ثياب لمناخ معتدل

المكتبة الخضراء حكايات سوريّة من زمن جميل

• بلوغ متأخر

لا تشبه حكايات الأطفال شيئا من عالم الواقع، “عالم الكون والفساد” وفق اصطلاح الفلاسفة. كأن من اجترحها ــ جمعاً أو تأليفا ــ كائن أثيري لا يحتكّ بغير الأجرام السماوية، أو مجرمُ حرب يسعى لتبييض تاريخه. بدأت أدرك ذلك إدراكا خفيا عندما كنت في عشرينياتي، ثم انجلت لي الحقيقة كاملة باستخدامي تقنية ال VAR:

أمُّ ليلى ذاتِ الرداء الأحمر هي من كانت ترسلها للذئب، وكان الذئب وزيرا للأوقاف يعظ الخراف بالصبر. عقلة الإصبع طرحه رحم والدته مصابا بعُسر تصنُّع غضروفيّ، واستغل ذووه تشوهه الخِلقي هذا في التسول عليه. الحسناء هي الوحش ذاته بعد أن أدمنَت المساحيق وعمليات التجميل من شد ونفخ وحُقن بوتوكس، قيل: كانت تفعل ذلك لتغوي رب عملها طمعا بترقية. بائعة الكبريت ابنة عنصر أمني، كانت تزود أباها كل عشية بكل ما حصدته عيناها البنيتان، وحين كبرت صارت وزيرة للثقافة ووضعتْ عدسات لاصقة. سندريلا تخدم في المنازل بعد عودتها من التدريس في ابتدائية حكومية، تُحسِّن دخلها. الجميلة النائمة كانت في غيبوبة، وكان ممرض العناية المشددة يغتصبها كلما أتت مناوبته. أما رابونزل فمصابة بهوس نتف الشعر: ترسل خُصلة ذهبية منه كل شهر لعقيد في فرع فلسطين كي يرأف بأميرها المعتقل، وتلتهم الباقي.

بعد التضليل الأولي الذي يتحفك به أبواك ومسلسلات الكرتون، تأتي أجهزة السلطة لتُجهز على ما تبقى من وعيك. كذا يكبر الواحد فينا وكل فلسفته الوجودية تقتصر على انتظار اليوم الذي يغدو فيه شاباً وسيماً تجري وراءه الأميرات يطاردنه من غابة إلى غابة: أميرة موناكو مثلا، ثريّة خليجية، ابنة رئيس، مديرة مشفى. إلى أن يذهب الضُر بجماله، ويكتشف أن هموماً وكوابيسَ وذكرياتٍ وموتى وأوراقَ بحثٍ أمنيٍّ تقوم بمهمة المطاردة الحثيثة. ذئاب جائعات، وأنت أرنب مربوط بكُرة بولِنج.

• حفلة التيس

استيقظ أبونا كعادته قبل الجميع، وشرب قهوته. آخر مرة رأيناه فيها كانت حين دفنّاه منذ أمد بعيد فأصبحتُ يومها رجلا. لكنه يبدو هذا الصباح موفور الصحة والفتوة. أيقظنا بصوته المفزع عالي الطبقة. أين تختفي أمّنا حين نكون بحاجتها؟ في الاجتماع تلا علينا أسماء قاتليه. أخرجناهم من بيننا وأشعلنا فيهم النار. كانوا مرة أبطالنا، لكننا انتشينا ونحن نسمع صراخهم ونشم رائحة الشواء. بعدها قام بإخصائنا، ورمى مصانعنا لكلابه. قال: إن البيت مليء بالقذارة. بدأنا التنظيف. مزقنا الكتب، ذبحنا العصافير، وسحلنا شجرات النخيل. كنا نعقد كل يوم محاكمات للخونة، للمتخاذلين، للمثبطين. ازداد تسلط أبينا وبطشه يوما بعد يوم. أين تختفي أمنا حين نكون بحاجتها؟ جو البيت كئيب، هواؤه مسموم، ماؤه آسن. الملانخوليا، الانتحار، الكوليرا، الإعدامات الميدانية، جميعها حصدت إخوتي واحدا بعد آخر. كنا نهرم بسرعة. يزداد تقوس ظهورنا. تقل رغبتنا في كل شيء. فجوُّ البيت كئيب، هواؤه مسموم، ماؤه آسن. كان أبونا يزداد اتساعا في كل آن، وكنا ننكمش، نتضاءل، كثير منا اختفى في الهواء، كثير منا مات بسبب خيانة بعض إخوته، وتخاذلهم.

ظل البيت يحتفظ بصراخ أبطالنا، برائحة أجسادهم المشوية. أمس مثلا كانا شديدين بحيث منعاني من النوم. بقيتُ محدقا في الفراغ المعتم الكثيف مثل مقبرة. الضوء الوحيد كان وأنا أفكر باليوم الذي سنقتل فيه أبانا من جديد، متسائلا: أين تذهب أمنا حين نحتاجها؟

• ثورة زرقاء

المكان: منزل بحري لتعاطي الكوكائين والمُسكرات.

الزمان: قبيل مغيب الشمس.

الحدث: تعودين من الشاطئ لتفقُّد سمرة ظهرك، ترتدين كلسونا أزرق كأكسيد النحاس (كذا جاءني التشبيه في الحلم). لم أكن أتأمل مؤخرتك مباشرة، كنتُ ــ مثلك ــ أرى انعكاسها في المرآة، أو أرى انعكاس المرآة فيها. كانت مثالية (على الأقل، وفق مفهومنا البشري ــ القاصر بالضرورة ــ عن الكمال)، ومثيرة، وثائرة. فقد كانت مضربة عن الطعام. هي لا تزال تحافظ على اكتنازها الرشيق المشدود، لكننا في اليوم الأول فحسب. لم أسألها عن سبب إضرابها، فأنا أثق بإنسانيتها وانشغالها بقضايا المظلومين في كوكبنا الأزرق كلون كلسونها. اكتفيتُ بتأمل جمالها البارع البديع، وإبداء إعجابي بفكرتها الجريئة في الترويج لقضية عادلة، والتحسر على اكتنازها الرشيق المشدود الذي ستفقده عما قريب.

• منزل الأشياء المُريدة

الكل سمع عن المنزل الذي يعج بحالاتٍ ذهنيةٍ دبّت في جماداته: صحون تتضور جوعا، مصابيح تعاني رهاب العتمة، سُرُر تشكو الأرق، جهاز إنذار خائف، ميزان حرارة ليس في مزاج لقراءة الطقس، ساعة أسأمها الانتظار، حبوب “بروزاك” دائمة الاكتئاب، وجدران تريد أن تنقضّ. ولم يكن غريبا إزاء هذا الرعب أن هجره معظم ساكنيه، فيما حاول من بقي مقاومة الجنون بجرعات زائدة من الكافئين والجدل، ثم قرروا وضع أدمغتهم في مرطبانات من الآزوت السائل. لكن ما لا يعرفه كثيرون، أن عجوزاً من الغابرين تذكرت فجأة قراءتها في كتاب ما نبوءة مشابهة، فعمّتْ حملات للبحث عنه.

قيل: إن جنون السكان، وقد خلصت إليه مقاليد الأمور، خَيَّل عليهم وجود العجوز. وقيل: بل هي موجودة، لكن جنونها خَيّل عليها وجود الكتاب. وقيل: بل هو موجود، لكن جنونه خيّل عليه احتواءه عِلمَ ما كان، وما سيكون. مصدر مسؤول أكد لي أن ألسنة نارٍ استعر فيها هوس إشعال الحرائق؛ قد عثرتْ  على الكتاب قبل الجميع، والتهمتْ صفحاته.

• سماء اليرموك 2014

أطلقها أطفال يتجاوز معظمهم الثلاثين من عمره.

طائرة ورقية بلا طيار.

ليست لاكتشاف أن البرق شرارة كهربائية: فقد حفظوا جيدا درس بنجامِن فرانكلن.

ليست تكنولوجيا بدائيةً للتسلل خلف خطوط العدو: فهو قارئ جيد للتاريخ.

ليس بها مجسات لدراسة المناخ العربي: فهو “الجمل” منذ أربعمئة وألف عام.

لم يسطّر عليها متصوف دعاءه: يعلم أن الله أقرب إليه منه، ولكن لا يبصرون.

لم يحمّلها عاشق رسالة حب لعشيقةٍ خلف الحدود: ليس في فؤاده هامش للغزل.

طائرة ورقية بلا طيار، وردية اللون، زهيدة الآي آر. إن أصابها صاروخ موجَّه حراريا، فبمحض صدفة مرتبطة بخط الزمن العالمي. وإن طاردها سِرب من السنونوات المقاتلة، فلأنها تجاوزت الأجواء الدولية المسموح بها لمملكة البؤس.

وما طائرة ورقية؟ ما وزنها في المصارعة الحرة؟ ما سرعتها في سباقات الفورمولا ون؟ ما رشاقتها في عروض الأزياء؟ ما عُريها في أفلام برتولوتشي؟ مجرد ورق وخيطان، كما غنت فيروز.

أعجز من أن تخترق الأفق الأفقي الذي يحده سور الصين العظيم، أو حائط برلين، أو جدار الفصل العنصري، أو حاجز “البشير”. لكنها اكتشفت أفقا عموديا لا يحدُّه حد، فوجهتْ أبصارَنا وراءها نحو أعلىً يعلو ويعلو، نحو فوقٍ، من فوقه فوقٌ، من فوقه براح.

.

حواش:

حفلة التيس: عنوان رواية ماريو بارجاس يوسا عن محاولة اغتيال طاغية جمهورية الدومينيكان “رافاييل تروخيو”.

سماء اليرموك 2014: حين صنع تلك الطائرة ثلة من أصدقائي في المخيم، كانت كل رسالتهم أن يقولوا: نحن هنا!

حاجز البشير: هو الحاجز الشهير إياه في مدخل مخيم اليرموك، عند مسجد البشير.

اللوحة للفنان المجري Laszlo Bornemisza

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

20 − 1 =

زر الذهاب إلى الأعلى