ذاكرة مكان

أحلام

أواخر عام 2011 اضطر والدّي للانتقال لدمشق لأن الأوضاع في ديرالزور قاربت على الانفجار، وكانت أمي ذات القلب الرقيق لا تتحمل فكرة أن يدخل الجيش ويداهم بيتها من جديد. كان الخوف قد تمكن منها وطيف الأمن يلاحقها حتى في كوابيسها التي لا تنضب، مما جعل والدي يذهب بها لأبعد مكان علّها تنعم بليلةٍ هانئة أو بضع ساعات، ولكن القدر الأسود لم يتركها، فبعد ذهابهم بأيام تم اعتقال أخي الصغير ليدخل أبي بدوامة من البحث والتقصي ومحاولة إخراجه كلفته ثلاثة سنوات، دون أن يتمكن خلالها من زيارتي ومدينته، ما حرمني رؤيته أو رؤية الجنة التي رزقني بها الله على الأرض. ثلاثٌ عجاف على قلبي التي لم يفارق أمي سوى لأيام خلال حياته، ثلاث من الجوع لدفئها، ثلاث لم يوجعني فيها شيء كوجعي من رؤية بيت العائلة خالٍ من أمي.

بعد خروج أخي من الاعتقال والتحاقه بي في الجزء المحرر من المدينة، قررت أمي أن تعود للدير، ولكن شبح الخوف ظل متأصل فيها، ومن لم يتأصل فيه الخوف من بطش هذا النظام الهمجي!. لذا قررت أن تسكن في أقرب نقطة لا يطالها قصف قوات الأسد، فسكنت في حي القصور الذي تسيطر عليه تلك القوات، علها تستطيع زيارتنا في الجزء المحرر بين الفينة والأخرى.

مرَّ شهران منذ انتقال عائلتي دون أن تأتي أمي لزيارتنا. لعنة سماع القذائف التي تقطف أرواحنا قد أصابتها ككل الذين يشاركونها الحياة في الأحياء التي تحت سيطرة النظام المجرم، والخوف تمكن منها لدرجة أنها باتت واثقة من أنّ إحدى القذائف ستنال منها فور قدومها إلينا.

كنت كل ليلة أخطط لقدومها، وفي كل مرة أعيد السيناريو في رأسي، سأستقبلها على جسر السياسية وأقبل قدمها أمام الجميع ثم آخذها معي لبيتها الذي كل ذرة فيه مشتاقة لدفئها، أحدثها عن كل ما حدث معي بالتفصيل، ثم أشاهدها وهي تجهز “المحشي” الذي لم أذقه منذ ثلاث سنوات، وأطرب برؤيتها وهي تدخن سجائرها في ركنها المخصص من البيت، لن أتذمر منها هذه المرة إن قالت لي أن النرجيلة التي أدخنها قاتلة وأنها لا ترغب بمشاهدتي أنتحر ببطء، وأي انتحار كالذي عشته يا أمي وأنا أنتظر قدومك كل يوم لأنام بعيداً عن صوت الموت بحضنك المحصن من كل شر، ذاك المخبأ الصغير الذي دفنت فيه كل أسراري. آهٍ كم اشتقت لتلك الأسرار، ليلةٌ واحدة كانت تكفي يا أمي لأخرج ألعابي من حجرك، وجميع حلقات افتح يا سمسم، وحبيبتي وأنا طالب في المرحلة الابتدائية، وعندما أنتهي من اللعب خذيني لاستحم برائحة أنفاسك وأنام.

في أحد الأيام جاء لبيتي صديق وهو مقاتل في كتيبة للجيش الحر، ومن خلال كلامه عرفت أنه يرابط في حي الجبيلة، وفي نقطة تعتبر الأقرب للبيت الذي استأجره والدّي في حي القصور. وبلا وعي دعوت نفسي لزيارته في النقطة التي يرابط فيها، ما أثار استغرابه لأني عادة لا أتواجد في نقاط القتال، لأني غير مسلح ولا أحب حتى حمل السلاح، ولكنه رحب بي. لم أعلم لم فعلت ذلك، لم طلبت منه تلك الزيارة، ولكني كنت بأمس الحاجة لأكون بأقرب نقطة من أمي.

ولمرة ومنذ زمن بعيد عاد إلي شعور المراهق الذاهب للقاء عشيقته، قمت بهمة قبل الموعد بساعات ولبست ثيابي، حتى أني رششت عطراً وسرحت شعري وجلست بانتظار أن يأتي صديقي ليقلني. وما أن أتى حتى عاجلته بطلبي للذهاب بطريقةٍ طفولي لا تخلى من التودد، لنركب الدراجة النارية وننطلق عبر شارع التكايا باتجاه شوقي، حتى توقفنا في آخر نقطة يمكن لنا الوصول إليها من حي الجبيلة ودخلنا عبر أزقة معظم بيوتها مدمرة، لنصل لبيت بالكاد يقف على أعمدته كان الجيش الحر  يمكث فيه، ولا تبعد قوات النظام عنه سوى عدة بيوت، حتى أن المتواجدون هناك يتكلمون همساً خوفاً من قذيفة قد تستهدفهم أو قناص يرصد حركتهم.

وقفت بمواجهة النافذة أرصد طريقي للبيت التي تقبع فيه أمي، لم أكن أعلم فعلاً أين هو ذاك البيت ولا حتى كيف أصل إليه، ولكني شققت طريقي إليه. عبرت حاجزاً من الركام كان يفصل مناطق سيطرة الجيش الحر عن قوات الأسد، ومررت بين البيوت حتى أني رأيت بعض عناصر النظام يشربون المتة ويتوعدون بقتلنا جميعاً، ولكني نفذت منهم ومشيت نحو دوار المدلجي، لأرى حياةً غير حياتنا التي نراها في القسم المحرر من المدينة،

صراحةً لم أكن مكترثاً بالموت والتوتر اللذين يعشعشان في المكان، ولا بالظلام الذي بالكاد يجعلك ترى ملامح الناس هناك، لمرة ومنذ أمد لم يكن في مخيلتي سوى شيء واحد، وهو أمي. جلست في غرفة تطل مباشرة على المناطق التي يسيطر عليها النظام، كانت الغرفة بلا أثاث قديمة بالية كزنزانة موحشة، أطلت بوجهي للسماء لأراها بلا قمر  ولا نجوم، كيف ستراني أمي بهذا الليل الحالك يا لحظي العاثر.

عمَّ الصمت في الغرفة لنصف ساعة لم أنبت فيها ببنت شفة، وكانت عيوني متعلقة نحو المجهول فيها أبحث خلالها عن وجه أمي وسط الظلام والركام وبقايا الوقت، ليقاطع بحثي صديقي بسؤالي عن رغبتي بكأس من الشاي، لأوافقه فوراً علَّ وجهاً يطل على يتمي في حال رؤيته غادر.

وقفت بمواجهة النافذة أرصد طريقي للبيت التي تقبع فيه أمي، لم أكن أعلم فعلاً أين هو ذاك البيت ولا حتى كيف أصل إليه، ولكني شققت طريقي إليه. عبرت حاجزاً من الركام كان يفصل مناطق سيطرة الجيش الحر عن قوات الأسد، ومررت بين البيوت حتى أني رأيت بعض عناصر النظام يشربون المتة ويتوعدون بقتلنا جميعاً، ولكني نفذت منهم ومشيت نحو دوار المدلجي، لأرى حياةً غير حياتنا التي نراها في القسم المحرر من المدينة، وجوه الناس هناك ليست موسومة بالخوف من القذائف والموت في كل حين. شققت طريقي عبر الحشود والخوف يتملكني، ففي أي لحظة قد يلاحظ أيٌ من عناصر النظام وجودي وتكون نهايتي، ولأن الحرية تنقش في عيون الأحرار أشحت بعيني عن كل من قابلته، وأصبحت أقترب من ذاك البيت الذي تقطنه عائلتي رويداً رويداً لأصل لمدخل البناء,

ترددت قليلاً قبل الدخول للبيت، ومن لا يخاف على أبويه من بطش عناصر الأمن، ولكني حزمت أمري وقرعت الباب، فتحت أمي الباب لتتفاجأ بقدومي ولكنها بلا تردد حضنتني وقبلتني بجنون، وأنا بدوري أوفيت وعدي وقبلت قدميها، وخزنت في صدري ما استطعت من رائحة أنفاسها وعطرها ذاك العطر الذي لا يقوى أي عطار على مزجه ولو ظل مائة عامٍ يعمل عليه. لم أتخيل أني أحب تلك الفراتية النزقة لهذا الحد، تكورت كطفل في الثانية في أحضانها وهي تمسح وجهي حتى غافلني النوم وأنا أنظر لوجهها وأحفظ تقاطيعه.

جررت من يدي بقوة لأسقط على الأرض. لم أستوعب أين أنا ولكن الظلام كان شديداً، جائني صوت من بعيد إنه صوت صديقي:

-كيف تقف بمواجهة القناص هل أنت مجنون.

كنت مذهولاً. كيف حدث هذا؟ أين أمي؟ أين عطرها؟ أقسم بأني كنت في حجرها منذ لحظة، من أعادني إلى هنا. كان هناك زوبعةٌ من الأسئلة في رأسي يثقلها كلام صديقي الذي لم أفهم منه شيئا، ولكنه كان كافياً لإعادتي للواقع، لم تكن رحلتي تلك سوى وهم عشته في مخيلتي.

نظرت بحزنٍ لصديقي ثم انفجرت بالبكاء، لم أتوقف إلا بعد خمس دقائق، بكيت بحرقة الأم التي فقدت صبيها، ثم هدأت حين رأيت نظرات الريبة التي ملأت عيني صديقي، وحينها سألني عما أبكاني هكذا.

-كنت أبكي كل من استشهد هنا، فللحظة شممت عطر دمائهم على تلك الجدران.

آه كم كنت كاذباً في تلك اللحظة. كاذب كنفسي عندما كنت صغيراً وأبرر لأمي كذبي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عشرين + تسعة =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى