حين يبقى الموتى ويرحل الأحياء

لم يكترث صهري “عمران” لأمنيتي، التي جاءت متأخرة، عندما أبلغني أنّه عاد قبل ساعات من الضيعة، حاملاً بعضّ الصور العائلية، والأوراق الشخصية، التي نبشها من بين حطام منزله في كفرنبل، وهي تتهاوى تحت براميل جيش الوطن.
يبدو من الصعب، أن يأتي الإنسان متخفيّاً إلى بيته الذي عمّره حجراً فوق حجر، بعرق الجبين، ويتجوّل في حارته الفارغة من أهلها، يلملم على عجل ما خفّ حمله وعظُمت أهميته.. وهل أغلى على المرء من ذكرياته الجميلة؟.
قلتُ له: لو أنّك أحضرتَ كيساً صغيراً من تراب الضيعة، وأرسلته لي مع أي أحد إلى تركيا، كي أضعه في زجاجة أراها يومياً في بيتي المؤقت مثل هويتي هنا في بلاد اللجوء.
عبر شاشة الهاتف، قلّب عمران صور العائلة التي تعود لأكثر من 25 عاماً.. هذه صورة ابنتي في الشام، كانَ عمرها 3 سنوات، اليوم نازحة مع زوجها عند الحدود، وهذه صورة لعمّار وهو في الرابعة من عمره، اليوم صار عاملاً بعدما ترك المدرسة ليعيل أهله على ويلات النزوح.
ما أصعب أن تحمل ذكرياتك في حقيبة، ثمّ تضمّها حين يغيب الزمان والمكان معاً، وحين تحدّق في زوايا البيت من خلال الصور تكتشف متأخراً أنّ الفِقد عظيم، وأنّ الأيام التي كانت.. كانتِ الأجمل.
بقينا لأيام، نترقّب بكامل الخسران، نبأ سقوط المدينة بيد النظام، بعد رحلة نضال من أجل الحرية استمرت لـ 9 سنوات، وكنا نسترق بين الحين والآخر آملاً نعلّقها على حبال السياسة الهشّة، بأنّ اتفاقاً ما قد يحصل، ويحول دون سقوط المناطق.
في منزله المؤقت، اضطر عمران إلى النزوح مجّدداً من الأتارب إلى معرة مصرين، بسبب القصف العنيف، تاركاً ما جاء به من ذكريات وبقايا أثاث، ليكتمل مشهد القهر على الآخر.
بعد أيام قليلة، دخلت ميليشيات مارقة إلى كفرنبل، جيش، وشبيحة ودفاع وطني، وبعض من مخبري الضيعة، وتقصّد عناصر الجيش وأبواق النظام ترويج لقطات فيديو، تُظهر مدى حقدهم وتشفّيهم بتهجير قرابة 100 ألف مدني كانوا يسكنون في المدينة الغارقة في الحبّ والبساطة قبل أشهر.
راحت عدساتهم المجرمة تفضح حجم الدمار الذي تعيشه المدينة، وفاتورة الذخيرة التي استهلكها النظام ليتمكّن من إحكام السيطرة على “أيقونة الثورة”، ثمّ يخنقها، ويعيدها “مؤقتاً” إلى زجاجة الطاعة التي تأمر بالأسد وتنهى عن غيره.
رائحة البارود ونار ودخان البراميل المتفجرة، وبساطير العسكر، التي كانت في الفيديوهات، لم تتمكن من حجب رائحة الزمن الغابر، كنتُ أسمع صوت الجدران وهي تكفر بهم.
تمنّيتُ حقّاً لو أنّ عمران أحضر لي كيس التراب من حاكورة الدار، ثمّ سالتُ نفسي هل سيفرّط عمران بالكيس، لو أحضره، بعدما سقطت الضيعة بيد النظام، بالتأكيد لا! سيصبحُ غالياً عليه حتماً.
نبشتُ كلّ الذكريات في ليلة واحدة، ليلة سقوط كفرنبل، ذكريات تعبق بالحبّ والودّ في أزقة خَبِرتْ عن ظهر قَلب خطانا، حين نتكدّس مصباح يوم الخميس في سوق المدينة الشهير، أو يوم الجمعة حين كان رجالات الضيعة، يتباهون بكلّابياتهم البيضاء، وذقونهم “المحلوقة على الصفر” ورائعة العطر التي تفوح من سابع شارع، وهم يتوافدون إلى جوامع المدينة لأداء صلاة الجمعة.
لا أحَبّ على القلب، من شُرفات سيّدات كفرنبل وهنَّ ينسجنَ بعناية فائقة موسيقا من ورود على الشرفة “حبق، توليب، عطرية، قلب عبد الوهاب، عطر الليل..”. والكثير من القصص والحكايات، التي تميّزهن عن غيرهن من السيدات. فالجمال في كفرنبل لا يصنعه المكياج وزجاجات العطر، إنها الهيبة والوقار، واللسان الذي يقطرُ حبّاً، وحتى نكداً محبّباً، بتلك اللهجة الجبلية المتفرّدة.
هل يصدّق أحد أن الجميع رحلَ من الضيعة، الجميع.. نعم، لكن وحدهم الأموات فضّلوا البقاء، منتصرين على دبابات الجيش، يتحدّون وجوه العسكر المحشوّة بالحقد والإجرام. لذا قرر أولئك الجنود أن يقتلوا الموتى أيضاً، ثمّ يحرقون قبورهم ويسهرون مع جماجمهم.. فعلوها حقاً في قرى عديدة من سوريا.
رجعت بيَ الذاكرة، إلى سهرات عامرة بالضحك مع الكثير من الأصدقاء، في أراضي التين في كروم الضيعة، وعندما علمتُ أنّ أحد الشباب من أبناء كفرنبل سقط شهيداً أثناء تصدّيه مع رفاقه لتقدم قوات النظام، وعلمتُ فيما بعد أنّه من بيت “محروق” تذكّرت حين كان أهلنا يحكون لنا أنّ أول من سكن الضيعة قبل أكثر من 120 عاماً هم آل محروق.
وأنا أحدّق في وجه الشهيد.. شاب في أول العمر، أبى أن يترك مدينة جدّه الأول، وأصرّ أن تكون آخر قطرات دمه فوق تربتها، ليحوز المجد من بابه الواسع، ويقابل في السماء وجه جدّه الأول منتصراً رغم الخسارة المؤقتة للضيعة.
تقول لي زوجتي، إنّ جدّتها تتمنى على أولادها، أن يدفنوها في كفرنبل، عندما تموت، لا تحبّ أن تنام نومتها الأبدية غريبةً.. ثم تتابع زوجتي: الموت موت.. لا يهمّ أين يكون، كما لا يهمّ أين يُدفن الإنسان بعد موته، فأجيبها، إنّ هؤلاء الكبار، الذين جُبلت عروقهم بتراب الأرض لن يكون سهلاً عليهم الموت غرباء. إنّهم يفضّلون تراباً يحنّ عليهم في نومتهم الأخيرة.
ثم تأخذني الذاكرة، إلى قبور أبي وأمي وعمتي، وعمّي، وأقاربي، على سفح كفرنبل.. شواهد مطلّة على بلدة حاس، تحيط بها أشجار السرو، والزيتون، إنها اليوم وحيدة، لا أحد يأتي إليها يرشّ ماء الوفاء فوق تربتها، لا أحد يأتي حاملاً على أكتافه ميتاً جديداً، حتى الزنبق فوق تربة القبور أصابه اليباس، فما نفعُ أن يدفن الإنسان في أرضه وأهله ليسوا فيها.
ثم أتذكّر ابن عمّ أبي، “أبو طالب” الذي ظلّ عشرات السنين يشرف على المقبرة، ويجمع من العائلة أموالاً لامتلاك قطعة أرض صغيرة لتوسيع المقبرة، وتصليح بئر الماء، وبعد كلّ ذلك، فتكَ به المرض غريباً، ومات على عجالة في دمشق ودُفن في مقبرة “نجها”، بعيداً عن المقبرة التي نام فيها والده “جدعان” فيها قبل 24 عاماً.
هل يصدّق أحد أن الجميع رحلَ من الضيعة، الجميع.. نعم، لكن وحدهم الأموات فضّلوا البقاء، منتصرين على دبابات الجيش، يتحدّون وجوه العسكر المحشوّة بالحقد والإجرام. لذا قرر أولئك الجنود أن يقتلوا الموتى أيضاً، ثمّ يحرقون قبورهم ويسهرون مع جماجمهم.. فعلوها حقاً في قرى عديدة من سوريا.