ذاكرة مكان

عنيدة.. أوّل مَنْ تعلّقتُ بها

هل شاهدتَ يوماً سلسلة الأفلام المشهورة “هيربي\Herbie”؟
تتحدث السلسلة -المكونة من خمسة أفلام- عن سيارة “فولكسفاغن بيتل” تحمل الرقم (53)، وتشارك في سباقات وتتخلّص من مجرمين، والأهمّ من كلّ ذلك “تمتلك وعياً”! فتحسّ بسائقها وتواسيه، ويحسّ بها هو بالمقابل ويعاملها كصديقٍ أو فردٍ من العائلة حتى!

لا تستهويني الأفلام من هذا النوع عادةً والتي تُسبِغ صفات البشر على الآلات والجمادات، لكن ما الذي يمكن أن يفعله طالبٌ يدرس لامتحان “البكالوريا” ولا يمتلك وسيلة لقتل الوقت سوى قناة mbc2، والتي يمكن لاختياراتها في الأفلام أنْ تكون أسوأ حتى من فيلم لا يستهويك موضوعه، فإنْ أبيتَ مشاهدته كان عليك أن تختار بينه وبين واحد من أفلام التسعينيات العربية التي تعرضها “روتانا”، ولك أن تتصوّر أيّ كآبة ستحلّ عليك إذا شاهدت “مصطفى قمر” ممثلاً في فيلم يُفتَرَض أن يكون رومنسياً. بالطبع هناك خيار أن تفتح كتابك وتدرس، لكن مَنْ يقوم بهذا قبل أربعة شهور من موعد الامتحان؟!

عموماً شاهدتُ بعض أفلام السلسة في تلك الفترة، ولم يكن يخطر لي يوماً أنْ أتعلّق بسيارةٍ بالطريقة التي شاهدتها في الفيلم؛ لكنّ عقداً من الزمن تقريباً في ثورةٍ كالتي تشهدها سوريا، يمكن لها أنْ تذهب بجزء من عقل أيّ إنسان، فيفقِد اهتمامه بكلّ شيء ربما، أو يتبلّد إحساسه فلا يستطيع تطوير أي شعور حقيقي، أو ربما -كحالتي- يزداد تعلقه بالأشياء لدرجةٍ مبالغ فيها..

فكان أول تعلّقٍ لي في هذه السنين “عنيدة” رفيقة الدروب الطويلة، والصديقة التي رافقتها ثمانية شهور، منذ اللحظة التي وطِئتْ فيها قدمي أوّل شبر محرر مشيت فيه.

متسوبيشي لانسر
أواسط عام 2012، توجهتُ إلى ريف حلب الشمالي الذي كان يشهد معركة تحرّره في مدينة إعزاز، بصحبة رفاق الثورة والسكن أيضاً في منزلنا المستأجر في حي المارتيني في مدينة حلب. كان علينا حينها أنْ نتوقّف في شارع ترابيّ قُبالةَ “كراجات الليرمون”، بانتظار شخص كان قد رتّب معه أحد رفاقنا الإجراءات ليقلّنا عبر طريق آمنة إلى الشمال “المحرر”.

لم يدم انتظارنا طويلاً حتى وصلَتْ سيارة “متسوبيشي لانسر” فضية اللون يقودها “أبو محمد”، وهو رجل خمسيني من أبناء “قرية منّغ”، أخذَنَا إلى “مارع” بداية ومن ثم “إعزاز” التي كان ثوارها يحاصرون مبنى الأمن العسكري فيها -آخر قلاع النظام- منذ أيام.

وعلى مدار الأيام الثلاثة اللاحقة بقي “أبو محمد” يرافقنا بسيارته في ريف حلب الشمالي، من بلدة إلى أخرى ومن معسكر إلى آخر، في أوّل مرة أشاهدُ فيها منطقة محررة أو معركة تحرير، قبل أنْ يقلنا في طريق العودة إلى نفس النقطة التي أخذنا منها، والتي كان ينتظرنا فيها صديقنا لإيصالنا إلى المنزل.

بعدها بأيام قام “أبو محمد” بتنفيذ “مهمة انتحارية” بإيصاله صحفيَّين أمريكيين شجاعَين إلى منزلنا في حي المارتيني في المدينة الخاضعة لسيطرة نظام الأسد!

كنا قد تعرفنا على “نيكول تانغ” و”جيمس فولي” في معركة تحرير إعزاز، وأقنعهما “يوسف موسى” -أحد أفراد مجموعتنا- بإمكانية قدومهما متخفِّيَين إلى مدينة حلب لإنجاز عدد من التقارير الإعلامية، والوقوف على حال المدينة التي كانت تشهد ذروة حراكها الثوري، وهو ما فعلاه بمخاطرة كبيرة آنذاك، ليقضيا في منزلنا أسبوعين تقريباً، أنجزا فيهما تقريراً عن مظاهرات حي بستان القصر، وآخر عن نشاط مجموعة “حرائر جامعة الثورة”، إضافة إلى زيارتهما لساحة سعد الله الجابري، قبل أنْ يرد اتصالٌ إلى “جيمس فولي” يخبرهما أنّ عليهما مغادرة المدينة التي يقترب الثوار مِنْ دخولها.

في رمضان\آب عام 2012، دخل الجيش السوري الحر بقيادة “حجي مارع” مدينة حلب من منطقة “أرض الحمرا” في أحيائها الشرقية، في الوقت الذي خرج فيه بعض الثوار في حي صلاح الدين يحملون سلاحهم مُعلنين تحريره، ليتحرك الثوار بعدها في قوسين محرّرين ما يقارب ثلثي المدينة بشكل حرف U، فيما تمكّن نظام الأسد من الاحتفاظ بسيطرته على المنطقة المتبقية بين الأحياء المحررة، ولم ينتظم خط رباط حقيقي بين المنطقتين المحررة والمحتلة حتى بدايات عام 2013، لذلك ولأربعة شهور تلَتْ، رُسِمَت حدود المنطقتين بقدرة كلٍّ منَ الطرفين على التواجد فيهما، وهو ما ترك شوارعاً كثيرة بينهما كنقاط عبورٍ كان يمكن التنقّل منها بسهولة -نسبياً- في تلك الفترة.

ضمّتْ مجموعتنا آنذاك خمسة شباب كان أربعةٌ منهم يدرسون في جامعة حلب، ثلاثة منهم في كلية العمارة (يوسف وأبو عروة وأنا)، والرابع في كلية الطب (حمزة)، أما الشاب الخامس فهو (عبد الوهاب الملا) الشهير بأبو صطيف، والذي اشتهر آنذاك بمقاطع فيديو كوميدية بثّها على يوتيوب ضد نظام الأسد دعماً للثورة من مغتَرَبِه في الخليج، حيث التقيناه للمرة الأولى في زيارتنا إلى إعزاز عندما قطع الحدود قادماً من السعودية إلى تركيا، بهدف الوصول إلى مدينته حلب.

مع دخول الثوار إلى حلب، توجه حمزة ويوسف إلى المناطق المحررة التي أسس فيها حمزة نقطة طبية في حي الإذاعة، بينما بقي أبو صطيف يتنقّل بين منزلنا في المارتيني ومنزل أهله في الشعار حتى استقرّ أخيراً هناك، وبقيتُ مع أبو عروة نسعى لتأسيس مكتب إعلامي في المناطق المحررة.

إلا أنّ تواجد منزلنا في المنطقة المحتلة سبّب لنا مشكلة حقيقية آنذاك، فلم يكن ممكناً أنْ تستقلّ أيّ سيارة أجرة في حلب إلى الأحياء المحررة أو حتى إلى حيّ قريب منها، وهو ما كان أمراً ضرورياً بالنسبة لنا، بسبب الكم الكبير من المعدات المتواجدة في منزلنا كأجهزة الاتصال الفضائي والكاميرات وغيرها، والتي كنّا نعتزم نقلها إلى المنطقة المحررة، فضلاً عن احتياجنا للتنقّل ضمن الأحياء المحررة نفسها والتي كانت سيارات الأجرة قد اختفت من شوارعها بعد التحرير.

وهو ما دفعنا للبحث عن سيارة نستطيع استئجارها في تلك الفترة، لكن من هذا الذي يقبل تأجير سيارة لشباب يريدون أخذها إلى المناطق المحررة؟!

رافقتنا “المتسوبيشي” إلى كل مكان ذهبنا إليه في تلك الفترة، من جبهات المدينة الأسخن عند أحياء صلاح الدين والإذاعة لاصطحاب الإعلاميين، إلى إسعاف بعض مصابي القصف الأسدي على الأحياء المحررة إلى “دار الشفاء” أول المشافي الميدانية فيها في حي الشعار..

لم يطل الأمر كثيراً حتى وجدنا ضالتنا عند “أبو محمد”، والذي قَبِل أن يؤجِّرنا سيارته مقابل 50 ألف ليرة شهرياً، مدركاً أنها قد تنتهي مدمرةً بقذيفة أو مصادَرَةً مِنْ قِبَلِ الأمن في حال اعتقالنا، لنتسلّم السيارة أواخر شهر آب وتصبح “المتسوبيشي لانسر” أولى سيارات الثورة التي حملتنا.

بدأَتْ “المتسوبيشي” سريعاً تنفيذ المهام الصعبة بحمل عددٍ من أجهزة “بيغان” (أجهزة تستخدم للاتصال بالإنترنت من أي مكان) لنقلها إلى المنطقة المحرّرة، ولأنِّي -آنذاك- لستُ معتاداً على القيادة في المدن كان أبو عروة هو من يقود السيارة، أما أنا فكنتُ أمشي أمامها بشارع أو أكثر متأكداً من خلوّ الطريق من الحواجز.

من شارع “شنن” في حي المرديان، منعطِفين عند “الصيدلية المركزية” إلى الشارع الذي يمر تحت سكة القطار عبرَ “حي الفيض” باتجاه “حي المشارقة”، ومِن نهايته يميناً إلى “جامع حذيفة” الذي كان يفصل المناطق المحررة عن المحتلة، حيث كنتُ أتوقف عنده منتظراً “أبو عروة” لأركب معه، سالكين الطريق الموازي لمسرى “نهر قويق” إلى حي “بستان القصر” المحرر.

قدنا السيارة عبر هذا الطريق عدة مرات في الذهاب والعودة، مستغلِّين قلّة عدد الحواجز الأمنية في المناطق المحتلة، والتي كان قليلها الموجود يغادره العناصر مع حلول الظلام خشية هجوم الثوار، وهو ما دفعنا للتساهل في طريق العودة فلم نكن نكشف الطريق، حتى جاء اليوم الذي نصب فيه فرع الأمن العسكري في حلب حاجزاً عند الصيدلية المركزية قرب فندق الديديمان، ولحسن حظّنا فقد كان الشاب الذي فتش السيارة على الحاجز من ريف دير الزور، والذي تغاضى عن عدم حملنا أوراق السيارة أو “شهادة سواقة”، سامحاً لنا بالمضيّ بعد أنْ أبلغ الضابط المسؤول عن الحاجز أننا “نظيفون”!

انتقلنا بعدها إلى القسم المحرر بشكل نهائي تاركين المناطق المحتلة إلى غير رجعة، وقاطنين في منزلٍ في حي الفردوس كان أول مكتب لشبكة “حلب نيوز” الإعلامية، التي ساهمنا في تأسيسها برفقة شباب من مدينة حلب كنا قد تعرفنا عليهم مؤخراً، وبعد اتصالات عدة تمكّنا من الحصول على 12 جهاز اتصال فضائي دعماً للشبكة، لنقود سيارتنا إلى الحدود لجلبها، في رحلة سابقَتْ فيها “المتسوبيشي” قذائف طيران نظام الأسد على طريق حلب الباب، لنتمكن بتلك الأجهزة من افتتاح مكاتب إعلامية تابعة للشبكة في معظم أحياء المناطق المحررة، والتي أخذتْ على عاتقها مهمة توثيق القصف على الأحياء المحررة وأهم الأحداث فيها، متحولة إلى أكبر شبكات المدينة بأضخم أرشيف لها حتى يومنا هذا.

رافقتنا “المتسوبيشي” إلى كل مكان ذهبنا إليه في تلك الفترة، من جبهات المدينة الأسخن عند أحياء صلاح الدين والإذاعة لاصطحاب الإعلاميين، إلى إسعاف بعض مصابي القصف الأسدي على الأحياء المحررة إلى “دار الشفاء” أول المشافي الميدانية فيها في حي الشعار، وصولاً إلى معبر بستان القصر الذي كنا نقلّ منه رفاقنا القادمين من المنطقة المحتلة إلى مظاهرات أيام الجُمَع في المحررة.
وعندما كان أحدنا يرتاح قليلاً كان الآخر يأخذ السيارة لمهمة أخرى، وهو ما دفعنا لتسميتها “عنيدة” لكثرة ما تحركت في أماكن لم يكن يجرؤ الكثيرون على وصولها، بل إنّي أذكر استخدامها لنقل بعض الثوار بين نقاط متقدمة على جبهة حي الإذاعة أثناء تبديل النوبات، بعد أن أعرتُها لكتيبة مدة يومين.

بقيَتْ السيارة لدينا ثمانية شهور تعلّمتُ فيها القيادة بشكل مقبول، كما أًصبحنا محترفين بفكّ العجلة المثقوبة وتركيب “السبير” في خمس دقائق، لكثرة ما واجهتنا تلك المشكلة مع امتلاء أرض المناطق المحرّرة بالشظايا، وبات اختيار منطقةٍ نركن فيها السيارة يعتمد بشكل أساسي على ميلان الشارع، لأننا كنا نشغّلها غالباً بدفعها مع الحالة السيئة لبطاريتها، كما تعرّفنا في تلك الفترة على أغلب محلات الميكانيك في الأحياء المحررة، والتي كانت “عنيدة” تقضي وقتاً طويلاً بين أيدي “الشغّيلة” فيها مع كثرة الأعطال الناجمة عن الوقود السيء.

بعد عدم تمكّننا من دفع مبلغ استئجار السيارة لثلاثة شهور متواصلة، قررنا أخيراً فِراق “عنيدة” وإعادتها لأبو محمد الذي أصبح “لاجئاً” في إحدى مخيّمات تركيا بعد تدمير قريته الملاصقة لمطار منغ العسكري، فسلمنا السيارة لشخص من معارفه.

أذكر تماماً آخر أيام “عنيدة” معنا، فقد أخذتُها يومها في جولة صباحية إلى الشارع المحاذي لحديقة حي السكري والمتجه إلى دوار جسر الحج، كان للشارع إطلالة جميلة تُمَكِّن الواقف فيه من رؤية الأحياء المحتلة ومشفى الجامعة التي ترنو إليها نفس كل طالب تركها..

هناك أمام أحبّ مشاهد حلب المحررة إلى قلبي شربتُ آخر فنجان “إكسبريس” مع “عنيدة”، وودعتُها كما يليق برفيقةٍ صحِبتنا في أوّل طريقٍ سلكناه إلى الحرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اثنا عشر + اثنا عشر =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى