ذاكرة لجوء

توابيت أنيقة.. كمّامات وقرارات أممية !

لم يخطر في بالي يوماً ما أن أمشي في الشوارع وبين الأزقة داخل هذا المغترب وأحصي على أصابعي عدد الناس! وكأني أمارسُ لعبةً للتسلية، مؤقتة؛ ببساطةِ طفلٍ يلهو مع أترابه خلال لعبة (الغميضة)، بأن يكتشفَ أماكنهم وهو يضحكُ، أو يلهث خلفهم وكأنه قد ربحَ جائزةً ما، أو حصل على وسامٍ من الدرجة الثالثة قلّده إياه ابن الجيران الخاسر!

هنا في “غازي عنتاب” خرجت اليوم بعد أسبوع تقريباً من الجلوس في المنزل، كالعادة، فأنا لا أخرجُ إلا نادراً، للضرورة أحياناً، وأقضي بعضاً من حوائجي عن طريق الهاتف، حيث أخبر عامل بائع الخضار السوري في الحي المجاور وأعطيه قائمة متطلباتي، فأنجو بهذا من سطوة الحياة الهلامية في الخارج، ومن ألسنة العجائز اللائي يجلسنَ بشكل يومي عند زاوية الحي.. يقشرنَ بسكاكينَ مثلمةٍ فاكهةَ النميمة، ويلفظنَ بشفاههن الرخوة بذور الأحاديث المستهلكة، وينكّهنَ خاتمةَ الجلسة برائحة الثومِ المرصوفِ كالجنودِ الأسرى فوق رؤوسهنَ!

كنتُ كلما خرجتُ من المنزل متجهاً نحو الحديقة المجاورة كي أنتهي عبرها إلى السوق، أجدهنَ بذات المشهد، لا شيء تغيّر مطلقاً؛ واحدة تتكئُ إلى جدارٍ نصفهُ مهدّم، بفستانٍ مزركش، ألوانه نارية، وساقاها متباعدتان بهيئة ملاكمة تتلقى النصائح بعد أن هُشّمَ أنفها في الجولة الأولى، وتلتفتُ يميناً وشمالاً كأن عنقها رادارٌ يستكشفُ حركةَ الأعداء! أما الثانية فظهرها مقوسٌ ولم تقوَ يوماً على رفع عنقها.. دائماً تحملقُ نحو الأسفل، وفي قبضة كفّها عصا متعرجة، تحرّكها أمامها كضريرة، أو أنها لربما تحصي أعداد النمل العابرة، كما أنا كنتُ أحصي اليوم الناس الغائبين عن المدينة!

العجوز الثالثة، هي صاحبة المتجر الذي يقع عند زاوية الحي، تماماً تحت منزلها؛ عمرها كما تفرّستُ ملامحها يتجاوز الستين عاماً، ولها شامةٌ كبيرة تقعُ عند طرفِ أنفها الضخم، مثل ثمرةِ لوزٍ جافّة تكاد أن تسقطَ. هذه العجوز تفتح باب ذاكرتي على مصراعيه، حيث إني أرى في وجهها تلك العجوز التي كنا نخافها في صغرنا، عندما تأتي حكاياتٌ الليل، بأن هناك عجوزاً تخطفُ الأطفال وتضعهم تحت ثوبها، ومن ثم تذبحهم وتأكل قلوبهم…!

  • طبعاً.. هي ليست “ليليث…!”

اليوم… مررتُ وأنا أتحاشى النظرَ إلى مكان جلوسهنَ المعتاد، فهنّ دائماً حين أمرّ يبدأنَ بالهمس والضحكات مع الإشارة إليّ بأصابعَ مرتجفة، ولا أدري حتى الآن، لمَ ذلك؟! إلا أن شيئاً في داخلي أخذ يناديني ” التفت إلى الشمال، إلى الشمال.. أبحر بنظركَ إلى الشمال.” فعلتُ ذلك، بحركة لا إرادية؛ ومن ثم، لم أجد العجائز الثلاث، بل إنني شاهدتُ بساطاً أزرقَ، مُوَشّىً بألوان نارية أيضاً، لكنه لا يشبه فستانَ تلك العجوز!

  • أخذتُ أفكرُ، وأنا أسمعُ صدى خطواتي الرتبية في هذه المدينة الساكنة، رغم أنّ الساعة لم تتجاوز الواحدة ظهراً.. ” أين تلك العجائزُ؟” 

لم يجبني سوى بابُ المتجر المغلق، الذي لم يكُ مفتوحاً مثل باب ذاكرتي ! نعم، إنهنَ في الداخل، أو لربما ماتت إحداهنَ جرّاء سقوطها عن درج البناء، ودُقَّ عنقها الذي لا يشبه الرادار، فأنا أجزم أن تلك العجوز ذات الفستان المزركش والساقين المتباعدتين أنها على قيد انتظار القبر.. لكن ليس اليوم، فهي لن تموت بهذه البساطة، لمجرد أنها تهبط الدرج، فلقد رأيتُ فيها تاريخاً حذراً، ومتوجساً، ولربما كانت منذ عقدين توبّخ حتى الرجالَ الوقحين، ولعلّها ذات يوم صفعت زوجة ابنها بسبب تراكم أطباق الطعام في المطبخ دون تنظيفها؛ لذلك، لن ينتهي أمرها عند آخر درجة، مع صرخةٍ خفيضة، أو أنينٍ متصاعد، فهي جديرةٌ بميتةٍ أخرى، وعلى سبيل المثال: ” تلقي بنفسها من مول تجاري شهير  في عنتاب مثل “السانكو بارك” احتجاجاً على نقصِ أعداد الرجال غير الوقحين بسبب الحروب، أو نكايةً بفيروس كورونا الذي حرمها وصديقاتها من الجلوس في الخارج والحديث حول المستجدات الأُسرية وارتفاع سعر البيض الذي يمنح عنصر الكالسيوم “. 

  • نعم… اليوم، سقطتُ عن الدرجة الحادية عشرة، وأنا أهبط تجاه منزلي  في “القبو”،  بعد خروجي صباحاً للمرة الأولى نحو جارنا البقّال كي أبتاعَ “الفول الأخضر”، لأطهو عشاءً يليقُ بربعِ رطلٍ من “الثوم”، الذي ارتفعت قيمته أكثر من قيمة جثث السوريين عند الحدود وعلى شواطئ البحار، وفي المنافي! 

بعد أن تجاوزتُ زاوية الحيّ، وأنا أفكّر بغيابِ العجائز، وأجيبُ نفسي بالإيجاب.. عسى أن خيراً هناك، وليس مكروهاً أصابهنَ، قلتُ مُدمّدماً وأنا أحكُّ باطنَ كفّي بظفرِ سبّابتي” هنّ كأعمدة البناء، لا يتزحزحنَ طيلة النهار، أما حين الغسق، يتوارينَ مع الشمس، لذا، عليّ ألا أقلق من وحدتي الآن في الخارج”.

هكذا.. عند الحدود، لا تتجاوز قيمة السوري سوى رصاصة بين حاجبيهِ أو في قلبهِ، ثمنها لا يتعدّى “ثلاثة دولارات!” – أي أن رأسَ ثوم واحد، يضاهي بثمنه رأس سوري واحد! 

وحيث الشواطئ، لا تتجاوز قيمة الغطاء الذي يوضع على جثةِ الغريق دولاراً واحداً.. وفي المنافي، وعلى الأرصفة في سورية، وبين أكوام القمامة (بحثاً عن الجوع)، وفي أقبية المخابرات والسجون، لم تتخطَ قيمة الضحية ثلاثة دولارات، كيفما استنتجنا أو تم عرض قيمة الأدوات التي قتلوا بها !!

بعد أن تجاوزتُ زاوية الحيّ، وأنا أفكّر بغيابِ العجائز، وأجيبُ نفسي بالإيجاب.. عسى أن خيراً هناك، وليس مكروهاً أصابهنَ، قلتُ مُدمّدماً وأنا أحكُّ باطنَ كفّي بظفرِ سبّابتي” هنّ كأعمدة البناء، لا يتزحزحنَ طيلة النهار، أما حين الغسق، يتوارينَ مع الشمس، لذا، عليّ ألا أقلق من وحدتي الآن في الخارج“.

… وحدتي!! 

أهااا“.. الآن تلقّى قلبي صفعةً أدارت بوصلةَ وجيبه نحو اليمين، حيث الحديقة المغلقة بأشرطةٍ بلاستيكية، درءاً لدخول الناس، وللتجمّعات البشرية.. وتلك الإجراءات جاءت لمنع انتشار “فيروس كورونا” كما يُشاع! 

لم ألقِ بالاً لهذه الحواجز البلاستيكية، فالصمت داخل الحديقة الفارغة يصرخُ بي ” تعالَ .. فلتنهِ خطواتكَ حذوَ الورودِ.. وعقبَ ذلك اذهب حيث رائحة الإسمنت وفخاخ الخائفين من العطاسِ أو السعال والمصافحة.”

رفعتُ الشريطَ البلاستيكي بظاهرِ ساعدي، وانحنيتُ كإحدى العجائز، بعمودٍ فقري مقوّس، ومن ثمّ رفعتُ عنقي ولم أدره كـ”رادار”، إنما نحو الأمام، تماماً باتجاهِ باب الحديقة الآخر، لأخرجَ  منها فقط بنظري.. حينها، لم أرَ أحداً بقلبي! سوى الصمت، وزهورِ الربيع التي تصطفُّ وتتجاورُ إلى بعضها مثل فساتينَ مزركشةٍ بألوانٍ نارية تُعرضُ على واجهات المتاجرِ قُبيل الأعياد! 

  • صوّرتُ هذا المشهد… بهاتفي المحمول؛ الزهورَ، وحتى جُذوعَ الأشجارِ، وسكونَ النهرِ الضحل، الذي لا يشبهُ “بردى“، وأرسلتُ من الصور لأصدقائي، ومنها كانت أيضاً للسنجابة الجميلة “أم عجقة“.. – وهي فتاة جميلة كالفرات، من جنوب سوريا، كانت تغفو بعمقٍ كما قالت لي وقت الظهيرة من فرطِ التعب والنعاس… إلا أنني لم أصدّقها، فأنا أعرفُ أنَ الورودَ لا تكلُّ أمام منحِ ضوعها للمُدَلِّه حتى في رقادها..

لم أقل في نفسي شيئاً وقتها، بل مضيتُ بخطواتٍ رتيبة، بلا صدى، وأنا أحكُّ بظفر سبّابتي الأخرى باطنَ أُذني،   لَعَلِّي أسمعُ صدى أصوات من رحلوا .. ومن غابوا .. ومن غرقوا؛ ومن قتلوا في المعتقلات ضمن مخططِ تخفيضِ نسبة الرجال اللطفاء في الأوطان الكليمة! وأيضاً، كنتُ أسمعُ صدى أصوات بائعي “الثوم” في سورية، وبالأخص (جغرافياً) في مدينة “الكسوة“، عندما كانوا يصحيونَ متجاهرينَ بلا حسدٍ ومنافسة ” كيلو الثوم بعشر ليرات”..آهٍ، كم أحتاجُ من السنين كي أحصيَ عددَ رؤوس السوريين الضحايا مقابل رؤوس الثوم، وقيمتها ؟!

دخلتُ إلى “مول السانكو بارك“، وعند الباب، نهرني موظفٌ يضعُ كمّامةً حول أنفه وفمهِ؛ قال لي بسخطٍ “قفْ جانباً كي أتمكّنَ من تفتيشكَ مع قياس درجةِ حرارتكَ.. و.. و.. إلخ؛” هكذا، نعم، كان عليه فقط أن يقولَ لي عقبَ انتهائه من “فحص” ثلاثةِ أشخاص سوريين أمامه، وليس –ثلاثة دولارات– ” تعال.. تعال؛ فلتنهِ خطواتكَ خارجَ هذا الباب، وعُدْ إلى المجزرة“.

  • لا أعرف، هل تكفي الأشجارُ حول العالم والفؤوس لصنعِ التوابيت؟

الأقمشةُ الرخيصة، وما تنتجهُ “ديدانُ القزّ” هل تليقُ بجثثنا الباردة التي اغتابتها الحروبُ والقذائفُ والمنافي.. وألسنةُ الطغاةِ وسيوفهم.. وشفراتهم الحادّة، وصواريخهم، وطائراتهم… هل!؟

  •  هل هذا يُطاقُ؟!

كمّاماتٌ لإخفاءِ الملامح الصلدة، أو الجرائم المستجدّة والمتربصة.. وكفوف بيضاء وسوداء للمصافحة الخجولة.. ونشرات أخبار بيروقراطية، وعواجل فاسدة.. وتوابيت أنيقة.. وقرارات أممية واضحة مثل مؤخرات قادة الأنظمة العربية.. وصرعى في الشوارع .. وسعال تاريخي، وقبلات بالإيحاء، وتوجّس، وريبة، ودماء ممجوجة على أطلالِ القدسِ .. وحصار.. وحصار.. وحجرٌ في قنِّ المجتمعِ السافرِ.. وهكذا… إنه “كورونا” –  النكرة – وليس قنبلة نووية تبيدُ مئات الألوف!

  • نعم.. العالمُ الآن يلهثُ أمام حذاءِ التاريخ الزائف!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

17 − 5 =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى