تانغو في العالم السفلي
قرأت عن سجن “تزممارت” سيئ الصيت لأول مرة في كتاب “حدائق الملك” لفاطمة أوفقير، زوجةِ جنرالِ الحسن الثاني. كنت حينها سجينا في مخيم اليرموك، أعاني الأرق والجنون وآلاما مبرحة في ركبتي اليسرى، وشعرت بحاجة ماسة لمن يتضامن معي، وإن كان زوجةَ ذلك الجنرال اللعين، وأبناءه. في وقت لاحق، وثقتْ بعض التقارير معلومات مرعبة عن سجن صيدنايا، المكافئ السوري لتزممارت “المملكة الشريفية”. جميل أن يكون تزممارت واحدا من حدائق الملك، مثلما هو جميل أن تعني صيدنايا في الآرامية “سيدتنا Notre Dame” أو ربما “صيد الغزالة”. حتى الاستبداد يتطلب لمسة فنية، ومسحة من الشاعرية. ثم إن السجن واحد، سواء كان “مُطبق” أبي جعفر المنصور أو “طُرَّة” حاكم الفسطاط وأرض الكنانة، أو “أبو غريب” الأمريكيين في بلاد الرافدين. ففيها جميعا تضيع الحدود بين جسدك والألم، بين الظلمة وعينيك، بين كرامتك وشرج السجان. ما يميز واحدا عن آخر إذن إنما هو تاريخه الجمالي الكامن في بعض الرتوش المهمة.
ولأن “الأخلاق” و”حقوق الإنسان” الأمريكية تمنع مثلا استخدام كثير من وسائل التعذيب مع المعتقلين، فقد كان الحل الذي تفتقت عنه البرجماتية الأمريكية هو إرسال هؤلاء “الإرهابيين” إلى سوريا أو مصر أو المغرب: “الكيانات” الثلاثة التي تتصدر قائمة منظمة العفو الدولية لأفظع الدول التي تتعامل مع السجين السياسي. وهناك، في أقبية تلك الكيانات، يعترف السجين بما فعله وما لم يفعله، ثم يموت.
– مريضة؟
– لا! لم خطر ذلك ببالك؟
– حلمتُ بأني أجريت لك عملية جراحية.
– وما كانت العملية؟
– استأصلتُ خصيتيكِ.
– تبت يداك!
– كان الحادث عنيفا، وكان علي الاختيار بينهما وبين حياتك.
– أتحبني إلى هذا الحد؟
– كنتُ موجودا في المشفى في الوقت الغلط.
– لم أكن أعلم أنك تؤمن بوجود الزمان.
– ولا أنا، لكن هذا ما حدث.
– وأحلامكَ تصدق دائما؟
– فقط حين أريد.
– تريدني مريضة؟
– أريدكِ أن تسقطي الدعوى القضائية التي رفعتِها علي.
– لكنني أريد أطفالا!
– هناك طرق أفضل لإضاعة الوقت.
– مثل ماذا؟
– وما أدراني؟ تزلجي على الجليد مثلا، اركبي الأمواج، علّقي صور زعمائنا في غرفتك البائسة، أو استأصلي الأوراق الصفراء من باقات نعناعك.
– وهل سأنجح دون خصيتين؟
– للأمانة، لم أجرب ذلك من قبل. كان لي دوما خصيتان ولم أنجح في شيء.
– وماذا أفعل الآن؟
– ربما يفيدكِ رَجل دينٍ أكثر مني.
– لم أكن أعلم أنك تؤمن بوجود رجال الدين.
– ولا أنا، لكني شاهدت بعض الفيديوهات أمس، ورأيتهم فيها.
– وكانوا حقيقيين؟
– مثلما أنك تحبين تناول البيض المقلي على الفطور.
– وكيف بدوا؟
– متوردي الوجوه، شامخين كالبطيخ، أكثر خصوبة من السمك، وأشد إيلاما من خثرة باسورية.
– وما كانوا يفعلون؟
– يتزلجون على الدماء، يركبون الأمواج والصبايا، يعلقون المشانق لأيام خضراء، ويستأصلون قضيبي.
– لم أكن أعلم أنك تملك واحدا.
– ولا أنا، أمس بالضبط اكتشفت وجوده.
وكان مما اكتشفت وجوده أيضا أنه يمكن أن يطلق سراح “الإرهابيين” حتى لو كانوا أسرى الغزالة في صيدنايا الحبيبة. جل قادة النصرة وداعش الذين كانوا في مخيم اليرموك تخرجوا في تلك المدرسة العظيمة، وغادروها، أي أجبروا على الخروج منها، مع هبوب ريح الثورة السورية. ظلوا يتذكرون سنوات سَجنهم بمزيج من الفخر والمباهاة. كان “أبو علي الميداني” يعاني مشكلة مزمنة في جهازه البولي. حين كنت أدخل في إحليله قثطارا بوليا، تذكّرَ أنه طلب من سجانه مرة الدخول إلى المرحاض. “بدك تشخ؟”، وكان سجانه مفعما بإنسانية أجهزة الأمن، أدْخَلَه مرحاضا صغيرا، وأبقاه هناك ثلاثة أشهر. يضحك أبو علي. لسبب ما، فور وصولي الشمال السوري بعد تهجيرنا الأخضر، انكببتُ على كتاب “السلطة السوداء: الدولة الإسلامية واستراتيجيو الإرهاب”. الكتاب/المرجع الذي أنجزه الصحفي الألماني كريستوف رويتر عام 2015، وتُرجم إلى العربية في العام التالي، وثيقة تاريخية مهمة بحق، وتضيء كثيرا من الزوايا المعتمة. في الصفحة الخامسة والسبعين منه قرأت: “في عام 2011، في سوريا، أحيلت 900 قضية من محاكم ميدانية إلى محاكم عادية. وكان أن تم تبرئة هؤلاء المعتقلين على أساس أن محاكم الأمن لجأت إلى التعذيب وبذا تعد التهم باطلة، أو أن مدة الحكم المتوقعة قد قُضيت أثناء فترة التوقيف، أو أعيد النظر ببساطة بالأحكام الصادرة مسبقا بأثر رجعي. وكان من أبرز من أطلق سراحهم آنذاك: أبو خالد السوري، الذي كان مع ابن لادن في أفغانستان”. وبالرغم من أن الكتاب مُفعم بالمراجع والمصادر، ما احتجت الاطلاع على ثَبْتها. كل ما ذكره علمناه علم اليقين وحقه وعينه. وكانت هذه شهادة على نزاهة القضاء واستقلاله في قلب العروبة النابض، وإن قضى بعد ذلك آلافٌ ممن حملوا الورود، وزأروا بالشعارات، وتغنوا بالحرية.
– وماذا كان سبب وفاتهم؟
– توقف القلب والتنفس.
سأجرب الكتابة عن الحب كما لو كان كل شيء خارج زنزانتي يسير على أفضل وجه. صنعتُ من كلماتي سريرا لك وتركتك تستلقين فيه. لا ضوء في الغرفة سوى حمرة خفيفة تنساب من مصابيح صغيرة لتغمرك مثل مُلاءة. وضعتُ بعض موسيقا الجاز. ولأني كنت غير مرئي لك، فقد كانت مقطوعة invisible ل Courtney Pine بداية مناسبة. كان صوتي يأتي إليك كما لو كان يتشكل من الظلام. وحين يلامس بشرتك يصير جواري بارعاتٍ في إعداد جسدك وتهيئته لمولاك. وكان جسدك يريد قصة تشعل النار فيه، فالبرد بشع في كل حال. ومن بين كل الأشياء الجميلة التي أحاطت بي ساعتها، كان أجملها أنك لا تخافين جنوني، ولا تخافين علي من مصيري: “ستموت في نهاية المطاف! ولو أني أرجّح أن واحداً بمثل تألّهك لن ينتظر الموت”. تعرفين؟ مثل هذا الكلام يروق لحصاني كثيرا. وكان على صاحب الحصان أن يطرد من رأسه ذكريات وكوابيس ووساوس والكثير من الذباب. الذباب هنا عابر للفصول، مثلما هو الإحباط غريزة، وتعثّر الأمور أسلوب حياة.
– ساعديني!
– ألم تأخذ دواءك اليوم؟
– لم آخذ شيئا.
– لم يا طبيبي؟ سأخلع ثيابي من أجلك.
كنت تفعلينها كما لو أنك مفردة تتجرّد من حسيّتها. شيء كفيل بجعل شاعر من طينة النابغة الذبياني يستمني في قبره مرتين: مرة لتعرّيك، ومرة لبراعة التشبيه. لكن حصاني لا يزال نائما، نائما بعمق كما لو أن كل شيء خارج إسطبله يسير على أفضل وجه.