د. جيكل وطفلة الساركوئيد
لا يفترض بالطبيب أن يتحدث في غير الطب. فهو المغفل الذي يضع نظارة سميكة مذ خرج من مهبل أمه أو عبر بطنها في عملية قيصرية. وهو إن كان يفهم في مهنته فحسب، فقد كفى الناس شر المرض، وهذا غاية المراد. ثم إنه قد أحل نفسه من الالتزام بالوصايا التي ينصح بها مرضاه، فليكتفِ بهذه المزية النادرة.
وفي عام 1966 تولى المناصب السياسية العليا في سوريا ثلاثة أطباء: الأتاسي، وزعيّن، وماخوس. ويومها عنونت صحيفة “لوريان” البيروتية الخبر ساخرة: “سوريا يحكمها ثلاثة أطباء: لا بد أنها مريضة!” لكنها سخرية مُرة قاصرة النظر. فأولئك الثلاثة كانوا واجهة مدنية لحكم عسكري. سيأتي يوم يصبح فيه الطبيب رئيسا فيدمر بلده ويقتل شعبه ويشرده. وهذا نوع حديث من العلاج لمرض سوريا المزمن، حتى وإن بدا علاجا عنيفا في نظر أقلية حاقدة تكره وطنها.
لكن ثَم من الأطباء من يهتم بالتاريخ. فبدلا من أن يقضي وقت راحته في مشاهدة مباريات كرة القدم أو ممارسة الجولف، تراه يدرس سير بعض الشخصيات التاريخية، وما عانوه من مشكلات صحية مزمنة قبل تطور ما يسمونه الطب الحديث. ويحاول من هذه الشظايا لملمة تشخيص محتمل: لمَ مات الإسكندر المقدوني شابا؟ ما سبب إصابة بيتهوفن بالصمم؟ هل كان لدى ابن سينا سرطان في المعدة؟ ممارسة يمكنك أن تدعوها: “التشخيص الراجع” وهو شيء لا علاقة له بالقذف الراجع للسائل المنوي.
طفلة شاحبة جدا، نحيلة على الرغم من بطنها المندلق كبطن حبلى، عمرها ست سنوات كما بدا لي، تبتسم بزهو جدير بملكة جمال حازت اللقب للتو. لا بد أن اسمها بسمة أو ابتسام! (ساعتها تذكرت أني في الليلة الفائتة حلمت بأني أفحص طفلة اسمها ابتسام لها من العمر أربع سنوات. وحين قلت لها: “تحتاجين عملية جراحية”. أجابتني بهدوء: “لا بأس، لكن علي أن أخبر زوجي”. فاستيقظت فزعا أتعوذ بكل آلهة الطب). في تلك الفترة كان المخيم ــ من الناحية اللغوية ــ حديقة للظبيات والقطا والبقرات الوحشيات. كل الفتيات كان اسمهن ريم أو مارية. وكانت هذه التي ظننتها بسمة أو ابتسام واحدة من الآرام. كان اسمها ريم.
أسأل أمها: خيرا؟
– ريم عندها ساركوئيد.
بدا لي اسما قادما من زمن أبقراط. لا سيما وقد نطقتْ به كما لو كان هواية أو دمية.
– آهه! المرض الذي يرجح أن “مكسيميليان روبيسبر” كان مصابا به.
– ومن يكون روبيسبر هذا؟
– أحد قادة الثورة الفرنسية.
– كانت عندهم ثورات؟
– وشعارات جميلة تنادي بإسقاط النظام.
– وعلاج للساركوئيد؟
– لا، لكني أجزم أن وضعهم الصحي عام 1789 كان أفضل من وضعنا اليوم. لكن قبل كل شيء، من قال لك إنها مصابة بالساركوئيد؟
هنا أخرجت أمُّ ريم من حقيبتها كيسا مليئا بالأوراق والصور الشعاعية والتحاليل المخبرية والوصفات الدوائية.
عمر ريم أحد عشر عاما، فالساركوئيد سلبها نموها الطبيعي المناسب لسنها. وقد شخص عندها المرض منذ خمس سنوات. ومنذ ذلك الحين ارتحلت في جولة أفق طبية من عيادة إلى مخبر فمشفى ثم عيادة فمشفى … حتى أناخ بها بعير الحصار في مخيم اليرموك، فأراحها من التجوال وأجاءها إلي. كما أجاء المخاض مريم إلى جذع النخلة.
– وما مشكلتها الآن؟
– بطنها دكتور! يزداد حجمه بشكل مرعب.
استلقت ريم على السرير بمساعدة أمها. لم يطل الوقت حتى تبين لي أن طحالها متضخم إلى حد بعيد (وفي الرطانة الطبية: طحال عرطل). وصحيح أن الساركوئيد يسبب ضخامة في الطحال، لكن هذا العرض غير شائع كثيرا فيه، وحين تحدث الضخامة لا تكون بهذا القدر. علمونا أن عرطلة كهذه قد يكون سببها الملاريا أو بعض سرطانات الدم، ولا كذلك الساركوئيد. لكن يحدث! إذ ريم نفسها ليست إسكندنافية، ليست بين العشرين والأربعين من عمرها، لكنها مصابة بالساركوئيد. هذا ما يسمونه القدر أو الصدفة أو اللعنة أو مكر التاريخ. كما يحتمل أن مرضا آخر ظهر لديها وسبب هذه المشكلة الجديدة. أو أننا جميعا أخطأنا التشخيص: لا مرضها ساركوئيد، ولا ضخامة الطحال هي سبب اندحاق بطنها.
– ألا تأخذ دواءها؟
كان سؤالا غبيا مني لكنه ضروري.
– كانت تأخذ الميثوتركسات، لكنه غير موجود حاليا.
طبعا غير موجود، لا شيء موجود هنا. هنا عدمٌ مستبد. كان من بين الأمور التي تسبب بها ساركوئيد ريم: ضعف مناعة، أذية قلبية، تكلس في الكليتين، التهاب رئوي مزمن، تأثيرات جانبية للأدوية، وها هو طحالها الشره يلتهم كرياتها الحمراء مفاقما من فقر دمها.
– ما الحل دكتور؟
– لا بد أولا من استئصال طحالها.
– وهل سيترك الشق الجراحي ندبة؟
– بل سيترك وشما مميزا تحسدها عليه صديقاتها.
تضحك، فأضحك. استئصال طحال كهذا، من الناحية التكنيكية كما يقولون، قد يكون أمرا سهلا. لكن من قال إن الجراحة ضربة مشرط؟ ريم تحتاج إلى تحضير قبل العمل الجراحي يتضمن أمورا “بديهية” ليس أصعبها إجراء بعض التحاليل المخبرية، وتوفير أكياس دم وأسطوانة أكسجين. ومن سيقوم بتخدير كائن بعمرها له ملف صحي واسع الطيف؟ ثم هناك ضرورة تأمين لقاحات ضد نوعين من الجراثيم على الأقل لهما اسمان شِعريان: “المكورات الرئوية” و “المستدميات النزلية”. فحتى طحال بدين رديء شره كطحال ريم، لا يزال يقوم من أجلها بدور مناعي مهم.
في تلك الليلة أخذت أدرس حالتها بعمق، وكانت تعينني فكرة لذيذة: غدا ستكبر ريم لتكمل سيمفونية بيتهوفن العاشرة التي مات قبل إتمامها، أو تقودنا في ثورة ننتصر فيها، أو تكتب لنا قصة جديدة تفسر لنا الطبيعة المزدوجة لوجودنا الأخلاقي المثير للرعب والتقزز.
– سؤال دكتور، لم اسمه ساركوئيد؟
كنت سأقول لها لأنهم شبهوه بالسرطان أو شُبّه لهم ذلك، لكن بدت تلك معلومة غير ملائمة في ظروف قد تسبب لك فيها زقزقة عصفور آلاما مبرحة.
– لأن الأطباء عدا خطهم الرديء، لغتهم سيئة ومحدودة.
أرجع إلى البيت محملا بالكيس إياه لأدرس حالة ريم على مهل. ومثل أي تاجر أفلس فعاد إلى دفاتره القديمة، رحت أقرأ بعض ما كتبه الأطباء المؤرخون أو المؤرخون الأطباء: فعدا روبيسبر، يرون أن أعراض بيتهوفن التي أدت إلى وفاته تتوافق والساركوئيد. ثم هناك “روبرت لويس ستيفنسن”، نعم هو نفسه الذي كتب “دكتور جيكل ومستر هايد” يرجح أن سعاله المزمن ومشكلاته الرئوية المُدنِفة كانت بسبب المرض نفسه. لكن ما الذي أوحى لستيفنسن بهذه الرواية؟ لا! لا يحتاج الواحد علما أو إلهاما أو تجربة فريدة من نوعها كي يكتشف الشر الذي تنطوي عليه النفس البشرية. ثم ما التفسير الذي قدمه ستيفنسن؟ لا أدري. ومجددا، ودائما، ها هو طبيب أقسم أن تكون أرواح الناس وحياتهم وصحتهم، أولويته الأولى وبوصلته؛ فماذا فعل بالناس؟
في تلك الليلة أخذت أدرس حالتها بعمق، وكانت تعينني فكرة لذيذة: غدا ستكبر ريم لتكمل سيمفونية بيتهوفن العاشرة التي مات قبل إتمامها، أو تقودنا في ثورة ننتصر فيها، أو تكتب لنا قصة جديدة تفسر لنا الطبيعة المزدوجة لوجودنا الأخلاقي المثير للرعب والتقزز.