بطاقة شخصية من جنوب دمشق
تغيرت ملامح الزمن، لا ليس المكان بل إنه الزمن؛ أحجيةٌ مللتُ من طول التفكير بها واختلاق أقاويل الصبر حول مائدة الموتى الذين باتوا يتنفسون الوجود داخل خلايانا.
حزمتُ أمتعتي نحو المجهول، أسيرُ بأعين مثقوبة وأذن تصغي لتطلعات طريق قد يحمل الموت أو النجاة، أيضاً.. تلك معادلة آُخرى، أرهقت مفاصل الحياة المكتظة بوجوه الغائبين.
بدأت الرحلة من جنوب البلاد نحو أقصى الشمال، حيث كنت أعلم تماماً أن أشكال الموت هناك قد تختلف، لكن، أليس المذاق ذاته؟ لا شهوة للموت -عادةً – لكنك تنتظره حينما تراه المعبر الوحيد نحو الحياة.
راقبتُ الطريق وأنا أحاول إبعاد مشاعر الوداع التي جثمت على صدري، مثل صخرة محفوفة الأطراف! وجوه الناس التي علقت بين أصابعي بحزنها وكآبتها كانت تشل حركتي وتحملني رسائل لا أقوى على حملها.
تحركت الحافلة وأطفالي الثلاثة يتعاركون حول الجلوس قرب النافذة. أخبرتهم أن كثيراً من النوافذ تنتظرنا على طول الطريق، فلا داع للخلاف.
راقبتُ الطريق وأنا أحاول إبعاد مشاعر الوداع التي جثمت على صدري، مثل صخرة محفوفة الأطراف! وجوه الناس التي علقت بين أصابعي بحزنها وكآبتها كانت تشل حركتي وتحملني رسائل لا أقوى على حملها.
الحواجز الأولى لم تكن تعني لي شيئاً.. فأنا، لم أقترب من خطوط النار – كما يصورونها -بعد، لذلك كنت أهدّئ نبض قلبي وأرسم ابتسامة على وجهي أرسل من خلالها الطمأنينة لأطفالي.
في استراحة حمص توقفنا ليأخذ كل من في الحافلة أشياءه الصغيرة، أما أنا فكانت لدي مهمة صعبة؛صعدتُ مع أطفالي إلى “مرحاض” النساء.. فدخلوا وأفرغوا مشقة الطريق، بينما وقفتُ أمام المرآة أحاول وضع الحجاب على رأسي دون جدوى.
دخلت امرأة مع أطفالها. فاقتربت منها، وطلبت مساعدتها – دون تردد – نظرت إلي متعجبة و كأنني أطلب منها فعل شيء بديهي – بالنسبة لها – و سألتني: “من أين أنت؟ ” بينما تناولت الحجاب وبدأت بوضعه على رأسي.
أجبت: “من ريف دمشق.. ”
- “ألا تضعين الإشارب؟”
- – ” لا ..”
وابتسمتُ لها كي أجعل الموقف أقل إحراجاً. ابتسمت بدورها، وأخذت علبة الدبابيس الصغيرة وقامت بلفه و تثبيته بهدوء شديد، جعلني ذلك أشعر بالطمأنينة. وبعد إنجاز تلك المعضلة، نظرتُ إلى المرآة.. رأيتها تراقبني، ثم قالت: “إنه يليقُ بكِ”. شكرتها، وخرجت قبل أن تسألني المزيد. أمسكتُ بأيدي أطفالي وكأنني أقفزُ بهم إلى قمة شاهقة؛ قد يسقط أحدهم في أية لحظة..!!
صعدتُ إلى الحافلة وأنا أتجنب الأعين التي بدأت تتساءل عن سبب وضعي للحجاب!
جلسنا و حاولت الاختفاء بين أطفالي، كورقة ترتعش في ظلال الريح.
- حلب.. ترحب بكم!
كانت الكلمات التي سقطت في محجر عينيّ! فثار بركانٌ في جوفي، و سألتُ نفسي: هل سننجو حقاً؟ أم أنني… آخذهم – بيدي – نحو قصاصٍ حتمي!؟
نظرتُ إلى وجوههم الغافية وأيديهم الصغيرة الملتفة حول يدي كدالية العنب التي تركناها تنازع خلف الدار.
شعرتُ بغصة في حلقي – لن أبكي.. لن، أبكي … فقد كاد يقتلهم الجوع والبرد والعتمة، والسُلطة التي لا تعلوها سلطة وكأنها مأخوذة من الإله مباشرةً!
كادت إياها (السُلطة) تبيد أصواتهم وأحلامهم قبل أن تنبت في أجسادهم رغبة الحُلم.
انتظرتُ في الكراج إلى أن وصلت العائلة التي ستنقلني إلى الضفة الأخرى من تقرير مصيري.
مكثتُ الليلة في بيتهم وهم يحاولون إرساء الطمأنينة في قلبي – بأن الطريق نحو منبج آمنة.. وأن الطريق بعدها تعتمد على الحظ لا أكثر… الحظ؟ يا للمصيبة! كانت تقول لي أمي: “يلي مالو حظ لا يتعب ولا يشقى.“
لكنني تعبت كثيراً يا أمي.. تعبتُ، ولم تكن يداك هنا لتمسح شعري فأسكن في صدرك كعصفور مبلل بجراحه السحيقة.
ماذا أعرف أنا عن هذا الطريق؟! لا أعرف سوى بضع هواجس ترتادُ رأسي حاملةً قلبي كفريسة سهلة نحو نهاية لا أعرف شكلها ولا لونها حتى هذه اللحظة.
السادسة صباحاً بتوقيت حلب.. وقفتُ أمام المرآة مجدداً أحاول وضع الحجاب فتذكرتُ هدوء تلك المرأة واتبعتُ خطواتها ووضعته بطريقتها تماماً.
خرجنا نحو الكراج الشرقي، وكنتُ قد جهزت الكثير من الكلام كي أقوله لسائق الحافلة حتى نجتاز الطريق مع قدرٍ معين من الأمان.
” الحافلة المتوجهة نحو (أعزاز) قد انطلقت منذ دقائق قليلة، والحافلة التالية لربما لن تدخل اليوم”.. هذا ما قاله لنا شاب يقف على باب الكراج.
انتابتني الخيبة، وأنا أقف وسط الكراج غريبة عن وجوه المارة لا أعرف ماذا أفعل!
تقدم نحونا شاب آخر لينطق بكلمات تحمل بعض الأمل: “تستطيعون اللحاق بهم، فهناك مكان شاغر يكفيكم”.
- لحقنا بالحافلة وأوقفناها وكأننا نريد اللحاق بآخر قطارٍ يوصلنا إلى اليقظة!!
أنا أحلم الآن … كلا ..
نزل السائق وبدأ بوضع الأطفال في أماكنهم، فأشرتُ له بيدي ليقترب وقلت: “أريد أن أتحدث إليك قليلاً..”
أجابني:
- ” ليس لدينا وقت.. أعطني بطاقتك الشخصية.”
أخذها، ونظر إليها، ومن ثم نظر إليَّ وقال: “لا تخافي.. فهمتُ ما تريدين قوله.” واتجه بخطوات سريعة نحو مكانه.
صعدتُ وجلست قرب أطفالي، وبدأتُ أراقب الطريق بحذر، هنا – الآن تماماً – لا وقت لأسأل نفسي حتى ولو كان السؤال للمرة الأخيرة “هل اتخذتُ القرار الصائب أم أنني جازفتُ بكل ما أملك – أطفالي – دونما ذنب اقترفوه سوى أنهم ولدوا في وطن يحتاج إلى وطن يلجأ إليه..”
حواجز النظام كانت قلقي الأول! عبرنا الحاجز الأول، دون توقف، فقط، قلبي كاد يتوقف لشدة الخوف.
عند الحاجز الثاني، توقفنا.. وأخذ الجندي بطاقاتنا الشخصية. نظر إليها دون أن يعلّق بكلمة على مكان ميلادي؛ وقتها، هدأتُ قليلاً.. وتابعنا المسير.
على أطراف الطرقات لوحات لأسماء قرى لا أعرفها، ولكنني ربما سمعتُ عن صاروخ سقط هنا وبرميل أحرق الأرض هناك!
رأيت أعين الموتى شاخصة أمامي تناظرني وتسألني عن حال كل من خذلهم هناك – في الداخل –الذي ينهش جثثهم حتى بعد الرحيل.
حيث الحاجز الأخير للنظام، كانت لدى السائق تعليمات صارمة عن كيفية تصرفنا هناك… نزلنا في ساحة ترابية كبيرة. وقفنا أمام الحافلة، تماماً.. وتجمعنا كقطيع ابتلع أجراسه خوفاً من إصدار أصوات تقلق قلق المكان!
البائع البائس كان يضع أشياءه الفقيرة أمامه، فتوجهنا نحوه دون إصدار أية ضجة. أخذنا بعضاً من أطعمة الأطفال، وكي يبدو الهدوء على وجهي، بتُ آكل معهم من أكياس البطاطا المحمصة و وأضاحكُ أولادي بصوت منخفض كي تمضي تلك الدقائق الثقيلة.
قاموا بتفتيش الحقائب وكل شيء تحمله الحافلة، ثم طلبوا منا أن نكون على قسمين: النساء والأطفال جانباً، والرجال على حدة.
اقترب أحدهم وأخذ البطاقات الشخصية، وبدأ يقلبها بين كفيه، أما أنا، فكنت مستمرة بالأكل مع أطفالي وأفتعل تجاهله وكأن لا شيء يقلقني.
توجه نحو غرفة تفتيش النساء وطلب منا اللحاق به. هناك وضع الهويات على طاولة صغيرة موضوعة أمام الباب يحرسها شاب آخر، وعاد إلى مكانه، بينما انتظرنا في صفوف منظمة أسماءنا.
فكرتُ ” لقد رأى بطاقتي الشخصية ولم يعلق عليها..
- هل نجوت حقاً؟! “
دخلتُ إلى غرفة التفتيش مع ثلاث نساء أخريات.. في الداخل طاولة وأسرّة عسكرية تُقلب حقائب النساء فوقها. التفتت إلي المرأة التي تفتش حقيبتي وسألتني: “لم تحملين كل هذه الأشياء والأوراق؟”.. توقفتُ عن القدرة على الكلام …” لم أنجُ إذاً؟” صدر صوت من امرأة تقف إلى جانبي: “إنها تحملُ أشياء أطفالها الثلاثة، إنهم ينتظرون في الخارج، يمكنك رؤيتهم”.
فأضافت (المفتشة):
– “لا داع لذلك.. أعيدي أشياءك إلى الحقيبة واخرجي..”
فخرجت أنفاسي من صدري حارقة ملتهبة، وكأن قدميّ لا تطآن الأرض. توجهت نحو أطفالي.. أخذتهم نحو الحافلة وجلستُ بصمت، أنتظر أن نعبر بوابة الخوف الأولى.
.. انتهى الجميع من التفتيش، وصاح الجميع: “تفقدوا وجود أطفالكم..”
تابعنا الطريق مجدداً، لم تمضِ عشر دقائق تقريباً حتى وصلنا حاجز “قسد” (قوات سورية الديمقراطية) قرابة الساعة 12 ظهراً، ومجدداً كانت لدى السائق تعليمات كثيرة أتحفنا بها قبل أن يفتح الباب لتنهمر أقدامنا فوق أرض تبدو منفصلة تماماً عن سابقتها.
أخذ بطاقتي الشخصية. نظر إليها، ثم نظر إلي مقارناً بين وجه لم يكد يعرف من العمر خمسة عشر ربيعاً يعتليه شعر طويل ينشد الحياة، وأمامه وجه انتهكته كل وسائل الذل والخوف ونال من القهر ما استطاع إليه (قتيلا)؛ ورأس مغطى بحجاب أسود قاتم.
مجدداً نحو التفتيش والتفييش! إنها ثقافة جديدة لم نعهدها قبل بدء الثورة حينما أصبحت الفرصة مواتية لثعالب النظام كي تلعق ألسنتهم الطويلة أسماءنا ومدننا وأحلامنا، وكأنك تُثبتُ هنا هل تليق بك الحياة أم أنك لا تستحقها..!!
قاموا بتفتيش حقائب اليد ثم تقدمنا نحو النافذة الأولى حيث يجلس شاب نحيل يدخن، ويحاول إبراز تجهمه في وجوه العابرين.
أخذ بطاقتي الشخصية. نظر إليها، ثم نظر إلي مقارناً بين وجه لم يكد يعرف من العمر خمسة عشر ربيعاً يعتليه شعر طويل ينشد الحياة، وأمامه وجه انتهكته كل وسائل الذل والخوف ونال من القهر ما استطاع إليه (قتيلا)؛ ورأس مغطى بحجاب أسود قاتم.
تسمّرتُ أمامه تماماً أنتظر ما الذي سيحدث بعد ذلك، دون أي تعبير في وجهي وكأنني صرت جثةً تلهثُ…!
أدخل اسمي إلى “اللابتوب” الموجود أمامه، ثم نظر إلى بطاقتي الشخصية مرة أخرى، ونظر إليَّ، وأشار لي بيده أن أنتقل إلى النافذة التالية.
الشاب الجالس بقربه أخذ بطاقتي أيضاً، ونظر في وجهي… تفرّسهُ وكأنه يريد اكتشاف أحفورة تاريخية! ومن ثم إلى البطاقة الشخصية مراتٍ عديدة، بينما كنت أحافظ على تلك الملامح الميتة وأنا أتلو.. وأرددُ في مُهجتي “سورة النجاة من الحقيقة”…
الوصول ليس الغاية دائماً، قد تكتشف أن الطريق هو حصادك الثمين، لن تنتهي هذه الرحلة لكنها ستترك أثرها في ذاكرتي ما حييت.
***
المسافاتُ لا تعني شيئاً حقاً،إنها مجرد مقاييس نتعقبها في اتباع أحلامنا، قد يموت الحلم قبل وصولك، فلا تعول كثيراً عليه.
بعد رحلة شاقة من الجنوب إلى الشمال ارتديتُ فيها وجهاً جديداً لا يشبهني، وشبكتُ أوردتي جيداً كي لا تخترقها رصاصة الخوف.
أخذتُ أطفالي نحو أرض جديدة؛ يقولون إن البلدان تتشابه كثيراً في رتابة الحياة، لكنها تختلف حقاً في وجود الحياة من عدمه.
عند حاجز “قسد” كان الانتقال من مرحلة إلى أخرى، شكل جديد لمخاوفي بعد تجاوز حواجز النظام.
تجمعنا في الحافلة والشحوب بات يغطي كل شيء، وانتقلنا إلى ساحة (الترفيق) أعادت لي هذه الكلمة ذكرياتٍ كثيرة للحافلات التي زجت رؤوس الناس في طريقهم نحو الموت.
- ساحة أخرى ننتظر فيها أن تسير القافلة دون كلاب تعوي.
الوقت مجاز نستخدمه لإدراج التعب في أوردتنا دون تذمر، مضى وقت طويل، تسابق الأطفال مع الريح الباردة حتى انتصرت عليهم. عادوا يلهثون بأنفاس متقطعة يدفنون أيديهم الصغيرة في صدور الأمهات طالبين الدفء لا أكثر.
تجاوزت المسألة مفاهيم الوقت نحو الزمن، فهل يقرر الزمن إعطاءنا فرصة أخرى للحياة؟ إنه مؤتمن لعين على أحلامنا… يمضغ تعاويذها السحرية ليتركنا فتاتاً تستريح به المناقير الجائعة.
ما هي الخطوة التالية؟ إنها تجاوز المنطقة التي تحكمها (السيوف) هذا ما كنت أسمعه في مدينتي البائسة، حيث يقولون إننا جميعاً محكومون بالموت بتلك السيوف، وإن علينا الخضوع أبداً لظلال الاستبداد على أمل البقاء أحياء نتنفس الخوف لا أكثر.
تابعنا المسير، سقط قلبي في أحشائي حيث كف عن النبض حتى رحتُ أبحثُ عن صوته دون جدوى.
المسافات الطويلة كانت انتحاراً بطيئاً لعزيمتي “لماذا لم أمت قبل الآن؟.. لماذا لم يقتلني ذلك المرض الخبيث؟ من قال إنني أريد أن أحيا؟”.
توقفت قافلة الترفيق على حاجز تحيط به بعض التلال. انتظرنا في صف طويل ربما نصف ساعة أو أكثر، ثم اقترب شاب بابتسامة لطيفة وأخذ يمازح السائق “إنهم يبتسمون إذاً؟! لكن هل ستبقى هذه الابتسامة التي تعلو وجهه عندما يقرأ اسمي أم أنه قد يدفننا أحياء؟
نظر إلى البطاقات جميعاً وألقى نظرة خاطفة إلى الوجوه المصطفة بصمت في الحافلة، ثم أعاد بطاقاتنا وأشار لنا بالذهاب.
تنفستُ كتنينٍ ابتلع نيرانه وكادت عيناي تنفجران كشلال جامح إلا أنني ابتلعتُ رئتي وهدأت، مؤقتاً، فالطريق ما زالت طويلة.
دخلنا قرية صغيرة والشمس قد قاربت على المغيب، فبدأ الجميع يتهامسون “لن ندخل اليوم..” “ربما نبقى حتى الصباح الباكر ثم يدخلوننا..”
تسلل البرد إلى عظامنا و كان يزداد شراسة في كل لحظة، حتى أثلج السائق صدورنا بخبر جميل “سندخل اليوم” ثم ألحقه بجملة أخرى “ستنتقلون إلى حافلة أخرى تتابع نقلكم نحو (أعزاز) “.
بعد مسافة قصيرة، تهافت على الحافلة مجموعة من الشبان الصغار أخذوا يتعلقون بها ويقفزون إلى سطحها بينما تسير ببطء، ارتفعت الأصوات بأسئلة كثيرة فعرفنا من السائق أنهم سينقلون أغراضنا فوق النهر مقابل مبلغ صغير.
نزلنا وتقاسم الشبان أغراضنا وعبرنا جسراً إسمنتياً محطماً فوق نهر خجول لا يكاد يُسمع صوته. اصطففنا مثل جملة متلعثمة فوق شفاه جافة، وانتظرنا مجدداً تفتيش أغراضنا وتفييش بطاقاتنا.
في غرفة صغيرة تجلس امرأة مهمتها التفتيش وبقربها امرأة تضع البطاقات الشخصية على الطاولة أمامها، تأخذ صوراً لها وترسلها عبر “الوتس آب”، إلى أين لا أعلم، ربما إلى غرفة مجاورة أو إلى مكان آخر لا أستطيع تخيله، لا يهمني إلى أين سافر وجهي الآن، ما يهمني فقط أنني عبرت مع أطفالي المنهكين هذا المكان.
خرجنا من الغرفة فجمعت أيدي أطفالي كباقة صغيرة في يدي وحملت حقيبتي وسرت وسط مجموعة من الجنود الذين ينظمون عبور الناس فوق أرض طينية تتأرجح الأقدام فوقها، وكنتُ أخفي وجهي عنهم خشية أن تفضحني عيوني الغارقة في وجهي.
صعدنا إلى صندوق العربة الخلفي وجلسنا فوق حقائبنا لتنقلنا نحو الحافلة الأخرى، وسقطنا كحبات لفظها جذع ميت فوق التراب. دخلنا الحافلة الباردة وسارت بنا بطرق تحيطها الحقول الغافية.. صمت ثقيل يسكنها، ربما كانت عجلات الحافلات المتتابعة الشيء الوحيد الذي تسجله في ذاكرتها.
إلى أين أتجه؟؟ ماذا أقول لك يا شريك الأيام الجريحة، نحنا شركاء في جرح شق قلوبنا، لكن الفرق الوحيد بيننا أنني تركت قبري فارغاً قرب قبر أبي، وجئت لأدفن في أرض لا تعرف صوتي.
على مفترق طرق واسع أوقفنا حاجز، عدد من الجنود في سيارة، وثمة هناك آخران يقفان وسط الطريق، أخذ أحدهما بطاقاتنا وفتح الآخر الباب وبدأ يسأل كل واحد منا إلى أين وجهته.
إلى أين أتجه؟؟ ماذا أقول لك يا شريك الأيام الجريحة، نحنا شركاء في جرح شق قلوبنا، لكن الفرق الوحيد بيننا أنني تركت قبري فارغاً قرب قبر أبي، وجئت لأدفن في أرض لا تعرف صوتي.
- لن تستطيع أمي تقبيلي للمرة الأخيرة قبل وضعي في حفرة تنتظر التهامي.
لا أعرف ماذا قلت، ولا أعرف شيئا مما قاله الآخرون. تابعنا الرحلة باتجاه اليمين وكانت العتمة قد غطت الطريق تماماً.
ربما غفا قلبي قليلاً فلم أعد أشعر بمرور الوقت. “اقتربنا من أعزاز”، تنبيه جاء من السائق لأرتب أنفاسي مجدداً.
أوقفنا الحاجز وأخذ البطاقات الشخصية، أمسك هويتي ووضعها في يده الأخرى واقترب ليفتح الباب، ربما نزف قلبي كل دماء عرفتها الأرض حينها، سأل بصوت حازم “من صاحبة هذه البطاقة؟” أمسكت بصوتي جيداً وقلت “أنا” واستمريت بالنظر إليه “لستِ من هنا” لم يكن ذلك سؤالاً ولا حتى جواباً ولم أعرف حقاً ماذا أقول؟ تابع قائلاً “أنتِ من الجنوب.. هل قطعتي كل هذه المسافة حقاً؟” لم يكن ذلك سؤالاً أيضاً، حاولت ألا أرتبك وأن أحافظ على وجهي ساكناً، لكنه كان ينتظر مني رداً واضحاً لا أملكه، أضاف سؤالاً جديداً “لماذا أتيتِ إلى هنا؟”
-“لأزور أقربائي”
-“من هم أقربائك؟”
اختلقتُ اسماً صعد إلى رأسي في تلك اللحظة، لكنه لم يصدقني فأخذ بطاقتي وذهب.
تحولتُ إلى صنمٍ ينتظر مطرقة بدائية تحطمه إلى أجزاء؛ لم أدرك يوماً أنني قد أحتمل كل هذا الخوف دون أن يتوقف قلبي ببساطة ويُنهي المسألة.
عمّ صمت غريب في الحافلة وكأن الأصوات توقفت في حناجر الناس، لكنني شعرتُ بتعاطفهم معي دون أن ينطق أحدهم بكلمة.
بعد وقت قد يكون خمس دقائق أو نصف ساعة لا أعرف أبداً، قرر السائق الذهاب لاستطلاع ما يحدث، مضت عدة دقائق، علا صوت يحمل خلافاً بين السائق والعسكري. اقتربا وأعاد بطاقتي لي دون أن يقول شيئاً، وصعد السائق غاضباً وتابع السير وهو يقول ” لقد احتجزوا هويتي بدلاً عنكِ.. سأجد طريقة لأستعيدها لا تقلقي”.
- سوف أقلق كثيراً بعد هذا اليوم، فأنا لم أولد لأحيا.