عشر دقائق في الUsual traffic كما يسميها تطبيق الGoogle map أي من دون الوقت الضائع على حواجز “التفتيش” و”التفييش” في ساحة شمدين والجسر الأبيض التي تتضاعف الوقت أحيانا أربعة أضعاف الوقت المطلوب، وفي حال لم أجد سيرفيس (ميدان برزة) وهذا ما كان يحدث في الغالب، فعلي أن أمشي من بيتي حوالي ربع ساعة للوصول إلى “ساحة شمدين” في نهاية الحي، حيث أنتظر هناك سيرفيس (الشيخ خالد) الذي يوصلني لجسر الرئيس ومن ثم أمشي بضع دقائق لأصل باب الكلية حيث تفتيش الحقائب يأخذ أحياناً عشر دقائق فأصل إلى المدرج في الطابق الثالث من المبنى الجديد قبل خمس دقائق فقط من المحاضرة.
بعد ثورة آذار 2011 حين غطت المظاهرات أرجاء سوريا بدأت مداهمة رجال الأمن للمنازل بشكل دوري، مع التركيز على بعض الأحياء، يفتشون البيت ويسألون بضعة أسئلة عن أفراد الأسرة ويتفحصون هويات الشبان ويقارنوها بلائحة أسماء المطلوبين الموجودة لديهم. يُسأل الشاب عن وضعه الاجتماعي والدراسي والعسكري وإذا لم يتطابق اسم الشاب مع أحد الأسماء الموجودة في اللائحة تعاد له هويته وتغادر المجموعة الأمنية المنزل تاركين البيت في حالة فوضى وساكنيه بحالة خوف وصدمة تنتهي بجملة الحمد لله مرقت على خير، وفي حالة وجود تشابه اسم أحد شبان العائلة مع الأسماء الموجودة في اللائحة يُؤخذ الشاب إلى حيث لا يعلم أحد. ويكون من الأفضل لو تواجد بعض أفراد العائلة أثناء المداهمة ففي حال كان المنزل خالياً يقوم عناصر الأمن بكسر الباب وقلب البيت رأساً على عقب ولديهم الصلاحية (لا أعرف بموجب أي قانون) في إتلاف موجوداته إذا كان هناك شك بأن أحد ساكنيه من المطلوبين أو كانت المنطقة من المناطق “المغضوب عليها”.
فمؤلف الكتاب الأستاذ “الكبير” جاك الحكيم لم يستطع رغم باعه الطويل في القانون أن يشرح الأسباب الموجبة لتجريم شخص ما بالتآمر على أمن الدولة أو النيل من عزيمتها أو إضعاف شعورها القومي، لذلك كان يسوق المادة على شكل أمثلة لا يمكن حصرها
أول مداهمة لبيتنا كانت يوم أحد، لم أستيقظ على المنبه بل على صوت طرقات قوية على الباب، دخلت مجموعة أمنية في الساعة الثامنة إلا خمس دقائق صباحاً إلى بيتنا ليفتشوا عن مطلوبين، كان علينا أنا وأخواتي أن نقف في مكان يمكن لرجال الأمن أن يرونا، وأخوتي الشباب كان عليهم الخروج مع هوياتهم “للتفييش”، وبينما أمي تنتظر إخوتي بعينين مشدوهتين سأل أبي رجل الأمن: شو في يا ابني؟ فأجابه: في مؤامرة كبيرة على أمن الدولة وعم ندوِّر ع المتآمرين..
استغرقت العملية حوالي ربع ساعة فقط ولكنني لم أصحُ من الصدمة إلا بعد أن غادر رجال الأمن بنصف ساعة، كنت خلالها أتبادل النظرات مع أفراد أسرتي دون أن ينبس أي منا بكلمة، حتى قررت أختي أن تقطع الصمت فنظرت باتجاهي وقالت: أنتِ ما عندك محاضرة اليوم؟
كانت الساعة الثامنة و45 دقيقة وأنا ما زلت في ثياب البيت والأمن منتشر بكثافة في الحي. في الساعة التاسعة والنصف خرج أبي لعمله واتصل بي ليطمئنني أن الأمن غادر وبإمكانية خروجي إلى الجامعة. ركبت سيرفيس “الشيخ خالد” الساعة العاشرة وبقينا أكثر من نصف ساعة على حاجز الجسر الأبيض وما خلفه من ازدحام، حيث وصلت الجامعة في الساعة الحادية عشر أي في وقت الاستراحة الذي يقسم المحاضرة.
جلست في الكرسي الذي كانت قد حجزته لي صديقتي بجانبها، فرأيت مقابلي على اللوح شريحة Power Point مكتوب عليها: جريمة التآمر على أمن الدولة. لملمت أغراضي وخرجت من المحاضرة بعد أن كتبت لصديقتي على دفترها أنني كنت في تطبيق عملي لهذه المحاضرة، حيث شاهدت المتآمرين على الدولة وأمنها وأبنائها بأم عيني، ولستِ بحاجة لمزيد من الشرح، أنتظركِ في مقصف العائدي..