ذاكرة لجوء

إلى أنثى دمّرت قانون “أرخميدس”..! إلى (ر….إ)

هُنا في “غازي عينتاب” نتناثرُ على الأرصفة نحن السوريين، ونذوبُ بين العابرين بهيئاتٍ حزينة، كما تذوبُ “الدوندرما” بين شفاهِ الكواعبِ والعاهرات والقديسات!

 نحيا هنا على هامش المجهول، ونتشابهُ مع الآخرين، فقط بالظلال، لكنْ، حتى ظلالنا لها انحناءاتٌ استثنائية، تميلُ كالبوصلاتِ نحو البلاد القتيلة، صوبَ الغسقِ المتجمّرِ كأعينِ الأمهاتِ اللائي فقدنَ أكبادهنَ في حربٍ نهمةٍ أكلت حتى الحجارة ولم تشبع!

هنا… في “غازي عينتاب”، أصبحتْ كل الطرقات تعرفُ صدى خطواتي.. ويعرفني أيضاً سائقو التكاسي، والأشجارُ، والمقاعدُ، وبائعو الخمور الرخيصة، والشرفاتُ الواطئة.. والقطط الشاردة والكلاب.. كلابُ منظمات المجتمع المدني، الذين يتقاضون ألوف الدولارات مقابل تقاريرَ يومية “تفيد بأن الثورة قد ماتت!”.

مرةً… أيها السادة، قررتُ التلصُّصَ من ثقبٍ في قلبي على حبٍّ جديد، تقريباً منذ عام ونيف؛ كانت أنثى جميلة كغزالةٍ تختالُ أمام قطعان أيائل.. جاءت إليّ وكأن الكرة الأرضية ترتدي الفراديسَ، وتتسربل فستاناً من حقول الكستناء؛ وكانت أجمل من تفاحةٍ ناضجة في كفِّ عروسٍ هربت من الجنّة كي تلتقي بحبيبها.

هنا، في “غازي عينتاب” لا نجاةَ لي سوى (الحبّ)؛ ففي هذا اليمّ المتلاطم والمغتلم وجدتُ نفسي محاصراً، بالماضي تارةً، والدهشة الحاضرة تاراتٍ أخرى، ولم أدرِ حتى هذه اللحظة من كتابة هذه الكلمات أنني على قيد الهواء، أم إنّ الذي يكتبُ بالنيابة عني شاعرٌ جاء إلى عام 2019 لمدة ساعاتٍ لينجزَ رسالتي هذي ويمضي إلى قبرهِ الذي ولدَ عنده عام 1981..!

أنا مجزرة جماعية… الآن، بل إنني مقبرةٌ على تلالٍ باسقة، فارغة، لا يوجد فيها سوى قبرٍ واحد، فارغ، تركه القدرُ كي أموتَ مرةً أخرى وتضعَ أمي الزهورَ عليه وتسقيها بدموعِ النائحات!

مرةً… أيها السادة، قررتُ التلصُّصَ من ثقبٍ في قلبي على حبٍّ جديد، تقريباً منذ عام ونيف؛ كانت أنثى جميلة كغزالةٍ تختالُ أمام قطعان أيائل.. جاءت إليّ وكأن الكرة الأرضية ترتدي الفراديسَ، وتتسربل فستاناً من حقول الكستناء؛ وكانت أجمل من تفاحةٍ ناضجة في كفِّ عروسٍ هربت من الجنّة كي تلتقي بحبيبها.

كنتُ قد خرجتُ للتوِّ من (حبٍّ) أذاقني ترياقاً مسموماً!… وأتنقلُ على عكازٍ بإيقاعٍ بطيء، كحصانٍ كُسرَ ظهره جرّاءَ الركضِ السريع، واللهاثِ وراء ضبابٍ يفضي إلى الهاوية؛ حتى سقطتُ متحطماً فوق صخور الحقيقة في هاوية سحيقة لم أُنتشل منها إلا على هيئةِ رجلٍ متشظّي الأطراف، والمشاعر، والذكريات، والماضي والمستقبل!

  • من قال لكم إنني لم أكن قادراً على ابتلاع هزيمتي؟

كنتُ بائساً ويائساً لدرجة أنني فكرتُ بالانتحار مرتين، ومرةً واحدة حاولتُ ذلك، لكنني لم أفعلها؛ بعد أن علّقتُ “حبلاً دقيقاً” من البلاستيك في سقف غرفتي، تتدلّى منه أنشوطة، وقمتُ بتحضيرِ طقسٍ جنائزي لجثتي المبتسمة… فقأتُ عينيّ المصباح الكهربائي، وأشعلتُ الشموع، وأغلقتُ النوافذ؛ عقبَ ذلك، أغلقتُ هاتفي “الجوال”، وكتبتُ رسالة قصيرة، مفادها: “شعورٌ مؤلم إذا لم يشعر الإنسان بالألم“!… وذيّلتُها بعبارة: “ادفنوا جثّتي على تلة كي يتسنى لي مشاهدة هذا العالم القذر“.

فجأةً؛ وأنا أحيطُ عنقي بتلك الأنشوطة، تَبدَّى لي وجهُ أمي، باكياً، وملامحُ السجّان الذي كان يشرفُ على تعذيبي في (فرع 215)، وابتسامةُ أختي الصغيرة، ووجوه أصدقائي القتلى، وبابُ منزلنا، وأيضاً، سمعتُ أصواتاً غريبة، تهمسُ في أذنيّ: «لا.. لا.. لا تفعل…» وكانت نارُ الشموعِ تتراقصُ وتميلُ (كظلالنا) صوبَ اليمين والشمال رغمَ أنني أغلقتُ النوافذَ، وليس بإمكان الهواء أن يتسللَ إلى غرفتي، أو إلى رئتيّ بعد أن أختنقَ، ويتدلّى جسمي، وأصبحُ كأرجوحة الأطفال، أو كرقاص ساعة الجدار، برتابةٍ.. أروحُ مرّة تجاه الجدار الذي علقتُ عليه بعض اللوحات والصور الرمادية والذكريات المُعطّلة، وأخرى أندفعُ صوبَ الجدار الآخر، الذي تفضّ بكارته نافذةٌ  تطلّ على الحياة… هكذا، حتى تسكنُ حركتيْ، وتهدأ الشموع، ويعمّ الصمتُ أرجاء المشهد، وينتهي صريرُ موتي!

فككتُ الأنشوطة، وكأنني أحررُ عبداً من الامتهان، من الوأدِ اليومي الذي يحيقُ به، وترجلتُ عن موتي ببطء، مثل فارسٍ قاتلَ في كل المعاركِ وجندلَ أغلبَ فاتكي العرب، فهزمتهُ أنثى لا تتجاوز أظافرها طولَ بظرِ مومس منحت جسمها للعابرين ثلاثين عاماً..!

  • لكنني لم أفعلها… أتعرفون لماذا؟

نظرتُ إلى النافذة تلقائياً، بعد أن سمعتُ جلبةً خفيفة حينها، ومن ثمّ أشحتُ بقلبي نحو “التلفاز” الذي لا أغلقه إلا في أوقاتِ خروجي من المنزل، وأنا أمعنُ النظرَ في الشاشة السوداء، وتخيّل إليّ أنّ هناك في أسفلها  شريطاً إخبارياً يمرُّ كحشودِ نملٍ مسرعة، ينقلُ خبرَ انتحاري في غرفةٍ ضيقة كهذا العالم القذر، وواسعة كالحبّ الذي منحتهُ لتلك الأنثى التي ارتأت أن تبيعَ قلبي بحفنةِ دولارات وتسافر إلى “فرنسا” أو إلى “كندا” مع (حبيبها الجديد!)..

لم أفعلها… وبقيتُ مسمّراً مكاني لأكثر من دقيقة، وتحت قدميّ ذات الكرسي الذي كانت تجلس عليه (حبيبتي).. أعرف، هي ذهبت، غادرتني، ولم يغادر هذا الكرسي، بقيّ يحملُ جسدي المثقل بالهزائم، وبالمقابر، والطعناتِ العابرة، المقصودة واللامقصودة؛ نعم، غادرتني وغدرت، ولم يتزحزح هذا الكرسيُ أو ينسحب من تحت قدميَّ كي أغادرَ أنا هذا العالم القذر…!!

لم أفعلها… كنتُ أزدردُ ريقي ليس خوفاً من الموتِ، فأنا عهدتهُ كثيراً، وأعرف مذاقه جيداً، إنما كنتُ أجمعُ كلَّ البصاقِ الذي أفرزتهُ غددُ البشرية كي أقذفه في وجه هذا العالم القذر، عسى أن يغطي نهرٌ من البصاقِ (شرفَ) الطاغية بشار الأسد وسلالة أمراء وملوك الخليج الذين أوصلوني إلى “غازي عينتاب” كي ألتقي بهذه الأنثى القاتلة التي تحاول العودة الآن إلى تركيا، بعد أن قضمت الكلابُ ثدييها وعفتها، لتكون إلى جانبي.. هكذا أرسلت لي رسالة منذ أسبوعين تقريباً مع صديقتها النمّامة!

لم أفعلها… لم أنتحر!

فككتُ الأنشوطة، وكأنني أحررُ عبداً من الامتهان، من الوأدِ اليومي الذي يحيقُ به، وترجلتُ عن موتي ببطء، مثل فارسٍ قاتلَ في كل المعاركِ وجندلَ أغلبَ فاتكي العرب، فهزمتهُ أنثى لا تتجاوز أظافرها طولَ بظرِ مومس منحت جسمها للعابرين ثلاثين عاماً..!

عدتُ إلى الأريكة، وشعرتُ أنني أطفو، دون وزن! حتى وجدتُ نفسي في سُرادقِ العزاء، في الحُلم، أعزّي بموتي، وأشاهدُ التأبينَ بعينين خاويتين من الأحداق!

لا تستعجلوا أيها السادة.. لم أمتْ.. عدتُ كحصانٍ إلى الحياة، مكسورَ الظهرِ، وعنقي إلى الأسفل، دائماً، أخجلُ من خيباتي، وانهزامي أمام أنثى لم أكنَّ لها سوى الزهور والعطرِ والهيام!

نعم، بعدها، عرفتُ حبيبتي التي كانت أجمل من الغزالة، وترتدي فستاناً من حقول الكستناء… هكذا، مصادفةً، كنت أمشي ببطء، بعكازٍ نحو مقر عملي المؤقت في “غازي عينتاب” للإشراف على ختام ورشة تدريبية لصحافيين أغرار، كانوا يتدربون على مبادئ الإعلام، والحملات الإعلامية.. وكنتُ قد جلبتُ معي نبتةً خضراء كهدية للمقرِ الذي استضافَ تلك الورشة. أحملُ بذراعٍ تلك النبتة، وأتأبّطُ عكازي!

دخلتُ إلى بهوِ ذاك البناء؛ رأيتها عن بُعد، تجلسُ وراء الطاولة، ولم يكن الكرسيُ تحتها يشبه الكرسيَ الذي كان تحت قدميَّ يحملُ جسمي منذ شهرين تقريباً، حينما كنتُ أنوي إغلاقَ صنبورِ حياتي الثرثار!

  • لقد حزنتْ كثيراً تلك الجميلة، لكونها أدركت أنّ تلك النبتة ليست لها، وعاتبت قلبي بنظراتها!

بعد أقل من أسبوع، اعترفتُ لها بعد أن التقينا في الحديقة، صباحاً، أن النبتة كانت لها، وأنني أزمعتُ قبل أيام من ذهابي إلى حفل ختام الورشة التدريبية أن أجلبَ لها هدية تشبهها؛ ولقد كان بودّي أن تكون الهدية باقةَ زهور، أو قبلةً بين عينيها الجميلتين، أو حتى همسة، في مسمعها أقولُ عبرها: “وجدتكِ.. وجدتكِ.. أوريكا.. أوريكا”… كما صاحَ “أرخميدس مثل المجنون في شوارع اليونان حينما اكتشف قانونَ الطفوِ.

  • أنا أطفو الآن في شوارع “غازي عينتاب”.. وحدي كل ليلة، وأغلب ساعاتِ النهار! كم أشعر بأنني بلا وزن… دونكِ أنا بلا وزن!

هنا.. في “غازي عينتاب”، يضعون في منتصفِ أرصفة المشاةِ ممرّاً بلاستيكياً لونه أصفر، لذوي الاحتياجات الخاصة (العميان)؛ هو ممرٌ ناتئ، يسير عليه العميان بعصيّهم، ويسترشدون غاياتهم من خلاله درءاً للاصطدام بأحد، أو مخافةَ أن يتعرضوا لحادث مروري ما..

أنا الآن.. هكذا، أسيرُ فوقه، كل يوم، لعلّه يوصلني إلى قلبكِ.. فأنا ضريرُ القلبِ دونكِ؛ غيابُكِ حاضرٌ في كل مكان!!

في “غازي عينتاب”.. كل يوم، حينما أخرجُ نحو الحديقة التي تقابلنا فيها للمرة الأولى، أنظرُ إلى كفّيّ وأحصي أصابعي التي صافحتكِ، وأتمنى أنها ذهبت معكِ حينها… أمشي وأتحاشى الجلوس تحت “شجرتنا”، فهي ليست جميلة إن لم تكوني تحتها مستلقيةً مثل زهرةِ بابونج تتضوّعُ نحو الجنوب، إلى البلادِ التي قضمتها الحروبُ وتناقلها السفلةُ بين أصابعهم الملوثة بدماءِ الأطفالِ والحدائق النضرة!

أنا أطفو الآن يا حبيبتي.. بلا وزن، وكأنني ورقة من أرواق تلك النتبة التي لم تحظَ بها أصابعكِ، التي جفّت في مكانٍ لم يكن يرعاها…!

لقد هربَ ظلي مني! وقتَ أن سُلطَ عليّ ضوءٌ لا يشبه ذاك الضوء الذي فقأتُ عينيه حينما كنت أريد الانتحار منذ عام وأشهر..! كان الضوء هو لرجال الشرطة (البوليس)، يتساءلون عن سبب وجودي في هذه الساعة المتأخرة وحيداً…؟! ولم يتساءلوا عن “النبأ العظيم” الذي جعلني هنا في هذه الساعة المتأخرة..!

حبيبتي.. سوف أعترفُ لك الآن بسرٍّ عميق، أعمق من كل الآبار، وأرجوكِ ألا تخبري به أحد…

«البارحة، في هزيع الليل بعد أن بكيتُ كثيراً، وأنا أتكوّرُ تحت غطائي مثل طفلٍ فقدَ دميتهُ، أيقظني صوتٌ خرجَ من الجدار يصرخ “كوكو.. كوكو.. ها.. هاا.. هااااا“، فاستنهظتُ مُهجتي، ووقفتُ على ساقٍ واحدة مثل طائر النحام، وبعبثيةٍ مُفرطة وأنا أمسحُ دموعي ارتديتُ ملابسي وابتسمتُ لحقل الكستناء في ذاكرتي؛ وبعشوائيةٍ خرجتُ من المنزل نحو الحديقة… كنتُ أتكلمُ مع القطط العابرة، وحتى إنني جعلتُ أخاطبُ ظلي المائل، الذي يتّجه كبوصلةٍ نحو منزلكِ.. بأن قلتُ له: “هي نائمة الآن.. اتركها تغفو مثل نحلةٍ تعطي العسلَ لكنها تلسع في الوقت المناسب“. وصلتُ إلى “شجرتنا” الأخرى، (القزمة)، وكان البردُ أيضاً يلسع، لكنه كان يلسع عن غير قصد!… جلستُ هناك، وبكيتُ مراتٍ كثيرةً وشعرتُ بأنّ قلبي سوف يتوقفُ من فرطِ البكاء، فلم أمنحه تلك الفرصة بأن يتوقّفَ دون أن أراكِ مرةً أخرى، وبعدها… فلتندثر البشرية كلها.

لقد هربَ ظلي مني! وقتَ أن سُلطَ عليّ ضوءٌ لا يشبه ذاك الضوء الذي فقأتُ عينيه حينما كنت أريد الانتحار منذ عام وأشهر..! كان الضوء هو لرجال الشرطة (البوليس)، يتساءلون عن سبب وجودي في هذه الساعة المتأخرة وحيداً…؟! ولم يتساءلوا عن “النبأ العظيم” الذي جعلني هنا في هذه الساعة المتأخرة..!

وحيداً!!… إنني أضحكُ الآن بقلبٍ ممزّق وأنا أكتبُ هذه الكلمات، أو أن الشاعرَ الذي جاء إلى عام 2019 كي يكتبها بالنيابة عني ولم يعد إلى مكان ولادته أمام القبر عام 1981، يضحك أكثر، ويقهقهُ، كتاجرٍ جشع في سوق الحميدية (حلب أو دمشق) قد ربحَ بصفقةٍ لم يدفع ضمنها سوى حنكته أو خداعه!

تواريتُ يا حبيبتي عن أنظارهم، وعن الشجرة (القزمة).. ومضيتُ نحو الحديقة المائية، وأخذتُ أمشي ولا أسمع سوى صدى خطواتي، التي كانت تعرفها طرقاتُ “غازي عينتاب”، فلم أجد سائقي التكاسي الذين يعرفونني، ولا حتى بائعي الخمور الرخيصة، ولا حتى القطط، وكلاب منظمات المجتمع المدني..

نعم… “وحيداً كشجرتين”؛ قلتُ لهم.. فأصرَّ أحمقهم أن يفتشني، بعد أن تقيّأ كلماتٍ عنصريةً عن السوريين في “غازي عينتاب”: “سوري؟ سوريلم.. هالله هالله..!”

رفعتُ ذراعيّ أمامهم، وكأنني أستسلمُ في معركة، وأنا الطرفُ الخاسر.. أنا الجنديُ الذي تلقّى رصاصة في ركبتهِ ولم يستطع الزحفَ أكثر، نحو خندقِ أصدقائه، أو إلى المجهول!

لقد طلبَ مني بطاقتي “الشخصية– الكيملك” وهي بطاقة الحماية المؤقتة هنا في تركيا، للسوريين؛ ومن سخرية القدر، أننا لا نحظى إلا بالأمور المؤقتة! فمنذ أربعين عاماً ونحن حكرٌ ومرتهنون لعائلة الأسد وحلفائهم القتلة… حماية مؤقتة.. هاااا.. هااااااا.. هااااااااااا؟ نعم، لم أدرِ أنني كنتُ أيضاً تحت جُنحيكِ وفي قلبكِ يا حبيبتي تحت الحماية المؤقتة!

خرجتُ يا حبيبتي من تلك المعمعة بأن طردوني ونهروني مثل متسكعٍ أجرب، وقالوا لي: “كتْ.. كت.. إيف، اذهب.. اذهب إلى منزلك“. وأنا، كنتُ لا أريد إثارة المشاكل، فطاوعتهم، ومضيتُ دون أن أُحدثَ أية جلبة، وخاصةً تلك التي كانت تشبهُ الجلبة التي كانت تصدحُ خلفَ نافذتي وقتَ قررتُ وصمَ رئتيّ بالاختناق.

حبيبتي… كنتُ بائساً ويائساً، وكان باستطاعتي أن أجعلَ من وجه ذلك المتغطرس خريطةً  للغرقِ  بمجردِ أن أعيدَ بصاق البشرية وأبصقَ في وجهه اللئيم.. لكنني قلتُ في نفسي “يجب أن أتوقفَ عند هذا الحدّ، وأكبح جماحَ الشيطان بابتسامة.. وأمضي…

تواريتُ يا حبيبتي عن أنظارهم، وعن الشجرة (القزمة).. ومضيتُ نحو الحديقة المائية، وأخذتُ أمشي ولا أسمع سوى صدى خطواتي، التي كانت تعرفها طرقاتُ “غازي عينتاب”، فلم أجد سائقي التكاسي الذين يعرفونني، ولا حتى بائعي الخمور الرخيصة، ولا حتى القطط، وكلاب منظمات المجتمع المدني.. وأيضاً، للتندّرِ، وقفتُ أمام حارس الكوّة عند الحديقة المائية بعد أن أيقظته، الذي كان يغفو مثل قبرٍ على تلة، وقلتُ له “أريد بطاقتين، لي ولحبيبتي…” فصرخَ في وجهي، وأضافَ باستهجان: “كتْ.. كت.. مجنون.. حيفان.. اذهب.. اذهب.. مجنون، حيوان”!

نعم.. أنا حيوان.. يا حبيبتي..

أنا الآن حيوان جريح، حصان مكسور الظهر والعنق، قط، ذئب.. أرنب.. لا أدري!

أريدُ فقط يا حبيبتي أن أهديكِ نبتةً جديدة، ولا يعاتبني قلبُكِ بأنّ غبيّاً أخذها إلى (مكتبه).. أريد لهذه النبتة أن تصبحَ باسقة، شاهقة، وتصلَ إلى السماء، مثل حبة الفاصولياء التي اخترقت الغيم في “أفلام الكرتون” أيام طفولتنا..

هذا هو السرُّ العميق، العميقُ يا حبيبتي.. وهنالك سرٌ آخرُ سأبوح به لكِ حينما تزورين قبري أعلى التلة، وأنا أشاهدُ هذا العالم القذر.

أنا أطفو الآن… أنا بلا وزن، أنا أخفُّ من شعرةٍ على شكلِ أنشوطة تتدلّى على جبينكِ يا حبيبتي…!».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثلاثة × 5 =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى