أنْصِتُوا… الموتُ يغنّي في الشارع المجاور!
لكل ثورة أبناؤها… وأبطالها، الذين يقفون صامدين لحمايتها؛ هم يملكون الإيمان التام بقضيتهم ويتحملون ما يصعب على العقل البشري تحمله متناسين الخوف والنهايات المجهولة لأقدارهم.
لم يكن هناك أبطال استثنائيون في نظري، فكل من يعيش في مدينة “الفنتازيا” (حلب)، هو بطل، يذكر اسمه بسطور، أو نسرد قصته ذات ليلة لأبنائنا. فاليوم هذا البطل هو رجل من نوع مختلف، قد لا يذكر يوماً في كتب التاريخ، وقد ينسى ذكراه ويمرّ مثل غيره من أبطال الثورة السورية بين طيات النسيان رغم أفعالهم المستحيلة التي غيّرت مسار مراحل كثيرة، ومستقبل أناس كُثر.
كنت في أغلب الأيام أمرّ في شوارع بستان القصر، متجهةً لعملي، وبمجرد مروري أسمع صوت ذلك الدرويش يملأ الحي، الذي كان يغطي على هدير الطيران بمواويله التي تدور حول الأوضاع السورية، بكلمات من تأليفه؛ وعند انتهائه، كانت تغطي ضحكات الشباب على الألم والحزن اللذين يحملونهما في دواخلهم.
نعم؛ سأروي قصة “أبو محفوظ” عندما يسألني أبنائي عن أسماء من كانوا صامدين إلى نهاية أيامنا هذه في مدينتي.. وسأحكي لهم عن “أم وائل”؛ جارتنا التي كانت دائماً تلقي عليّ التحية، وتسألني عن أحوالي
“أبو محفوظ” رجل في 37 من عمره، درويش.. أو كما كان يقال عنه في اللهجة العامية (على البركة)؛ متزوج من امرأة في مثل حالته.
فعند قدومه يلتف حوله الشباب ويقولون له (عطينا موال)؛ مع مزيج من الضحك، أو يقول له أحدهم: (فكلّنا ضغط فلان أو فك ضغطي)، فيبدأ مواله باللهجة العامية.
ذات مرة، غنّى موالاً و”فك ضغط” الهلال الأحمر قائلاً: (والله عليكن ضغط يا هلال الأحمر والله انتوا عيوني وأنتوا جفوني ياايااب يااايااب).. خالطاً كلامه ببعضه ما يبعث على الضحك فيملأ الخراب الذي حولنا بألوان خاصة، لها رونق جميل، ما يجعل الطفلة التي كانت تأتي لأخذ الدواء من شباب الطبيّة- بكرسيها المتحرك عوضاً عن ساقيها المبتورتين- تصدر ضحكات جميلة لتكمل تلوين باقي الدمار.. تضحك ملء قلبها وكأنها فتاة تركض على مرج أخضر مرتدية فستان مزركش وحذاء لامع كأميرة عربية.
- نعم للضحك لون خاص ليس كباقي الألوان، لونٌ اسمه الأمل! وهذا اللون كان يصنعه أحياناً سكان هذه المدينة المنكوبة..
لم يعش “أبو محفوظ” حالة من الفقر المدقع والتشرد كما هو حال مثل هذه الناس، إذ كان كثير من سكان الحي ما يترددون عليه ليمنحوه نقوداً أو طعاماً، ولم يكن هو من الدراويش الذين يطلبون الصدقات إذ كان يتعفف كل مرة.
قد يكون “أبو محفوظ” هو أكثر سعادة منا، وأكثر قوة بكثير من معظم الرجال، فنهايته هي الشاهد على القوة التي كان يتحلى بها..!
- النهايات دائماً تكون بمثابة أوسمة شرف لمن لا يتسنى له أن يكرّمه قاتل بمراتب عالية.
سمعت بعد خروجنا من حلب أن “أبو محفوظ” تم دعسه! وقد قيل عمداً.. بدبابة لنظام الأسد، ولم أكن شاهدة على موته بهذه الطريقة التراجيدية!
نعم؛ سأروي قصة “أبو محفوظ” عندما يسألني أبنائي عن أسماء من كانوا صامدين إلى نهاية أيامنا هذه في مدينتي.. وسأحكي لهم عن “أم وائل”؛ جارتنا التي كانت دائماً تلقي عليّ التحية، وتسألني عن أحوالي، وتقول لي أن أسال لها عن عمل لولدها الذي كان يبلغ من العمر 18 سنة. فهي لم تعد تصبر على غيابه الدائم عن البيت، ووقوفه على الجبهات لإسعاف المصابين، أو الحراسة الليلية. فدائماً ما تقول لي: «عليّ أن أزوجه لكي “يركز” ويبقى قربي». فهو وحيدها، بعد أن اختفى ابنها الأكبر! وكالعادة، كانت تقول لي ولنساء الحي: «هو شمعة بيتي الوحيدة». وفي أحد أيام تشرين الثاني كما أذكر عام 2015، ودّعت أم وائل ولدها على باب المنزل وهي تقول له: «اليوم، سوف أطبخ ملوخية، لا تتأخر على البيت لن آكل حتى تأتي».. وتردف: «لا تذهب اليوم أرجوك، غداً اذهب إلى عملك»؛ ليقاطعها والده: «دعيه.. هو رجل هذا البلد، والكثير من الناس الضعفاء بحاجته». مرّ يوم كامل لم يعد فيها ابنها، ولم تسمع أي خبر عنه!
في اليوم الثاني أتت لزيارتنا. دخلت لتجلس مع أمي، ولكن على غير عادتها؛ فلم تكن تتحدث كثيراً، ولم تتحرك شفتاها حتى بابتسامة صغيرة! مرددةً بعد صمت طويل: «أشعر أن هذا لا ينتهي»، ثم تصمت لتكرر ذات الشكوى، وهي طوال اليوم مكتئبة؛ وهذه الحالة فعلاً كانت تلازمنا جميعاً!
نعم، كان كل ما حولنا يدعو للقلق، والخوف، ولا يوجد سبب واحد لكي يجلس أحدنا مرتاح البال، وخصوصاً حين يعلو صوت الطيران، أو عند إلقاء الصواريخ فجأةً، مصدرة صوتاً قوياً تجعلنا ننطق بالشهادتين، لأنه باختصار قد يكون حتفنا!
صوت الطيران (سياطه) اختلط مع الشتاء، عبر نسمات الهواء الباردة، وضوء “الكاز” الذي ينير الغرفة كلها! وتلك أمور قد تدعو إلى هدوء كئيب ومقيت؛ ليقطع السكون صوت أمي مرددة كلمتها التي اعتدنا على سماعها: «لقد عدنا 50 سنة الى الوراء»! وهذه العبارة لا تقولها إلا عندما ينفد (الكاز) من (اللمبة)، وهي عبارة عن زجاجة رقيقة طولها تقريبا 30 سم؛ ضيقة من الأعلى لتأتي من الأسفل عريضة، قريبة من شكل مزهرية الورود، ترتكز على قاعدة ممتلئة (بالكاز)، ويخرج عبر فتحة فتيلة عريضة تشعل النار.
أشرد غالباً بنفس الفكرة التي كانت تراودني وهي نحن الآن مقسومون إلى عصرين: عصر الحداثة والطاقات الكهربائية المنتشرة بكثرة، وعصر نقرأ ونكتب فيه على الشمعة، ونتدفأ على الأخشاب، ونتسلى بالحكايات أيضاً بعيداً عن التكنولوجيا والحداثة!
كانت جارتنا كل دقيقة تمسك بهاتفها لترى ما إن كان ولدها قد بعث لها برسالة؛ ناطقة بصوت مرتفع: «آخر ظهور له منذ الأمس!».
لتطمئنها أمي وتهدّئ من روعها وتدعو له، وتقول لها أن لا شيء يدعو للقلق.
في الواقع، كانت أمي مخطئة، أو لربما كانت تتكلم مع جارتنا فقط لتبعثَ في نفسها الطمأنينة.. نعم، كان كل ما حولنا يدعو للقلق، والخوف، ولا يوجد سبب واحد لكي يجلس أحدنا مرتاح البال، وخصوصاً حين يعلو صوت الطيران، أو عند إلقاء الصواريخ فجأةً، مصدرة صوتاً قوياً تجعلنا ننطق بالشهادتين، لأنه باختصار قد يكون حتفنا!
وقفت “أم وائل” مودعةً إيانا، قائلة: «سوف أذهب لأعدّ الطعام، فعادة يأتي ابني في هذا الوقت». تبعتها أمي عند الباب… فسمعنا بوق سيارة تركن أسفل البناء. نزل منها شاب وسأل عن بيت “أبو وائل”. ثم صعد المبنى ليطرق الباب. فتح له “أبو وائل”. لم نسمع إلا صوته، يردد: «حسبنا الله ونعم الوكيل!».
علمنا حينها أن شمعة جارتنا قد انطفأت!.. وفي هذه المواقف، عادةً، لا نعرف التصرّف! ماذا يجدر بنا أن نقوم به؟ وهل ممكن أن نواسيها بكلمات بسيطة في هذه الفجيعة التي أصابتها، أم ننظر إلى فجائع الآخرين اليومية!؟
الحزن هو الشيء الوحيد الذي يسيطر على كل الألوان.. ومعظمنا يخصص لحزنه حالة استثنائية! ولا يمكن وصف تلك الحالة إلا بمراقبة وارتقاب صاحب الكرب ذاته عن بُعد، حتى نتمكن من الإحاطة ببضع تفاصيل!
هو الموت؛ الحقيقة الواضحة، والصدمة الأقوى. هو أكثر الحقائق التي ننكرها، رغم أنه الواقع الوحيد الذي يفترسُ الحياة!
في الحرب يتجلّى هدف كلا الطرفين (النظام والمعارضة)؛ هو موتُ الآخر، مع أن النهاية المحتمة لكل الوجوديات هي الفناء.
للموتِ أيضاً لونٌ، لا نراه، ألا عندما نحضن للمرة الأخيرة فقيدنا. في الحقيقة نحن نفقد أنفسنا، ليس إلا..!
تسلمت “أم وائل” جسد ابنها المسجّى، بوجهه المبتسم؛ وعندما أتت النسوة لتعزينها، كانت تروي لنا قصتها، وكيف أطلقت زغرودة عندما رأته مبتسماً. وتقول: «كان شكله عريس، والله وكأنه عريس، سيزف اليوم».. وتبكي ملء مهجتها!!
“أم وائل” لا أظن أنها ارتدت السواد، إلا عندما ودعت قبر ولدها عند خروجها من حلب؛ حاملة حفنة تراب من قبره، تشمها ليلاً، وقطعة قماش من لباس ولدها الذي دفن فيه!
الحزن هو الشيء الوحيد الذي يسيطر على كل الألوان.. ومعظمنا يخصص لحزنه حالة استثنائية! ولا يمكن وصف تلك الحالة إلا بمراقبة وارتقاب صاحب الكرب ذاته عن بُعد، حتى نتمكن من الإحاطة ببضع تفاصيل!
الفراق حزنٌ أعمى، وله لونه الرمادي، وهجرة الوطن أحزانٌ قاتلة ولها لونها القاتم، وسكاكينها المثلّمة تقطّع القلوب وتترك الحنين ينزف على رخام المنافي!
- نتأقلم مع الموت؟ .. هاااااا؟؛ وبطريقة ما، سوف نتقبّل وجوده الدائم في حيواتنا.