ابداع

كلمات القبطان سيلفر الأخيرة..!

 ملاحظة: تداعى هذا النص على أنقاض حوار مع أحد السكارى   ..! 

حسناً ..! لن أقهقه هذه المرة يا جيم، فقد تعتقد أن الذي سأقوله هنا والآن، حيث نطل على بحر إيجة، قد تعتقد أنه ضربٌ من الحكمة المُبَيتة .. إنها ليست الحكمة يا صديقي الصغير بل هي الخيبة والمرارة التي تجرعناها سوية خلال رحلتنا الطويلة تلك. ثم إياك أن تعتقد أنني سكرانٌ كما في الأيام الخوالي  هاههاهاهاها .. ها أنا أضحك، ما أسرع ما أغير رأيي.. أعرفني جيداً فأنا مبتذلٌ وقذر مثل هذا الواقع . 
 صحيح .. على سيرة أنني سكران لماذا كانت الدبلجة العربية تدَّعي دائماً أنني أشرب العصير بدل الخمر كلما غضِبتُ وشتمَتُ هذا العالم من حولي ؟  إنهم يزيفون الطفولة يا صغيري لكأن الخمرة الشريفة تدنس عقول الأطفال، فليخسأ الخاسئون . 
انظر يا صديقي ..  هناك في قلب المحيط لم يمت خمسةَ عشر رجل من أجل صندوق بل ابتلع البحر آلافاً من الباحثين عن برٍ آمنٍ لا تطلع شمسه على الخوف. البحر ينظر إلينا بعيون أولئك الغرقى .. نعم يا صديقي فقد بات للبحر عيونٌ واسعة وآذانٌ تصغي . نحن الآن بعيدون عن البحر مسافة بضعة أمتار .. لا لا  .. لنكن أكثر دقةً .. البحر هو البعيد عنّا فنحن من نسعى إليه دائماً . لن أغني لك “البحر بيضحك ليه” فذلك التداعي الذي يُهَيّجه هذا الموج لا يغريني، كما أنني أدرك جيداً أن البحر لا يضحك لي كما في السابق فما أنا سوى قبطانٍ بقدمٍ خشبية “ولولا مخاطبتي إياك لم ترني”. تَراني أستعير المتنبي في كلامي لكنه أيضاً لا يغريني، مع أن الأمر في حقيقته مرتبطٌ بالنحول الذي وصلنا إليه. أتذكر حبيبتي الآن، وعندما أقول لك حبيبتي يا جيم فأنا أقصد حبيباتي كلهّن، أتذكر كيف كنا ونحن نملأ شوارع مخيم اليرموك تمرداً وسكراً وغناءً ولا يجدي نفعاً الآن أن نتأسف على ذلك الماضي الذي أصبح ركاماً وراءنا، لقد تركونا نطالب بحقِ “حق العودة” وصدقني يا جيم أن كل هذه العودة ليست إلا كومة أحجار ميتة علينا أن نتسلقها ونحن نجرح أقدامنا بها فاترك عنك كل تلك الألفاظ الرنانة التي يرطنُ بها أولئك المعتوهون من الأدباء والشعراء و”خبرني العندليب” فالعندليب لديه عشٌ يعود إليه أما نحن فيمكن لنا أن نكتفي بازدراءِ هذه الأشجار من حولنا والتي تنمو في تربةٍ غير تربتنا .. لذلك تعلَّم هذا الدرس يا جيم، الجُذور هي أسُّ المشكلة ومن لا جذر له سيلعن أشجار الغربة مهما بدت جميلة وهي تزين هذه المساحات التي تطل على البحر. 
أترى تلك السفينة التي تبدو الآن عند خط الأفق الأخير لكأنها ستغرق في الهاوية ؟  إنها تلخيصٌ لدوام غيبوبتنا يا جيم ..أعلم تماماً أنك صغيرٌ على إدراك هذا العمق الذي أرمي إليه لكن صدقني أيها الشقي .. صدقني.. ستدرك يوماً ما أنني كنتُ أرمي إلى أشياء بت أنا نفسي لا أفهمها ولكن عليَّ أن أجتهد في قولها، فجميعنا دخل هذا العماء الذي لا يؤدي إلى الكنز. ها ها ها .. هكذا الحياة ..! خذها كما هي واسكب أمانيك في الكأس ودع رأسك يتعافى من هذه الغصة الدائمة. 

لا تضحكني تلك الهزليات الدولية التي تلهج على دمنا الموزع. اسألني أنا يا صديقي فقد أمضيت عمري في قُمرة المراقبة وأنا ألاحق أولئك القراصنة، هنالك نوع من الرقابة الحلال التي لا تنتمي إلى عالمنا يا جيم فكل ما تراه حولك ليس إلا حراماً يحاول أن يرث الغاز والمعابر والنفط والمقابر والأرض والجذور .. كل الجذور ..

لقد تهشمنا وتهمشنا أيها الصبي…!  هناك من يخبر العالم بأجمعه أن اللاجئين هم متنُ مشكلات العصر. يا لسخرية القدر يا جيم .. إننا هوامشٌ ومتن. أترى الآن..؟ تقاطعت سفينتان عند هاوية البحر حتى لتبدوان بأنهما ستصطدمان عما بعيد، فالأشياء المرصودة في الأفق تموه البصيرة. من الأكثر تجريداً الآن: ذلك التقاطع بين السفينتين;أم هذه الأشجار والحاويات البراقة حولنا .. ؟ حاويات الغربة مساكنٌ جميلة إذا ما قارنتها بتلك البيوت الخائفة التي كنا نتعفن بها، وها نحن الآن نشتاق إلى أنقاضها  كالمساكين.
يمكنني الآن أن أخبرك ب”ما يلي”:  ها ها ها ها  ما هذه “الما يلي” ؟ قسماً أنها أفدح الكلمات…”ما يلي” !
 نحن حتى لا نعلم إلى أين ستمضي بنا حياتنا القادمة. أستطيع الآن أن أسخر من كلمة “حياة” أيضاً، فقهري لا يوازيه قهر وسخريتي لن يوازيها سخرية وأنا سكرانٌ يا جيم سكران، فاعذر تشتت كلماتي النحيلة لكنني أريد أن أنطق أي شيءٍ يبعد عني شبح هذا الغياب. “المايلي” يا صديقي هو العود الأبدي .. عودٌ على بدء ثم عودٌ على بدء ثم عودٌ على بدء إلى آخر الخراء. على كل حال هذا لن يمنعني من أن أصرخ أمام البحر وأسخر من نيتشه .. طزٌ به ..! كنت أكبر المعجبين بشاربيه أو دعني أقل كنت أحب أنه جعل من جميع الفلاسفة سطحيين وسخفاء وبائعي كلام رخيص نعم لقد نال من بارمنيدس وكانط والله أعلم “مين” .. المهم أنه لم يأتِ على سيرة البرقاوي ها ها ها  .. لا تكترث يا جيم فذلك فيلسوف معتدٌ بنفسه ويلغي الآخرين بينما هو تائهٌ في ذاته إلى حد الأنانية. أخبرني أحد القراصنة أنه عندما قرر ذلك الفيلسوف كتابة الشعر قال باستعلاء “من يكون هذا المتنبي؟” يا إلهي يا جيم… كل هذا الهراء في صحن الأرض سكبةً واحدة …؟ من الجيد أنه لم يسأل من هو القبطان سيلفر هاهاهاهاهاه . لكن دعني أقول لك أنهم جلّهم كذلك، فهم يأكلون وينامون على أسِّرةٍ من ريش ويركبون الطائرات حول العالم بسهولةٍ لا يمكن لمثلك ومثلي أن يتصورها.  أنا وأنت يا جيم ليس لنا إلا أن نحسد بعضنا لأننا متمردون على كل هذا الاستمناء الذي يسكن الكرة الأرضية التي لا تريد أن تسجل أي هدفٍ لصالحنا أو أن تقذفنا كالمنيِّ بحبٍ ودون اغتصاب إلى الجهة الأخرى من البحر. 
دعنا نبيح للعالم أن يَبُح بما لا يخجل أن يبوحَ به أو أن ينبحَ علينا كلما شاء أن ينبح فهذا العالم كلب..! وكل هذا البحر لا يؤدي إلى جزيرةٍ في اليونان لأنه لا يرانا إلا كائنات يابسة على شفير حاوية ولم أقصد هاوية .. فالهاوية شفيعٌ لنا وغير لائقة باستقبالنا يا جيم، وأنا أعتقد جازماً … هاهاهاهاه أعتقد جازماً؟ .. آه يا جيم هل هنالك متسع لأن نعتقد جازمين بأي شيء أي شيء؟. إنني أضحك على نفسي الآن فليس هنالك من هو جديرٌ بأن أضحك عليه، لم أصل إلى هذه الرفاهية بعد. لا تضحكني تلك الهزليات الدولية التي تلهج على دمنا الموزع. اسألني أنا يا صديقي فقد أمضيت عمري في قُمرة المراقبة وأنا ألاحق أولئك القراصنة، هنالك نوع من الرقابة الحلال التي لا تنتمي إلى عالمنا يا جيم فكل ما تراه حولك ليس إلا حراماً يحاول أن يرث الغاز والمعابر والنفط والمقابر والأرض والجذور .. كل الجذور .. إنهم يرثون حتى فقرنا، الا لعنة آمون على الفقراء .. الفقراء يُشتَمون يا جيم، يجب أن يشتموا كما يقول محمد الماغوط، فأن نمدح الفقراء هو أن نمدح الفشل الذي يعشش في ضراط أدمغتنا. أن نمدح الفقراء فهذا يعني أن نمدح مجازرنا ولجوؤنا وخوفنا وعبوديتنا ولكن دعك من ذلك يا جيم فهذا” كل ما تبقى منا” حتى لو أردنا الآن أن ننبش قبر غسان كنفاني بمحراث أصابعنا ونقول له ماذا تبقى منك أنت قبل أن تطلق في وجهنا تلك العبارة “ما تبقى لكم”؟. لربما بقي نزيفه فقط، فما زال ينزف حتى الآن .. هل ترى ذلك الشفق الأحمر عند آخر البحر يا جيم..؟ إنها دماء شخوصه يا صغيري. 

طز بتدمر طز بصيدنايا طز بما تبقى من دهاليز الأفرع الامنية .. مر نورسٌ الآن هل تلاحظ كم هو كبير يا صغيري؟.  لكم أكره النوارس التي تغزو قصائد الشعراء، أكره البحر في الشعر وأكره جميع الطيور والأسماك وكلاب البحر وأسودها أكره كل مشتقات الهواء الغير خارجي لأنني اعتدت على هواء السجن يا صديقي. هل يعقل أن تكون الطيور هي البرزخ؟ أقصد وكما تعلم يا صغيري أننا قطعنا كل تلك البحار وهي تغطي المساحات الشاسعة من هذه الكرة الملعونة المغطاة بالسماء لكننا على اليابسة الآن في هذا الجزء الصغير والحقير من الكون، وهم يرمزون إلى الحرية بالطيور فهل هي البرزخ؟ ثم هل تعلم أنه حتى الديناصورات كان لديها أنواعاً متعددة من الطيور التي انقرضت؟. راقب جيداً هذه المفارقة بين أرضنا والجنة الموعودة باللبن والخمر والعاهرات الجميلات الحور العين .. وانا لا أقصد أننا هنا نراقب البرزخ يحلقُ فوقنا أو أن الجنة تسكن هناك وراء البحر، لا لا لم أقصد ذلك تماماً .. إلا أن المقاربات تأتي لوحدها فكل شيءٍ يعشش في وحدة التناقض الأبدي.  

أنا نعسانٌ يا جيم .. نعساااان .. مع أنني أدرك أن النوم موهبة ليست متوفرة لدي، لكن دعك الآن من هذياني الذي لا ينتهي فاللغة العربية قديمةٌ جداً ونحن يتامى يا صغيري .. يتامى .. فادعوا لنا بدوام الغيبة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

17 − ثلاثة عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى