ذاكرة طبيب

شوبنهاور وحيوان الخُلد

في التاسع من أيلول من أحد الأعوام، إذ كلها متشابهة، كتب كارل ماركس إلى رفيق دربه فردرش إنجلز: “لقد عشنا ثمانية أو عشرة أيام تقريبا على الخبز والبطاطا، أما الآن فقد لا نستطيع أن نحصل حتى على ذلك. وأفضل ما يمكن أن يحدث الآن هو أن تلقي بنا صاحبة البيت خارجا، لأنني حينذاك سأتخلص من عبء العشرين جنيها من الأجرة المستحقة علي، ولكنني أشك بأنها تتمتع بهذه الدرجة من اللباقة. ثم إننا مدينون للخباز والخضري والجزار والبقال وبائع الحليب… فكيف بحق الأرض أستطيع أن أسوي هذا المأزق الشيطاني؟ في الأسبوع الماضي استدنت بضعة فلسات من العمّال، كان ذلك رهيبا، لكنه كان ضروريا جدا وإلا متنا جوعا”.

مقارنة بنا، وبوصفه مخلّص الطبقة العمالية، كان كارل ماركس يعيش حياة مترفة باذخة. فهناك على الأقل خباز وخضري وجزار وبقال وبائع حليب يشتري منهم، وإن بالدَين. أي هناك خبز وخضار ولحم وبقول وحليب. وماذا يطلب الإنسان أكثر من ذلك سوى قليل من الحرية والكرامة حسب الرغبة؟ ثم كان لديه “إنجلز”. أنا لم يكن لدي “إنجلز” أرسل له مآزقي الشيطانية فيرسل لي أوراقا مالية. كما لم تكن لدي زوجة مثل السيدة ماركس تُذكِّر أصدقاءه بسابق فضله عليهم وبواجبهم أن يسألوا هم عنه، حتى لو تناساهم كبرياء منه وانشغالا وجوعا. بل إنك لو اتصلت بأحدهم مدفوعا برغبة أن تسمع صوته قبل أن تموت، لسارع يشكو إليك سوء حاله، لا لشيء طبعا إلا لأنه يربأ بك عن التسول. ثم تَراك تلتمس له شتى الأعذار الاقتصادية: من الطبيعي أن يكون للأغنياء أو المكتفين ماديا نفقات تفوق نفقاتك. لذا فإن الفقير من هذه الناحية أحسن حالا من نظيره محدث النعمة،  أما المعدم فيعيش في جنة مع الشهداء والرِّبيين والصالحين. “إنها لحياة هذه؟” تختم السيدة ماركس رسالتها. فأجيبها: “لا والله مش حياة، لكنها المتاح”. كنت أواسيها طبعا، أي أكذب عليها. أكذب على نفسي، كما كنت أفعل مع كل المرضى المراجعين. كلهم كانت لديه مشكلات صحية جسدية حقيقية، لكن أكثرهم ما كان يأتيك ليتلقى العلاج، هو يعرف أنه ما من دواء في مخيم كانت فيه في سالف الأزمان بين الصيدلية والصيدلية صيدلية أو محل لبيع الشاورما. كان يأتي إلي ليتكلم، ليشكو بثه وحزنه، ليستغرب نكران الأهل والأصدقاء وخذلانهم، ثم ينهار باكيا.

كان علي التظاهر بأني مثلا طبيب في منظمة أطباء بلا حدود، سائح يجيد الطب، كائن إنجلوساكسوني مزود بشهادة جراحية يأتي إلى اليرموك يوميا ليعمل أربع ساعات أو خمس، قبل أن يعود إلى فراشه البريطاني الدافئ ومطبخه وحانته وملعب الكريكِت

أكنتَ تسمعهم أم كنتَ كما قال أحمد شوقي:

لقد أنلتكَ أذنا غير واعية …. ورُب مُنتصتٍ والقلبُ في صمم؟

كنتُ بين بين، والقلب في ألم. كنتُ أود أن أقول لكل واحد منهم ما قاله مسكويه لأبي حيان التوحيدي: “لعَمرُ أبيك إنما تشكو إلى شاك، وتبكي إلى باك، وفي كل عين قذى، وفي كل حلق شجى..” لكن الميثاق العالمي للأخلاقيات الطبية والصحية يوصي بكل حزم أنه:

“على الطبيب أن يستمر في تقديم الرعاية الطبية المناسبة للمرضى المصابين بأمراض غير قابلة للعلاج أو مستعصية أو مميتة، ومواساتهم وفتح باب الأمل أمامهم حتى اللحظات الأخيرة من حياتهم”. وأي مرض غير قابل للعلاج ومستعص ومميت يشبه ما عانيناه في تلك الأيام؟

فالطبيب، كما هو معلوم بالضرورة، متعال عن متاع الحياة الدنيا وسَقَطِها. لا يمرض، ولا يجوع، ولا يكفر، ولا يشعر، ولا يشتهي اللحوم بأنواعها، ولا يمازح مرضاه، ولا يكذب… تجسدٌ علميّ حديث للاستنارة البوذية أو لرواقية الإغريق.

لذا كان علي التظاهر بأني مثلا طبيب في منظمة أطباء بلا حدود، سائح يجيد الطب، كائن إنجلوساكسوني مزود بشهادة جراحية يأتي إلى اليرموك يوميا ليعمل أربع ساعات أو خمس، قبل أن يعود إلى فراشه البريطاني الدافئ ومطبخه وحانته وملعب الكريكِت.

وعلي الاعتراف بأن الأمور لم تكن كلها ودائما بهذه السوداوية التي يوحي بها هذا السرد الباعث على الغم. كانت هناك إيجابيات، على الصعيد الشخصي على الأقل. فلولا الحصار ما عرفت مثلا استخدام علامات الترقيم على الوجه الأمثل

وكان أن انقسمنا فريقين: فريق ألحد لما فوجئ أن الإله ليس جنيّ المصباح الذي يحقق لك رغباتك فور طلبها، وفريق اكتشف أن الإله الذي كنا نعبده في سالف الأزمان لما شعرنا بعجزنا أمام ظواهر الطبيعة، هو هو نفسه الذي نعبده اليوم لعجزنا أمام الترسانة الروسية ومتطلبات جهاز الهضم. وبين الفريقين رجال على الأعراف، حافظوا ما أمكن على اتزانهم العقلي والروحي.

شخص واحد أخبرته بحقيقة مشاعري آنذاك، كنت دائما أقول له متصنعا رصانة فلسفية:

“من الحقائق البديهية عند شوبنهاور أن الأحمق وحده هو من يظن أن الحياة تستحق أن تعاش. ولتوضيح فكرته يضرب لنا هذا المثال الوردي المشرق المفعم بالتفاؤل الذي يختصر فيه المشروع البشري مشبها إياه بالخلد الذي مهمته هي الحفر بقوة بقدميه الضخمتين، والظلام الدامس يحيط به دائما. فعلام يحصل من أسلوب الحياة هذا المليء بالمتاعب والخالي من المتعة؟ الغذاء والتناسل، أي فقط الوسائل اللازمة للاستمرار والبدء من جديد في مساره الكئيب نفسه”.

وكان دائما يضحك ويقول لي: “لكن شوبنهاور عُمِّر، وكان أجبن من أن ينتحر، ونهل من ملذات الحياة رغم عبوسه الدائم وصورته التي تثير الرعب في الهالووين نفسه. فكر في النصف المليء من الكأس”.

جاءني مرة مريض، شاب عشريني، يشكو ألما في بطنه. كل الأعراض والعلامات السريرية لالتهاب الزائدة الدودية كانت موجودة لديه. لو كنتَ أستاذا للطب فلن تجد أفضل من هذا المريض كدراسة حالة تجعل طلبتك يقتنعون مرة وللأبد

وعلي الاعتراف بأن الأمور لم تكن كلها ودائما بهذه السوداوية التي يوحي بها هذا السرد الباعث على الغم. كانت هناك إيجابيات، على الصعيد الشخصي على الأقل. فلولا الحصار ما عرفت مثلا استخدام علامات الترقيم على الوجه الأمثل:

الفاصلة خنجر، إشارة التعجب خازوق، الاستفهام مشنقة، علامات التنصيص قذائف تهوي بها الطائرات، الفاصلة المنقوطة حيْرتُك بين سكون الموت ورغبة الحركة، والنقاط المتراصفة مثل فتات الخبز دليلك في درب الآلام إلى الجلجلة. أما الكلمات فيأتي وقتها لاحقا، ستتكفل الأيام بإثراء معجمك اللغوي، وتعويضك عن مخيلتك الضحلة.

ثم لم يخلُ الحصار من النوادر والمواقف المستظرفة، التي لو كان سمع بها الأبشيهي لمزق مستطرفه. جاءني مرة مريض، شاب عشريني، يشكو ألما في بطنه. كل الأعراض والعلامات السريرية لالتهاب الزائدة الدودية كانت موجودة لديه. لو كنتَ أستاذا للطب فلن تجد أفضل من هذا المريض كدراسة حالة تجعل طلبتك يقتنعون مرة وللأبد أن الطب في الكتب يشابه فعلا الطب في الواقع. كان تشخيص التهاب زائدته الدودية مؤكدا إذن. أثناء العمل الجراحي لم تكن الزائدة غير ملتهبة فحسب (فهذا تسمح لك به “متون الجراحة” في ربع الحالات) بل لم نجدها أساسا. نعم! بحثت طويلا متقصيا كل التوضعات التشريحية التي قد ينتحيها هذا العضو، لكني لم أجدها. كما لم أجد سببا آخر يفسر أعراضه. أغلقنا الشق الجراحي. ومثل كل النهايات السعيدة في المسلسلات العربية، شفي الشاب تماما. العبرة؟ لا أعرف. لكن أمثال هذه التفصيلات الصغيرة التي كانت تحدث في كل آن من آنات حياة بضعة آلاف من المحاصَرين المنهكين، جعلتهم يعقدون العزم على شيء واحد: سنحيا كي نشاهد ما سيحدث في الحلقة الأخيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

8 + 11 =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى