وصفة جالينوس

في الجُبة حبة، والحبة تكتمن حديقة. في الحديقة قبة، تحتها ناسك يتعبد الصنوبر. الصنوبر طويل حتى انقطاع النظر، وهو ذكر وأنثى، وأكوازه غنية بالكلمات. أقطف كوزا، فأعثر فيه على الجذر: نَ هـَ رَ. في النهر تسبح عوالق من عائلة “شمشون”، ذلك الكائن أحادي العين في مسلسل “سبونج بوب”. وهي لا تسبح باحثة عن الوصفة السرية لإعداد “سلطع برجر”، بل عن بحث طبي تركه لنا جالينوس: دواء فيه الشفاء من كل داء. حتى كورونا؟ كورونا هذا فيروس مبتدئ، أو مستجد كما يسمونه، أنّى له التغلب على علاج عرفناه منذ ثمانية عشر قرنا؟ أما سبب وقوفنا عاجزين أمامه حتى الآن، فلأننا مبتدئون أكثر منه. يتصل بي مدير المركز الصحي الذي سأعمل فيه يزف لي بشرى. سيكون لدينا تأمين على الحياة، أحصل بموجبه على ألفي دولار إن مُتُ بسبب كورونا. وأكد لي أن الدكتور عبد المنعم رحمه الله سيحصل عليه بأثر رجعي. من قال بأن وجودنا مقتصر على اللعنات؟ حتى إني فكرت بأن أصاب منذ اليوم الأول، وحين تتدهور حالتي سأتلقى العلاج في تركيا كما فهمت. ستدخل القسطنطينية أخيرا؟ وأيّ دخول! ولا محمد الفاتح في أيام عزه. وأنا الذي كنت أظن نفسي خائبا حين يتعلق الأمر بالمال، هذا استثمار مضمون الربح ورأس ماله صفر.
لكن بعيدا عن التهكم، من ذا الذي كان يحلم بأن يكون لموته ثمن؟
وها أنت أخيرا تجد من يرى موتك خسارة فادحة تستحق تعويضا وإن كان رمزيا. وهذه قفزة تطورية هائلة لم يَهذِ بها العزيز “دارْوِن” نفسه. وقد كان أكثرنا يتوقع الموت في كل تسع دقائق مرة أو مرتين، وربما أزْيد.
مرت سنوات كان فيها أقصى طموح من يموت فينا أن يجد مقبرة تقبل أن يدفن فيها، أن تُنتشل جثته من تحت الأنقاض، ألا تكون القذائف أحالته مِزَقاً يستحيل لمّ شملها، ألا يكون جسده المهزول وجبة لجرذان مهزولة هي الأخرى، ألا يدّعي أقربوه أنه قُتل على أيدي عصابات الإجرام الإرهابي، ألا يتبرأ منه والده ذليلا منكسرا على شاشات المقاومة، ألا يُنكر ممثلو قضيته المركزية انه مات أصلا… وها أنت أخيرا تجد من يرى موتك خسارة فادحة تستحق تعويضا وإن كان رمزيا. وهذه قفزة تطورية هائلة لم يَهذِ بها العزيز “دارْوِن” نفسه. وقد كان أكثرنا يتوقع الموت في كل تسع دقائق مرة أو مرتين، وربما أزْيد. لكن أكثرنا عاش على الرغم من أنف الموت، أو ربما بتواطؤ منه، تسع سنوات، وربما سيعيش أزيد.
وليس الطمع في ميتة لائقة وخلود رمزي مقتصرا علينا نحن معشر أشباه الأحياء. هو ذا أبو تمام الطائي يزور مسقط رأسه في حوران، فلا يجد تمثاله هناك. قيل: هدمه المتطرفون الإسلاميون. وكان من الثابت كما ورد في مؤلفات علماء الأنثروبولوجيا أن السوريين كانوا يطوفون حول تمثال شاعرهم العظيم، يستقسمون لديه بالأزلام، ويستسقون به المجتمع الدولي، ويستشفون ببركاته من إصابات الحرب، ويلوذون بحِماه من همزات البراميل وصواريخ السكود، ويُروّضون ببلاغته العَروض المُمتنع والقوافي الحَرون والأخطاء الفردية.
الشيء الوحيد الذي فات هؤلاء العلماء أن جُلّ مواطني هذا البلد لا يعرفون أبا تمام، ويجهلون أنه مواطن سوري وفق التقسيم الجيوسياسي المعاصر، وتقتصر ثقافتهم الشعرية المدرسية على سليمان العيسى وبعض من نزار قباني بعد أن غناه كاظم الساهر. والشيء الوحيد الذي لم يفت أولئك المتطرفين هو أن أبا تمام صنم يُعبد، طاغوت لا بد من إزالته تمهيدا لإسقاط النظام. وصحيح أن جسد أبي تمام، وفق زعمه على الأقل، كان أكبر بكثير من “جاسم” حيث ولد، ومن الموصل حيث توفي ودفن، لكن أشياء كثيرة تغيرت منذ فتح عمورية: خليفة المعتصم يوجه جيوشه مستعيناً على مواطنيه العرب بالروم والفرس والصقالبة وسائر مرتزقة الأرض. هو دور الطائي الآن أن يصرخ “وا معتصماه!”. ولم تعد أرض المعركة هنا تشبه أرض عمورية، تلك التي كان خرابها أبهى من المساكن المعمورة، وترابها أشهى إلى الناظر من الخدود المحمرة خجلا. تغير القادة، تغير المتحاربون، تغيرت الأخلاق، تغيرت التحالفات، تغير الدعم، تغير الشعر.
سيدوم اغترابك طويلا بحثا عن صديقك المعتصم، عن بلد لا يحطم متطرفوها فيها تمثالك، ولا يحرق فيها نظامها بيتك وحياتك.
وقد تدفع قريبا بدل خدمة العلم، وتبدأ تعلم اللغة العربية وسيلة للاندماج مع من تبقى من أبناء شعبك، وتحفظ النشيد الوطني دون ارتكاب أغلاط مخجلة،
وما أظنُّ النَّوَى ترضى بما صَنَعَتْ…. حتى تُطوِّحَ بي أقصى خراسانِ
أو تركيا، أو اليونان، أو ألمانيا، أو هولندا، أو بلاد الغال. ثم ألستَ يا أبا تمام من أنشد: فاغترِبْ تتجدد؟ هات أرنا تجددك الآن. وربما تتصل بي قريبا لتخبرني عن سوء الحال في بلاد الغربة، وأن أوروبا ليست كما نتخيلها، وأنه لا شمبانيا أطيب من ماء الشام ولا عطر شانيل أزكى من ياسمينها ورائحة مجاريها. وقد تدفع قريبا بدل خدمة العلم، وتبدأ تعلم اللغة العربية وسيلة للاندماج مع من تبقى من أبناء شعبك، وتحفظ النشيد الوطني دون ارتكاب أغلاط مخجلة، وتكتشف الفسيفساء التي كنت تظنها شظايا، والتجانس الذي كنت تحسبه تطبيعا قطيعيا واستنساخا نعجويا.
وعمورية تقع اليوم في تركيا، وغير بعيد عنها، وفي ولاية أزمير التركية، وتحديدا حيث وُلِدَ في مدينة برجامة (وقد أتعلم يوما ما نطقها الصحيح)، ينتصب تمثال لجالينوس وهو يتكئ على عمود، أحتاج أن أكون مؤرخا ومعماريا معا لأعرف من أي طراز هو. يلتف حول أعلى العمود ثعبانُ أسقليبيوس، الإلهِ الإغريقي الذي لقن البشر مهنة الطب اللعينة. وفي يدَي جالينوس كتاب مفتوح، لا يبدو لي أنه ينظر فيه، فقد أخذ الطب عن أساطين عصره، ثم استمد كثيرا من خبرته التشريحية والجراحية من علاجه المُجالدين الناجين مؤقتا من معاركهم في حلبات المصارعة. قدمت الحضارة الرومانية خدمات جليلة في مجال صناعة الترفيه. ثم أليس “الحرب أبو الأشياء” كما أكد هرقليطس؟ ثم أليس فينا من شرّح الضفادع في كلية الطب وبعدها البشر في غرف العمليات الجراحية؟ وكانت هذه أيضا قفزة تطورية لم يذكرها دارون في “أصل الأنواع” أو “تحدر الإنسان”. وبعد هرقليطس بقرون مديدة، ألم يكتب طبيب جرّاح: الحرب أفضل معلّم للجراحة؟
وعلى الرغم من أن اسمه يعني الهادئ أو الساكن، إلا أن جالينوس كان دائم الترحال، ضاحك السن لأتفه نكتة، كثير الكلام حد الهذر، محبا للأغاني والألحان، وشغوفا بقراءة الكتب (وهل في ذلك شك؟) ويبدو أن حريقا شب في الحي الذي كان يقطنه جالينوس حين كان مقيما في روما، وهو غير الحريق الذي اندلع تحت شعار: “نيرون أو نحرق روما”. وكان من المتوقع، وفق قانون مورفي، أن يأتي الحريق على أهم ممتلكات جالينوس: خزائن كتبه، وأثاث قدر بمبلغ عظيم. وكان مما احترق بعض النسخ بخط أرسطوطاليس نفسه، وبعضها بخط أنكساجوراس، وكتاب في علاج السموم وتركيب الأدوية، كان عزيزا على قلب وعقل طبيبنا الفاضل، حتى إنه كان مكتوبا في ديباج أبيض بحرير أسود.
ونيرون لم يمت بخلاف ما زعم الشاعر، وهو الشاعر نفسه الذي قال: “فأسقطوا عني جواز السفر”. وقد تبنّيتُ كلامه هذا ردحاً من الزمن إلى أن أتى السؤال الذي جعل نخاعي الشوكي أسطوانة من الجليد في هذا الطقس الرائع المميت: وكيف يسقطون عنك ما لا تملك؟
وكان مجرد معرفتي بما حل بمكتبته كفيلا باهتياج قرحتي المعدية الهاجعة وإفراغي المِرّة الصفراء. لكن الفاضل جالينوس بقي على عادته: دائم الابتسام، ضاحك السن لأتفه نكتة أو أعظم مصيبة. والذي حدث بعد ذلك أن رجلا سأله ما باله لم يره اغتم قط عندما ذهب جميع ما قد كان تركه في الخزائن العظمى لما احترقتْ برومية؟ فوصف له السبب في ذلك، وكتب في ذلك كتابا ترجمه أسلافنا بعنوان يشي بمضمونه “مقالة في صرف الاغتمام”. وكان من المتوقع، أيضا وفق قانون مورفي، ألا أعثر على هذا الكتاب/المقالة. لذلك ربما لا أزال مغتما لافتقاد مكتبتي، ولعلها ما كانت تحتوي كتبا بندرة وفرادة كتب جالينوس، لكنها تظل كتبي، وغَثّك خير من سمين غيرك، وأنفك منك وإن كان أجدع، ونيرون لم يمت بخلاف ما زعم الشاعر، وهو الشاعر نفسه الذي قال: “فأسقطوا عني جواز السفر”. وقد تبنّيتُ كلامه هذا ردحاً من الزمن إلى أن أتى السؤال الذي جعل نخاعي الشوكي أسطوانة من الجليد في هذا الطقس الرائع المميت: وكيف يسقطون عنك ما لا تملك؟
للبراكين أرضها، وللأعاصير أسماؤها، وللثورات قنصلياتها، وللمقابر انتماءاتها، وللأوبئة منابتها، وأنت لا تزال تحتاج جنسية وجواز سفر. ثم إننا، من جهة ثانية وفي الوقت نفسه وفي سياق متصل، في عصر العولمة، والقرية الصغيرة، والأرض الأم جايا، والحضور الإلهي في الأشياء… ما حاجتك إلى ترف الوطن والجنسية وجواز السفر؟ يطعمك الحج والناس راجعة، الناس يتخلصون من هذه الأشياء ليذوبوا في الوجود الكلي، بينما أنت سلفا، خِلقة (أو “أولريدي” كما يقولها المستعربون من أبناء لغتك) معدوم من هذه الإكسسوارات.
ربما يجد الفاضل جالينوس في كلامي السابق نكتة سخيفة أو مصيبة جليلة، لكنني على يقين من أنه سيضحك ملء قلبه وفيه.