سقوط الجهات في مخيم اليرموك

كان عليه أن يأخذ موقعه كالصياد الحاذق لكي يفهم دمشق جيداً، فلا هي تبتلعه إذا يغشاها طافح الشوق واللهفة ولا هي تنكره إذا انزوى عنها مثقلاً بوجل الفلاح وريبة الريفي، لذلك انتقى أن يركن إلى قاع سرها وقبة كنهها، اختار الخاصرة حيث الرؤية الأوضح في النقطة الأكثر صفرة، اختار مخيم اليرموك.
في الواقع لم يكن له القرار كله، بل كان للمخيم نفسه نصيب لا ينكر من هذا القرار، لقد بادله التحية والابتسام والدهشة، وزاد عليه بيدين مفتوحتين على مفرق كل شارع وحارة، كأنه صديق قديم أو موعد محفور في لوح قدره، وما أشد التشابه بينهما؛ كلاهما جسور يقف على خطوة من دمشق يكتم عنها الهوى القديم ولا يصارحها بالهوى الجديد، ولعل حميمية اللقاء أنسته تأخره في القدوم إلى المخيم أربع سنين قضاها متنقلاً بين السكن الجامعي وحي المزة وجديدة عرطوز، إلا أنه الآن يذرع شوارعه وحاراته -بعد أن استكرى بيتاً خلف جامع الحسن- كأنه صاحب مكان، وعلاقاته وصلاته في كثرة مستمرة وسرعان ما تطور أغلبها إلى صداقات حميمة.
وللمصادفة كان البيت الذي استكراه على بعد مائة متر من بيت الحكم النعيمي، صديقه منذ عامين، فأكثرَ من زيارته في المنزل الذي يسكنه مع أبويه (أبو إياد وأم إياد)، وكان للحكم فيه غرفة صغيرة يفتح بابها إلى اليمين خلف مدخل البناء وإلى جواره باب المنزل، ويطل على الزقاق شباكها الحديدي القديم الذي يدل الزجاج متعدد الألوان بين عوارضه على شقاوة أطفال الحارة، وبذلك حظي الحكم بخصوصية الدخول والخروج وبالراحة في استقبال الأصدقاء والصراخ الدائم على أطفال الجيران، وفيها كنبة واحدة هرمة وكرسيان حديديان مغطيان بجلد قديم وطربيزة قزمة ينام فوقها تلفزيون صغير قديم يكاد الزائر يحلف الأيمان إن العنكبوت أسس مملكة داخله، وفي صدرها مكتبة صغيرة تملؤها صور الحكم إلى جوار جورج حبش وصورة لياسر عرفات بالإضافة إلى منحوتات خشبية لخارطة فلسطين وحنظلة والكثير من الكتب، وتتكدس لوحات كثيرة في باقي الغرفة، منها الناجزة ونصف المكتملة، ومنها بيضاء مشدودة على المرسم تصبغ الصفرة أطرافها، ومنها مكتملة ممزقة بضربة مقصودة على ما يبدو. كما تكررت زيارته للحكم في دار الشجرة للطباعة والنشر الواقعة على منتصف شارع اليرموك تقريباً، ليصبح على علاقة جيدة بصاحب الدار غسان الشهابي؛ كان الحكم موظفاً في الدار فهو بارع في تصميم أغلفة الكتب وسريع في إعدادها للطباعة.
والحقيقة أن للحكم شخصية مركبة يصعب فهمها أو التعامل معها، إلا أنها راقت له كثيراً، كان هشاً حتى لتحس أنك ستحطمه إذا عانقته، وصلباً فإذا فرغت كنانتك من الأصدقاء لجأت إليه غير متردد ولا حذر، وكان مرحاً كطفل، نزقاً كمارد، يختلط فيه الحب والكره في آن فلا تأمن غلظته ولا تعدم رقته، وليس في ذلك فرق كبير بينه وبين الفلاح اللاجئ من أرياف درعا إلى مخيم اليرموك محملاً بالوصايا مكتظاً بالأسئلة منطلقاً إلى بهرج المدن وملذاتها كسهم، لذلك اشتدت صداقتهما وفاض كل منهما عن سره للآخر.
بالإضافة إلى ذلك كان الحكم النعيمي محبوباً محذوراً في مخيم اليرموك، الحذر من نزقه، أما عن الحب فله قصة طويلة ابتدأت باعتقاله من قبل أجهزة المخابرات السورية إبان حرب الخليج ولم يكن له من العمر ما يكمل به ستّ عشرة سنة، على إثر مشاركته في مظاهرات مخيم اليرموك التي اتهمت حافظ الأسد آنذاك بالتآمر والخيانة، ليقضي خمس سنوات في أفرع المخابرات السورية وفي سجن المزة العسكري، مشاركاً العديد من المعتقلين السياسيين القدامى منذ استلام حافظ الأسد للحكم، وكثيراً ما أشار الحَكَم إلى أحاديث دارت بينه وبين بعضهم كلما غلبته نشوة السُّكر. لم تستطع ذاكرة الحكم التعامل مع هذه التجربة وكذلك لم يستطع المخيم، وسيكون لها أثر كبير على بقية حياته، وستكون في ذاكرة المخيم تأكيداً على قدرة الكشف والتمرد الفلسطيني على الأنظمة العربية التي استضافت الفلسطينيين لتتاجر بقضيتهم فقط، قضيتهم التي ستنسى ببطء.
بعد خروجه من المعتقل درس الحكم الفنون الجميلة في جامعة دمشق، وأقام معارض فردية وشارك في معارض جماعية، ونشر ثلاث مجموعات شعرية، وزينت لوحاته ودواوينه جدراناً ومكتبات كثيرة في بيوت الأصدقاء والسياسيين الفلسطينيين والأدباء والفنانين.
خض المخيم الفلاح حتى انفرج عن زبدة روحه، وحكّه بخشونة حتى أسفر عن معدنه، ومرت السنين وهو يكبر فيه بسرعة، فالمخيم ولادة جديدة، وبينما هو يكاد ينهي دارسته الجامعية في كلية الطب البشري، أخذت لهجة المخيم تظهر في حديثه كأنها شقوق الكمأة في صحراء ممتدة بين حقلي قمح، وأخذ يأتلف الشوارع أكثر ويذكره الحلاقون وأصحاب الدكاكين والباعة في سوق الخضرة وأبو حازم صاحب الخمارة، حتى أنهم كانوا يبيعونه بالدين، هل يا ترى كان يحاول أن يقلد الحكم أو يأخذ دوره؟! وهل الإنسان أكثر تأثراً بالأشخاص الأكثر ألماً وخوفاً ومعاناة؟!
لم تحظ هذه الشخصية بالحب والانتباه الكبيرين فقط، ولم تقتصر قدراتها على التجوال في شوارع المخيم والمهارة في تمرير ما تريد بالملاطفة والتخجيل وبالصراخ أحياناً، فإذا أفلس الأصدقاء وضاقت السبل فمن لهم إلا الحكم الذي يؤمّن مستلزمات السهرة بجولة قصيرة بين خمارة (أبو حازم) وسوق الخضرة ومنزل أبويه، بل كان للحكم فيما مضى نشاط سياسي في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وعرف بعلاقات قريبة من قياداتها البارزة آنذاك، أو عندما كان يقودها الرجال، كما كان يقول دائماً، أما في الفترة التي قدم فيها صديقه الفلاح للإقامة في مخيم اليرموك، أي قبل الثورة السورية بسنوات قليلة، كان الحكم قد اعتكف عن العمل السياسي واقتصر على كتابة الشعر والرسم وتصميم الأغلفة وتأمين السهرة للأصدقاء في جولات قصيرة يومية، وإذا ما توافر بعض المال تحولوا إلى بار نينار جانب قوس باب شرقي.
لمخيم اليرموك سحر لا تجدر ولا تمكن مقاومته، إنه مغناطيس للبرادة البشرية الهاربة من المجتمعات المصقولة، في كل ما هو خارجه تبدو الحياة مثل ماكينة تصميم مسوخ تبتدئ بمنظمة طلائع البعث إلى اتحاد شبيبة الثورة إلى الفرق الحزبية ومن ثم الفروع الأمنية، فتصل عبر تدرجها إلى ابتكارها المقرف؛ الإنسان الخاضع القابل للمضغ والبصق مرات عديدة، ومن ينجو من هذه الماكينة المحكمة أشبه بفراشة نجت من حريق الجمعة السوداء قي غابات أستراليا، وليس هناك إلا المخيم يجمع آخر الشتات الطبيعي للبشر، فأصبح المرآة التي تري العراة جمالهم وقوتهم، والبئر التي يلقي فيها الهاربون أسرارهم وأصواتهم، فتعجز أجهزة المخابرات عن كشف العصاة الصارخين في زمن الصمت العظيم. خض المخيم الفلاح حتى انفرج عن زبدة روحه، وحكّه بخشونة حتى أسفر عن معدنه، ومرت السنين وهو يكبر فيه بسرعة، فالمخيم ولادة جديدة، وبينما هو يكاد ينهي دارسته الجامعية في كلية الطب البشري، أخذت لهجة المخيم تظهر في حديثه كأنها شقوق الكمأة في صحراء ممتدة بين حقلي قمح، وأخذ يأتلف الشوارع أكثر ويذكره الحلاقون وأصحاب الدكاكين والباعة في سوق الخضرة وأبو حازم صاحب الخمارة، حتى أنهم كانوا يبيعونه بالدين، هل يا ترى كان يحاول أن يقلد الحكم أو يأخذ دوره؟! وهل الإنسان أكثر تأثراً بالأشخاص الأكثر ألماً وخوفاً ومعاناة؟! لماذا ينتحب لمعاناتهم، ويمسك أيديهم بعطف، وسريعاً ما يصبح صديقهم؟! أليس الإنسان يحزن ولربما يبكي إذا رأى أو سمع عن معاناة تفوق معاناته؟! فهل يسعد إذا رأى أو سمع عن سعادة تفوق سعادته؟! كذلك انسحب الفلاح ابن المخيم وراء ظل الحكم وذاكرة اعتقاله فأهمل دراسته وتلكأ عن أي عمل يقوم به حتى الكتابة، كما أهمل الحكم عمله وكتابته ولوحاته فأتلف الكثير منها في لحظات سكْر وبكاء وصراخ، وأصبح الليل غطاءً سرمدياً يلم الألم وانعكاسه عن عيون الآخرين ويعلن الهروب انتحاراً بطيئاً إلى أن تكسرت المرآة عن فضتها وتقيأت البئر الأنبياء والرسالة. كان لا بد لذلك أن يحدث إلا أن انطلاق الثورة السورية أشبه ما يكون بولادة المخيم المبكرة، وعلى هذه المواليد ابنة السبعة أشهر أن تكافح في سبيل نجاتها.
خلال السنتين الأولَيين من الثورة اعتقلت المخابرات السورية الفلاح (عبد) مرتين، وبعد خروجه من الثانية كان لزاماً عليه أن يختار أحد المناطق الخارجة عن سيطرة النظام ليكمل نشاطه فيها، فإما درعا أو غوطة دمشق أو مخيم اليرموك، بالطبع كان الخيار أوضح من أن يتردد، فعاد عبد إلى المخيم وعمل طبيباً في مشفى فلسطين الذي غادره كل الأطباء خلا طبيب تخدير عجوز، وليست بطالعة خير أن يكون غسان الشهابي صاحب دار الشجرة أول صديق يراه مضرجاً بدمائه؛ تحمس غسان للثورة السورية منذ بدايتها، طبع المنشورات وخطَّ اللافتات في دار الشجرة، وقدم المال، وساعد الأسر النازحة من حمص وأرياف دمشق إلى مخيم اليرموك، وحين سيطر الجيش الحر على المخيم منتصف كانون الأول 2012 أصبح همّ غسان تأمين المستلزمات الطبية والإغاثية، وفي طريق عودته من دمشق، حيث ذهب لمطالبة الفصائل الفلسطينية بأداء واجبها تجاه المخيم، استقرت الرصاصات التي طالما توقعها في أنحاء جسمه من البندقية التي يتوقعها والجهة التي يتوقعها عند مدخل شارع اليرموك الذي يحفظه عن ظهر قلب.
بالفعل إن الموت الجماعي أخف وطأة على النفس من الموت الفردي، أن ترى مصيبة الآخرين يعني أن تهون عليك مصيبتك، هكذا علمنا المثل الشعبي، ولكن ماذا حين تصبح رغبتنا في رؤية مصيبة غيرنا إرادية واعية لأننا لا نريد أن نصاب أو نموت وحيدين، لا، بل ليصاب ويموت الكل معنا، أكاد أقول أن الموت لو كان بيد المحاصَرين أنفسهم لماتوا جميعاً على أيدي بعضهم البعض، ولكنه كان خبط عشواء، والنجاة أمنية لا تزيد في ألقها عن قتامة الموت القريب من راس الأنف ورائحته تملأ الرئتين وتخرج مع كل زفير،
في ذلك الوقت لم يكن الموت عادياً كما هو الآن، فالعيون ما زالت تزخر بالدمع، والقلوب رهيفة شفوقة على الصديق وغير الصديق، بكى الطبيب والممرضون وكل من كان في المخيم آنذاك على غسان، وفي لحظات الحزن العميق هذه تهدأ الحركة في قسم الإسعاف في مشفى فلسطين فلو أتى مريض أو مصاب جديد لرأيت الجميع يكسلون وينظرون في عيون بعضهم البعض كأنهم في المكان الخطأ ولا علاقة لهم بكل هذا، وسرعان ما يندفعون إلى رؤوس مثقوبة جديدة فيبدؤون إنعاشاً جديداً والصراخ يملأ المشفى ليتسلل موت جديد من بينهم ويعلن نهاية السباق البشري بحتمية الخسارة، ويصمتون في حزنهم الجديد، إلا أن ذلك يتكرر كالمطرقة على قلوبهم فيكتشفون أنها أشد قدرة على التعود منها على الانفطار وأنها أقسى من الحجارة، فيصبح المصاب الجديد زائراً مألوف الإياب والذهاب ويصبح الغطاء الأبيض جزءاً مهماً من عملية الإنعاش التي لم تعد إلا حركات وخطوات رتيبة تشبه رقصة مملة يؤديها ممثل ممل. بالفعل إن الموت الجماعي أخف وطأة على النفس من الموت الفردي، أن ترى مصيبة الآخرين يعني أن تهون عليك مصيبتك، هكذا علمنا المثل الشعبي، ولكن ماذا حين تصبح رغبتنا في رؤية مصيبة غيرنا إرادية واعية لأننا لا نريد أن نصاب أو نموت وحيدين، لا، بل ليصاب ويموت الكل معنا، أكاد أقول أن الموت لو كان بيد المحاصَرين أنفسهم لماتوا جميعاً على أيدي بعضهم البعض، ولكنه كان خبط عشواء، والنجاة أمنية لا تزيد في ألقها عن قتامة الموت القريب من راس الأنف ورائحته تملأ الرئتين وتخرج مع كل زفير، إنه مرض الموت الذي ينقص تعاطفك مع الآخرين حد الزوال بينما يتسع الموت داخلك ببطء حتى يبدأ بالظهور تحت عينيك وعلى رؤوس أصابعك وحول خصرك، ولو أن للإنسان نصيب من اسمه لما وقع في فخ النجاة المهلك، وإليك إحدى قصص المخيم؛ حدث في أحد الأماسي الربيعية أن جاء خالد إلى المشفى ليشارك الطبيب عبد ليلته، وخالد أحد الممرضين المتطوعين في المشفى إلا أنها لم تكن ليلة نوبته فقدومه بدا من باب التسلية ليس إلا، وبعد مزاح لم يطل بينه وبين الطبيب وباقي الممرضين سُمع سقوط قذيفة وسط المخيم، وما هي إلا دقائق حتى أتت سيارة سوزوكي تحمل مصاباً على بطانية بالية مغبرة، لم يكن المصاب إلا كومة من لحم مقلوبة راساً على عقب، إلا أن عبد حاول أن يتأكد من الوفاة على النحو القاطع، وبينما هو يقلّب الجثة علق خالد: ” يا دكتور إنه متوفي، ولا طائل من إنعاشه، ولا تنسى أن المواد الطبية شحيحة لدينا”، وكان يحمل الشرشف الأبيض بين يديه، بالفعل شرع خالد وممرض آخر يلفّان الكتلة اللحمية بالشرشف، بينما أدار عبد ظهره عائداً إلى كرسيه قبالة مدخل الإسعاف، وفجأة انطلق صراخ خالد كالبركان: ” دكتور .. أبوي يا دكتور أبوي .. مشان الله أنعشو.. مشان الله جرب”، بالطبع تفاعل عبد مع انفعال خالد غير أنه لا يستطيع إحياء ميت حتى وإن كان أحد العاملين في المشفى لا قريبه فحسب، وخالد لم يكن حالة غريبة في ذلك الظرف بل الكل كان كذلك، فالكل يقف بين مرآتي الخير والشر الراسبين فيه وعندما يكون المرء على موعد يومي مع الموت لا بد أن يظهر خيره لنفسه وينقطع عن الاخرين، إذا ما اضطر للمفاضلة بينه وبينهم.
إنه من الاستحالة بمكان أن يمكن العمل في مشفى فلسطين لولا قدوم الدكتور أحمد الحسن إلى المخيم وذلك قرار ليس من السهل أن يتخذه أي طبيب مختص في تلك المرحلة الرمادية في منطقة جنوب دمشق، وخصوصاً في مخيم اليرموك، فهي بطبيعة الحال خارجة عن سيطرة النظام وبدأت التشكيلات العسكرية والخلافات بينها تكثر فيها، ومن وقت قريب قبل قدومه أنهى الدكتور أحمد اختصاص الجراحة العامة في مشفى تشرين العسكري الذي امتاز فيه بحظوة على حد قوله، ليتركه هارباً ويتوجه إلى مخيم درعا محضراً زوجته وأطفاله معه إلى مخيم اليرموك، في أول مرة التقيا كان عبد جالساً في غرفة إدارة المشفى حيث كان يوماً هادئاً من القصف، سلّم الدكتور أحمد مبتسماً أكثر مما يقتضيه سلام شخصين لا يعرفان بعضهما، وجلس قبالة عبد، ودون أن يعرّف بنفسه أو أي مقدمات سأله عن وضع العمل في المشفى فأخبره عبد عن قلة الكادر وأنه غير مختص وأن العمل يقتصر على معالجة الجروح البسيطة إلى الجراحة الصغرى والإنعاش كما أخبره عن امتناع بعض الموظفين السابقين في المشفى عن تزويد قسم الإسعاف بما يحتاجه من مستلزمات من المستودع وإغلاق قسم العناية المشددة بالرغم من جاهزيته للعمل وامتناع فني قسم الأشعة عن تصوير المصابين إلا لمن يخصه أو يخص أحد قادة المجموعات العسكرية، وأنهم يقومون بتشغيل المولدات الكهربائية بشكل فائض وكأنهم يريدون أن يستهلكوا المازوت بأسرع وقت ممكن، زاد الدكتور أحمد بعرض ابتسامته التي لم تبارح وجهه وقال مقاطعاً :”سنشغل المشفى من جديد”، صمت عبد محدقاً فيه بنظرة متسائلة، قام الدكتور أحمد وصافحه من جديد وقال: “أنا الدكتور أحمد الحسن، ومن صباح الغد سأبدأ الدوام في المشفى”، هلل عبد ورحب به إلا أنه خرج مسرعاً.
ربما ترك الدكتور أحمد اللقاء للرسمية المفرطة ليستقرئ شخصية هذا الطبيب، وربما حذره أحد قبل لقائه بعبد، ولعل في ذلك حقاً لا ينكر فالكثير من الثوريين على كافة مجالات عملهم وعلى اختلاف مستويات تعليمهم تجاوزوا ما يقتضيه النشاط الثوري إلى ما يطمحون لتحقيقه عندما تنتصر الثورة، وما كان أحد ليشك أن نصر الثورة قريب في تلك المرحلة، فقد استباح قسم من العسكريين الأملاك الخاصة وتجرأ بعض الثوريين على سرقة أموال الإغاثة والدعم، كما روي عن بعض الأطباء الشباب في المنطقة إنه صرح عن حقه ورغبته في أن يكون وزيراً للصحة بعد انتصار الثورة. على أي حال ما هي إلا ساعات بعد قدوم الدكتور أحمد في صباح اليوم التالي حتى أصبحا على وفاق وود، ويمكننا القول إنهما صارا صديقين بعد أسابيع، بالنسبة لعبد كان الدكتور أحمد معلماً في غرفة العمليات وصديقاً وناصحاً باقي الوقت الذي يقضيان أغلبه معاً، ولأن بيت الدكتور أحمد قريب من المشفى اتفقا على أن يكون دوام عبد في المشفى كاملاً وبشكل مستمر فهو أعزب بينما يذهب الدكتور أحمد إلى بيته من منتصف الليل حتى الصباح.
حاولت الكثير من الجهات العسكرية والمدنية أن تستقطب الدكتور أحمد إلى جانبها إلا أنه رفض كل العروض وكثيراً ما نصح عبد بذلك أيضاً، وانتقى من بين كل الجهات في المنطقة مجموعة من أربعين منشقاً عن جيش التحرير الفلسطيني بعد أن وُجهت لها الأوامر بالمشاركة في حصار المناطق الثائرة، يقود المجموعة العقيد خالد الحسن (أبو عدي) ومعه سبعة ضباط وعدد من صف الضباط والبقية من المجندين، وقد امتازت هذه المجموعة بانضباطها العسكري فيما بينها وكذلك انضباط سلوكها في المنطقة وفي علاقتها مع المدنيين وخلال أداء مهامها الدفاعية في حال هجوم قوات النظام، ومن بين الضباط في المجموعة الملازم أول إياس النعيمي وهو من أبناء عمومة الحكم النعيمي، وربما يكون هو السبب في عودة الحكم النعيمي إلى المخيم بعد خروجه منه منذ سيطرة الجيش الحر عليه.
لا يمكن وصف اللقاء بين الحكم وعبد، ليس من المبالغة أن عيون عبد سبقته بنصف متر عندما رأى الحكم يأتي من زاوية شارع اليرموك أمام بائع الثلج باتجاه المشفى، فركض باتجاه الحكم الذي كان مشغولاً بإلقاء التحيات كأنه ملك مخلوع عاد إلى عرشه بعد طول عهد، وما إن رأى عبد حتى ركض باتجاهه وتعانقا بما يشبه الاصطدام، حضنه وشده إليه ورفعه عن الأرض في آن كأنه يريد أن يعصره، لكن خوفهم من قذيفة هاون أو مدفع لم تسمح لهذه الحرارة أن تدوم أكثر من دقيقة ودخلا إلى المشفى. الشارع أمام مشفى فلسطين شارع عريض (امتداد شارع الـ 30)، لذلك يخشى من سقوط القذائف فيه فلا مكان تلوذ إليه وليس أمامك إلا معانقة القذيفة كما عانق عبد الحكم.
السعادة لم تغمر عبد والحكم فحسب بل طافت على الأرض والجدران وأصبحت تنقط فوق رؤوس الممرضين والمراجعين فيفرجون وجوههم العابسة ما بين الابتسام والضحك وهم يرون هذين المخبولين يشيران في كل اتجاه ويصيحان بأسماء لا يعرفها أحد وعبارات لا تندر فيها الكلمات النابية، بالنسبة لهما أن يلتقيا في المخيم بحياة جديدة وشكل جديد أشبه بالحلم، فقد اتخذا قراراً صامتاً قبل الثورة بالهرب والانتحار البطيء، أما الآن أصبحا على موعد مع انتصار الثورة الوشيك وهذا يكفي الحكم شعوراً بالانتقام لأجل سنوات عمره المبكرة التي قضاها في فروع الأمن وسجن المزة العسكري، وانتصار الثورة بالنسبة لعبد يعني انتهاء آلام الحكم وكذلك كل الذين يشبهونه، أي كل الشعب، وإن كان لا يغتبط لسعادة غيره فعلى الأقل لن يحزن لحزنهم، وبعد السنوات المظلمة السابقة يستطيع هذا الشعور وحده أن يرسم لهما فجراً ولو من وهمها.
وحين ألقي القبض على الجناة وكانا شابين، قررت المحكمة في المخيم آنذاك قتلهما، ولا غرابة في أن بعض الناس تعاطف مع الجناة ولسان حالهم يقول هذان شابان والميت عجوز، أليسا أولى منه بالحياة؟!، أليس شيئاً يضع العقل في الكف!، حتى العقل الذي بحجم الكف يغيب في زمن الموت جوعاً.
بدأ الحصار يشتد شيئاً فشيئاً، والأسعار في ارتفاع مستمر، قرر عبد أن هذه آخر علبة سجائر يشتريها إذ أصبح ثمنها أكثر من عشرة أضعاف ثمنها الأصلي، رأى أن شراءها غير أخلاقي في الظرف الذي لا يجد فيه كثير من الناس قوت يومهم، أما هو فكان يساعده بشكل شبه شهري صديقه أبو شادي بمبلغ متواضع مخصص لمصروفه الشخصي، بينما انشغل الحكم بجمع السجائر وعلب الدخان، إن صادف وجودها، من بيوت الأصدقاء الذين تركوا المخيم بعد سيطرة الجيش الحر عليه، واستطاع أن يجمع كمية ليست بالقليلة وضعها في طست ورطّبها بأوراق الخس ونكهها بأوراق الليمون، وساعد هذا عبد في إنفاذ قراره بعدم الشراء، والحصار يشبه السجن من حيث روتينية السلوك وتعاقب الأيام السريع، لكنه يمنح مساحة أوسع بين القفص الصدري والجدار، ويمنح نصف حرية أيضاً، وحين يشتد الجوع حد الموت تبرز أنانية النجاة وتبرر نصف الحرية كل شي في سبيل ذلك بما فيها الجريمة، فربما قُتل شخص من أجل نصف كيلو أرز في حوزته، ولا مجال لسرقة نصف كيلو الأرز من دون القتل فنصف كيلو الأرز يساوي الحياة وإذا سرقه أحد فهو يسرق حياة غيره، وهذا الغير سيدافع عن حياته بكل الوسائل لأنه يملك نصف حرية أيضاً، ولن ينتهي هذا الصراع إلا بأحد يضمن البقاء ليومين آخرين وآخر ارتاح من جوع اليوم التالي، ويحدد النتيجة التفوق البدني أو امتلاك سلاح ما. وهذا بالفعل ما حصل مع رجل سبعيني وجد مقتولاً في منزله، وحين ألقي القبض على الجناة وكانا شابين، قررت المحكمة في المخيم آنذاك قتلهما، ولا غرابة في أن بعض الناس تعاطف مع الجناة ولسان حالهم يقول هذان شابان والميت عجوز، أليسا أولى منه بالحياة؟!، أليس شيئاً يضع العقل في الكف!، حتى العقل الذي بحجم الكف يغيب في زمن الموت جوعاً.
مرة قال عبد للدكتور أحمد: “أصبحنا نتمنى أن تأتي إلى المشفى وفاة لسبب طبيعي أو حادث مرور”، الحقيقة أن هناك حالات موت طبيعية حصلت، ولكن الموت بالقذائف والصواريخ أنساهم أسباب الموت الأخرى، وحين انشغل الناس بالجوع الذي حصد قرابة مائتين من المخيم والحجر الأسود، نسي عبد من جديد الموت بقذيفة أو صاروخ فقد مر الكثير من الهياكل العظمية الحية واستغرق نزاعها أياماً في بعض الأحيان، إلا أن قذيفة أصرت على أن تذكره بوجودها، سقطت أمام مشفى فلسطين فاكتظ قسم الإسعاف خلال لحظات بعدد من القتلى وعدد من الإصابات، ماتت أم العبد التي أدخلت الكثير من المواد الطبية إلى المنطقة وكذلك الفتى الحلبي بائع الثلج، وأصيب سائق سيارة الإسعاف بشظية في راسه، وعبد ينظر يمنة ويسره يبحث عن الدكتور أحمد فهو لا يستطيع تدبير كل هؤلاء المصابين، إلا أن أحمد كان أمامه على السرير مغمض العينين مثقوب القميص من ناحية صدره اليمنى مع بقعة دم صغيرة عند الثقب، وكل الممرضين يهزون عبد ويصيحون: “الدكتور أحمد مصاب”، هذه الشظية المائلة التي استقرت في القلب، ولم تعلن عن فعلتها الكبيرة إلا بثقب صغير وبقعة دم حولها أما كان لها أن تملأ الدنيا دماً؟، أكان أحد ليلومها على ذلك؟، ربما استغرق عبد يومين أو ثلاثة حتى استعاد وعيه تماماً بعدها، أما سكان المخيم من فلسطينيين وسوريين فليبكوا طويلاً ولا يبخلوا بالدمع على الشاب الذي انهى لتوه اختصاص الجراحة العامة وأحضر معه زوجته وأطفاله إلى المخيم وأنقذ أرواحاً كثيرة ومات هادئاً لتوه.
اعتقد عبد أن رحيل الدكتور أحمد إنما هو بداية الكرب العظيم بالنسبة له، وسرعان ما تبين أنه كرب عظيم على كل المخيم ومن فيه، وما هي إلا أيام حتى سقط ثلاثة صواريخ بالقرب من ملحمة المليون تاركة وراءها قرابة الأربعين شهيداً وعشرات المصابين من بينهم الملازم أول إياس النعيمي الذي عاد من المشفى الميداني إلى العناية المشددة في مشفى فلسطين ليرحل هو أيضاً بعد أسبوع من الأنابيب وغياب الوعي، ما دفع الحكم الذي هام على وجهه من جديد إلى الخروج من المنطقة عبر أحد طرق التهريب وتوجه بعدها إلى تركيا ليستقر أخيراً في فرنسا، ومن ثم يسقط المخيم تحت سيطرة داعش ويُقتل العقيد خالد الحسن (أبو عدي) وكامل مجموعته أثناء تصديه لهم، وبعد سنوات مريرة يخرج عبد من المنطقة في قوافل التهجير القسري إلى الشمال السوري، كان الحكم النعيمي أول المتصلين به عند وصوله إلى تركيا وطلب منه التوجه مباشرة إلى السفارة الفرنسية لتقديم طلب لجوء وأخبره إنه بانتظاره، لم يكن الأمر بالسهولة التي تخيلها الحكم لذلك بقي عبد في تركيا حتى الآن، أما الحكم فقد مات قبل أيام في فرنسا مقتنعاً بقراره الذي اتخذه في مخيم اليرموك قبل عشرة سنين بأن هذه المرحلة ساقطة ولن يكون أمامنا إلا الهروب والانتحار البطيء علنا نعبر منها بهدوء وسلام دون أدنى ضجيج.