ذاكرة مكان

ليلة من ألف قتيل وقتيلة

تقع حانة “إيجل” قرب مختبر “كافندش” في كامبردج، إليها طار “فرانسس كريك”، أحد مكتشفَي بنية جزيء ال DNAليعلن أمام زملائه بانتصار: “لقد اكتشفنا سر الحياة: إنها كيمياء!” هذا ما رواه شريكه في الاكتشاف “جيمس واطسن”. كريك نفسه لما روى القصة استعان برواية واطسن، فهو لا يذكر شيئا من هذا القبيل! لكن ذلك صار اقتباسا دخل التاريخ: “الحياة كيمياء”، ولا بأس بقليل من الدراما الأمريكية.

وإلى كونها كيمياء، فكثيرا ما تشبه الحياة كابوسا ألّفه “فرانتس كافكا” وهو في أسوأ حالاته: صباح رمادي تنعق فيه الغربان، مناخ مقيت لا ينتمي لواحد من الفصول المعروفة، مخبرون في كل زاوية وناصية، قرفٌ تكثّفَ حتى صار قرميدا، وكل ما يحدث يكون خارج أفق التوقع. وتكتمل سطوة السادية باختلال في النواقل العصبية كفيل بجعل “جريجور سامسا” مثلا يكتشف أنه صرصور. وفي ذروة الأحداث، سواء كان اسم القصة “المحاكمة” أو “الجُحر” أو “في مستعمرة العقوبات”، تأتي النهاية شئزة: كأن المؤلف سئم الكتابة فجأة فألقى قلمه، أو مات على حين غفلة من القارئ، تاركا إياه محدقا في الفراغ، متأكدا من شيء واحد فقط: لا شيء له معنى.

والسارين كيمياء هو الآخر. وهو ــ لمن يرغب بشرائه ــ سائل عديم اللون والرائحة، طيّار، يتبخر بأسرع مما يمكن لقوّاد أن يصبح زعيما سياسيا.

هكذا يمكن أن تستيقظ صباحا، لتجد المعدودَ ــ كان ــ جهازَك التنفسي مفعما بالسارين.

 ثم… هدوء.

والسارين كيمياء هو الآخر. وهو ــ لمن يرغب بشرائه ــ سائل عديم اللون والرائحة، طيّار، يتبخر بأسرع مما يمكن لقوّاد أن يصبح زعيما سياسيا. فور أن تستنشقه، ستدمع عيناك، وتتقبض حدقتاك، ويعتريك غثيان يجعلك راغبا بتقيؤ حياتك المدهشة، ثم ستبول في ثيابك، وتتغوط فيها، فجسمك بدأ يفقد السيطرة على وظائفه. تتشنج قصباتك الهوائية: إنه الاختناق، بل هو أوّله. تختلج عضلاتك كما لو أنك مصاب بالصرع، ستركل، تضرب، ريثما يتأكد لك أن عضلات التنفس ما عادت تطاوعك. وإن كنت محظوظا، لن تطول القصة بأكملها أكثر من عشر دقائق.

“ولي في غوطتيك هوى قديم…” كانت مجزرة الغوطتين بعد عام ويوم بالضبط من تصريح أوباما الشهير عن الخط الأحمر: 

“يمكنك حشر آلاف المعتقلين وتركهم فريسة تعذيب يمارسه مختلون تسميهم أجهزتك الأمنية، حتى يهلكوا عن آخرهم. يمكنك حصار ما شئت من مناطق ليفنى ساكنوها تجويعا. يمكنك دك المدن بالصواريخ والبراميل وقذائف المدفعية والدبابات. يمكنك أن تقتل كل يوم مئة، مئتين، ألفا، عشرة آلاف، لكن لا تقتل واحدا بسلاح كيميائي. عند ذاك، وعند ذاك فقط، قد تجبرني على إعادة التفكير وتغيير حساباتي”.

يبدو أن الأمر يتعلق بكون السلاح كيميائيا أو نوويا أو بيولوجيا، لا بكونه دمارا شاملا. إذن ما يجعل شيئا ما دمارا شاملا هو السلاح المتسبب وليس الكارثة التي نتجت؟ أحسنت! ثابر إلى الأمام!

كان صيفا، كان آب

كان العام الثالث عشر بعد ألفين من ميلاد ابن مريم

كانت الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل

ماذا يفعل الناس عادة في هذا الوقت؟

ما عدت أذكر، فالزمن عندي مختل منذ زمن بعيد. كانوا في الغالب نياما، أو على وشك نوم. لكنهم حتما لم يكونوا يتوقعون سقوط عشرين صاروخا محملة بالسارين.

قبل ذلك، سبق أن وُجهت للنظام اتهامات باستخدام السلاح الكيميائي في أربع مناسبات على الأقل (مناسبة كما في: “مجزرة”، لا كما في: “حفل”). مرة رد رأس النظام بأن هذه الاتهامات تقف ضد أبسط مبادئ المنطق، فليس لدى سوريا أسلحة كيميائية: “ها ها ها ليس لدينا لنستخدمها!” وهذا منطق حصيف يعجز عنه أرسطوطاليس. ومرة تراجع قليلا وقال إن لديه سلاحا كيميائيا، لكنه سيُستخدم فقط ضد العدوان الخارجي. بعد مجزرة الغوطة هرع النظام لتلبية “عرض” أمريكي بني على “مقترح” روسي يتخلص بموجبه من كل شقفة من أسلحته الكيميائية، وبذلك يضمن بقاءه ويَفرُغ للإجهاز على شعبه، وأعلن نيته الانضمام إلى اتفاقية حظر هذه الأسلحة التي يرفض التوقيع عليها منذ عام 1997.

كنت أود أن أنشد مادحا الأمريكيين:

أتاني نصرهمْ وهُمُ بعيد … بلادهمُ بلادُ الخيزران

لكن أيُّ عربي ذاك الذي يثق بقصب لا ينبت في بلاد العرب؟

ثم انهمر الإعلام المقاوم يتحدث عن كون المسألة مفبركة، واستغرب كثيرون قوله هذا وكأن الأمر مقتصر على الهجوم الكيميائي، وجودنا كله فبركة: ثورتنا مفبركة، موتنا مفبرك، آلامنا مفبركة، حلمنا مفبرك، تنهداتنا حين نبلغ الرعشة مفبركة، والواقع الوحيد هو الجحيم

كنت أود أن أصبح خائنا، أن أرش الجنود الفاتحين بالرز والورود. كان عندك رز حينها؟ لا! لكن كانت عندي قصيدة كتبها أبو تمام في المعتصم. هل أفهم منك أن أوباما لم يعد تفكيره ويغير حساباته؟ هذا رهن بتعريفك لإعادة التفكير وتغيير الحسابات، ثم كثيرا ما يلتبس الأمر بين الخط الأحمر والضوء الأخضر حتى لو لم تكن مصابا بعمى ألوان.

كان صيفا، كان آب

كان الإنكار الثالث قبل صياح الديك

” أتنكرني دمشق وكان عهدي … بها ألا تُلوّح بالسراب؟”

ثم انهمر الإعلام المقاوم يتحدث عن كون المسألة مفبركة، واستغرب كثيرون قوله هذا وكأن الأمر مقتصر على الهجوم الكيميائي، وجودنا كله فبركة: ثورتنا مفبركة، موتنا مفبرك، آلامنا مفبركة، حلمنا مفبرك، تنهداتنا حين نبلغ الرعشة مفبركة، والواقع الوحيد هو الجحيم. ثم ما هذه المفردة؟ أليس في معجماتنا ما يغنينا عن تعريب لفظ أجنبي نحن اخترعنا واقعه؟

لمن كنتم تجمعون هذه الأسلحة؟ يسألني إبليس. للعدو طبعا. لكن كيف أقولها؟ نعم! أسلحتنا “تحيض بأيدي القوم وهي ذكور”. أليست هذه نظرة ذكورية؟ لا! فلا أزال أرى أن لدى النساء من الصوارم والقنا ما هو أفتك من كل أسلحة الدمار الشامل، وأسلحتهن هذه بيولوجية بالمناسبة. 

هل فكرتَ يوما في دراسة الكيمياء ؟ 

يحوز المرء لقب كيميائي أو كيماوي في ظروف متعددة. يمكنك أن تخترع أول بطارية ليثيوم آمنة فتحوز نوبل في الكيمياء لعام 2019؛ أو أن تكون “حاييم وايزمن” يكتشف تفاعلا مهمّاً يسهم في المجهود الحربي لبريطانيا في الحرب العالمية الأولى، فترد بريطانيا الجميل لشعبك؛ أو أن تكون علي حسن المجيد “علي الكيماوي”، فتبيد الآلاف من أبناء شعبك في حلبجة؛ أو أن تكون زوجة مستبد رومانيا “نيكولاي تشاوشيسكو”، فتحصل على عضوية الأكاديمية البريطانية  للعلوم وأنت لا تعرف صيغة جزيء الماء.

– أهذا ممكن؟ تقول له

– بل هو ما حصل. يجيبها

– يبدو أمرا غير منطقي.

– أتعرفين ما أفدح مغالطة منطقية في تاريخ الفلسفة؟

– أخبرْني!

– هي أننا لسنا الآن في غرفة نومنا. 

كانت الحكاية تسكن أعلى الشجرة، وكنتُ أقصر مني الآن، والشجرة طويلة حتى انقطاع النظر:

– لماذا تريد الوصول إليها؟

– لأقصها عليك.

– لا داعي لذلك، اخترع واحدة.

– وماذا أسميها؟

– وهل العنوان ضروري فيها؟

– مثلما أنتِ ماء.

– طيب، فليكن: الإبحار في الهواء.

– وتريدينها صيفية أم شتائية؟

– بل محشوة بالتمر مثل كعك العيد.

– والقوام؟

– مُهلبيّة.

– ولمن دور البطولة؟

– لي وأنا أستمع لكَ بكل ما أوتيت من طفولة.

– وأين تقع أحداثها؟

– في الثلاجة.

– وأنا أقود بكِ الدراجة؟

– لا! فأنا أشعر بدوار البحر.

– سأعالجه بقليل من الزنجبيل والسحر.

– ولا تنس أن التدخين ممنوع.

– وماذا لو أني شعرت بالجوع؟

– سأتسلق الشجرة، وأقطف لكَ منها أكبر بقرة.

– وتنزلين بسرعة؟

– كما لو أنني انزلقت بقشرة موز.

– وأكمل لكِ القصة خالية من الأنين.

– ثم نضحك قبل أن يخطفنا هذا السارين.

أيّاً ما كانت مصداقية القصة التي رواها لنا واطسن، فقد كان محقا في شيء واحد على الأقل: الحياة كيمياء. لكنْ فاتَهُ أن الموت في سوريا الأسد هو أيضا كيمياء. وقليل من الدراما الأمريكية لا يضر.

اللوحة من تصميم: المأمون محمد 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

1 × ثلاثة =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى