ذاكرة مكان

كم الساعة الآن في قلب الفراشة؟!

أخطأتُ بلفظ اسمي مرات عديدة، و أمسكت بأطراف الحروف أستجديها، لما تهربين، صحبة عمر تجمعنا منذ أشرقت مدينة دمشق في عيني، منذ اعتدت اصطحاب الكتب كل مساء بدل أحاديث النسوة في قريتنا، و كتابة أحلامي في قصيدة عبثية بدل الإسرار بها لفتاة ثرثارة من بنات الجيران.

فهناك لا وقت للثرثرة،عليك أن تعرف من أنت و أن تثبت من أنت قبل أن يجتاحك المثقفون بألسنتهم الجارحة و يبوحون بمعارفهم المتنوعة ولغتهم الفصيحة المتقنة.

وسط دمشق حيث ينتصب السيف بجبروته، في ساحة الأمويين، يستحضر تاريخ الدماء التي لم تجف حتى يومنا هذا، مرتفعاً نحو الأعلى ينادي بمزيد من النزيف على مفارق شوارع تتناهى إلى فروقات لا يمكن لم شملها أبداً، تمتد الطرقات لتأخذك نحو مناطق متنوعة تختلف عن بعضها بكل شيء، لكنك مجبر على المرور ضمن هذا الشريان الرئيسي حيث ينتابك الشعور بالانتماء إليه، فتحفظ عدد الأشجار المزروعة على أطرافه عن ظهر قلب.

لم أخطئ يوماً بلفظ اسم تلك الساحة فقد سَجلت في ذاكرتها خطواتنا لآلاف آلاف المرات، أنا وهو، وكثيرون أيضاً غيرنا، أرادوا أن يسابقوا الحلم في مضمار الزمن الغريب و زرع بصمات جديدة تغير ملامح المدينة.

في أحد الليالي الدمشقية مررنا قرب ذلك الجندي النحيل، المصاب بحمى القمع     –كما علموه- مدرب جيداً على الثأر من فراشة ضعيفة تأخذها رفرفتها لتترك قليلاً من اللون فوق جدار السجون المنتصبة وسط الساحة، يتقن افتعال الصمت وعيناه غائرتان في رأسه تخفيان ببراعة الثعلب ما يمكن أن يكتشفه شخص قد يعرف القليل عن علم الفراسة، أو أي من العلوم الحديثة التي تطورت عنه وباتت منصة للتباهي بمعرفة لغة الجسد، فالطاغية الأب كان يدرك بشكل أو بآخر أهمية هذه العلوم لجهاز المخابرات الذي تفنن في صناعته عبر السنوات الطويلة الماضية، فدرب رجالاته الأوائل على ارتداء الأقنعة، القناع المناسب في اللحظة المناسبة.

أثمرت ضحكاتنا جل ثمرها حينما اقتربنا منه –مصادفةً- عن غير قصد، وأردنا كأطفال يرتجلون أفعالهم البديهية، أن نلاعبه، ونسأل عن الوقت، ربما يكون لهذا الحديث العابر قيمة في بلادنا لا يعرفها الجلاد، لم ننتظر الرد فأرجلنا تدرك خطورة المكان دون أن تمتلك عقلاً يستعيد صفاء الذهن ليقرر متى يكون الجري مناسباً أكثر من السير ببطء شديد.

تقول الحكاية أننا نمتلك زوايا أحاديثنا في ذاكرة الكون، تدون في موسيقى تفاصيل أيامنا، ليس علينا أن نكون متطفلين لنستعيد تلك الكلمات أو اللحظات التي مرت دون أن نقف أمامها لنتفحص نقوشها الهندسية الرائعة، والنور المتسلل من جوانبها لندرك أنه ليس زائداً أو مضافاً على حياتنا، بل إنه إيقاع يضبط مرور القمر في جحر القلب، فتهبط ظلال الأمس تنشد شجونها كرنين النحاس في أسواقنا العتيقة.

بدأت كتابة ذاكرة جديدة لسورية بعد عام 2011 و صارت الشوارع والأمكنة تُقاس بعدد الضحايا والمفقودين، وحتى ذاك الجندي النحيل صار جزءاً من الذاكرة المستحدثة.

قبل ذلك الزمن كانت الأماكن هادئة عموماً، الصوت الوحيد الذي قد يرتفع هو بوق سيارة ما، أو ضحكات طلاب المدارس أثناء انصرافهم، وأحياناً خلاف ينشب بين شبان الحارة لأسباب متعددة قد تكون إحداها لعبة الطابة.

وفي الأسواق المزدحمة كانت أصوات البياعين تعلو كل شيء، يحاولون جذب الزبائن بشتى الطرق التي استهلكها الزمن ولكنها ما زالت تنجح غالباً في إقناع الشخص لشراء شيء لم يكن يفكر في شرائه.

تبدلت الأصوات لتصبح عالية إلى حد غير متوقع أبداً، حتى غطت أصوات أبواق السيارات والبائعين والطلاب والشبان.

آلات الموت أكثر جرأة من غيرها على الإجهار بمكنوناتها و في التعبير عن حضورها، أنا هنا، هكذا بكامل ما يمتلك الوضوح من صرامة وحدة، فأتقنوا التعامل معي أو فلترحلوا من هنا وتتركوا لي حرية التصرف.

لكن أدوات الموت لها لغتها المنفردة، فلم تزر مكاناً و بقي على ما هو عليه، في أنحاء دمشق كافة و في المدن السورية الأخرى أيضاً، فقدت الأماكن ملامحها، وفقد الناس ذكرياتهم، وبقيت بضع صور قديمة جافة تفتقد للمشاعر الحميمة التي تبثها الجدران هناك.

إلى أين سنرحل، هذا الرصيف لنا، والشارع لنا، ورائحة العدس المنبعثة من البيوت لتمتزج برائحة المطر لنا، والأشواك التي نثرتها الأرض على أطراف المدن لنا، والأشجار غير المثمرة التي تسور حدائق الطغاة لنا، وامتداد السماء فوق المنازل لنا، والغيم الذي يستجيب لصلاتنا لنا، وأحلام الفقراء المنتظرين أبداً تحت جسر الرئيس،انتظارهم لنا،انتظارنا لهم، أين سنخرج وهل تتسع الحقائب لنحمل كل ذلك معنا؟.

كنتُ في حالة ترقب دائمة ألتقط الأخبار من كل وسيلة تبثها، مثل كل سوري ينتظر سماع خبر يطمئن له القلب، بينما كانت الأخبار في الحقيقة تزداد ألماً يوما بعد يوم. تفجير في ساحة الأمويين، جملة مكونة من عدد قليل من الكلمات، قد تترك وقعاً عادياً على كثيرين،وقد تستفز غضب البعض بسبب حساسية المكان الأمنية،وقد يقلق آخرون على أشخاص تربطهم بهم صلة معينة يعملون في مبنى الإذاعة و التلفزيون الذي يحد الساحة من أحد أطرافها.

سيصبح السيف ساعة يوماً ما، بعقارب تعتليها فراشة ملونة!

أما أنا فقد كان خوفي الوحيد على قلبي، الذي ترك جزءاً من نبضه هناك،على ذاكرة لا تقدر بثمن، وسألتُ نفسي: هل مات ذلك الجندي النحيل؟ الشاهد الأخير على أجمل أيامنا معاً!.

كنت كلما مررتُ من هناك أنظر نحو تلك الزاوية وأشعر أن الجدران تعيد لي رواية تلك اللحظات، بطريقة جديدة في كل مرة، وأتابع السير وحدي، أكتفي بتلك الذكريات التي لا تنضب في قلبي مهما مر عليها من الوقت، ومهما تغير شكل المدينة كانت تلك الساحة كأيقونة لا يمكن المساس بها تحمل صورة ثابتة لا تتغير.

لكن أدوات الموت لها لغتها المنفردة، فلم تزر مكاناً و بقي على ما هو عليه، في أنحاء دمشق كافة و في المدن السورية الأخرى أيضاً، فقدت الأماكن ملامحها، وفقد الناس ذكرياتهم، وبقيت بضع صور قديمة جافة تفتقد للمشاعر الحميمة التي تبثها الجدران هناك.

ولم يعد لنا الحق في التصوير حتى، فقد صار إحدى التهم التي يحاسب عليها القانون، ويعتبر تهديداً “لأمن الوطن” ولا أستغرب ذلك فأماكنهم الأمنية ظهرت فوق الأرض بعد أن كان غالبيتها مختفياً في أماكن غير معروفة تحت المدينة، وازدادت انتشاراً حتى طوقت دمشق من داخلها وخارجها، حتى تمزقت إلى أجزاء يصعب أحياناً العبور بينها.

لا أستطيع التأكد من موت حارس الذاكرة الخاصة بنا، لكنني أعلم جيداً أنه أياً كان الذي مات فهو يعرفنا جيداً، دون أن نعرفه، يحفظ صوت خطواتنا وعدد المرات التي عبرنا فيها ذلك المكان وتردد ضحكاتنا وأسباب خلافاتنا، وصدى نظرة الحب في قلوبنا،إ نه يحفظ كل شيء يتعلق بنا، ليس لأنه مهتم بذكرياتنا الجميلة، بل لأن وظيفته كانت أن يحرس ليل دمشق قرب السيف الأموي القاطع الذي يشتاق لمزيد من الدم و يناجي السماء في كل ليلة لتغمره بفيض منها، كي يغتسل التاريخ مجدداً, وكي تعيد الأساطير كتابة نفسها بعد أن تقرأ سطور الملحمة السورية، وترى وجوه أطفالها الذين شربوا المعاناة مع حليب أمهاتهم.

سيصبح السيف ساعة يوماً ما، بعقارب تعتليها فراشة ملونة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

8 + 2 =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى