زمن التيه

أقف في الشارع، أنتظر سيارة أجرة تقلني إلى وجهتي. مضى أكثر من نصف ساعة على انتظاري، فأزمة الوقود جعلت من السيارات شيئاً نادراً، إلى أن تقف لي سيارة وأهم بالصعود إليها. وهنا تبدأ حكايتي العاجلة والمكثفة في الوقت نفسه، فالسائق يعرفني وقد كان زميلي في المدرسة في المرحلة الثانوية.
ألقي عليه التحية قبل أن أعرفه، فيردها بمثلها ويبتسم ابتسامة خفيفة، ثم ينظر نحوي ويسألني: “عرفتيني؟”
أصمت قليلاً، وأحدق في سحنته، نعم أعرف هذا الوجه ونظرته، من يكون يا ترى أتساءل في نفسي، إلى أن تطفو ذاكرتي باسمه على لساني: “ماجد؟”
هو: “بشحمه ولحمه”
فرحت كثيراً بتلك الصدفة التي قادتني إليه، وشعرت وكأن ذاكرتي ازدحمت بكل ما يتعلق به وبتلك المرحلة الدراسية وغدت صورة تلك الأيام تُغرق مخيلتي، وهنا بدأتُ أتذكره أكثر وبدأت أتعجب أكثر من كونه اليوم سائق سيارة أجرة، فقد تعذر عليَّ ربط المرحلتين مع بعضهما كونه كان طالباً مجتهداً ومتفوقاً ومن المفترض أن يكون قد درس تخصصاً جيداً يعمل في مجاله اليوم. وفي الوقت الذي بدأت علائم التساؤل تظهر على وجهي، سارع هو للإجابة على ملامح استغرابي التي قرأها وقال:
” إي والله، سائق تكسي، شو بدي أعمل، بعرفك مستغربة، بس هاد قدرنا بهالبلد”
عادت ذاكرتي إلى ماجد في المدرسة حين كان الأكثر تميزاً، ومحط مديح المدرسين، كان بارعاً في مادة الفيزياء، يذهل المدرسين بطريقة تفكيره وباختراعاته التي يضيفها على المحرك الصغير الذي جاء به من إحدى سيارات اللعب، ليجري عليه بعض التعديلات ويضيف بعض القطع، ليخترع تارةً غسالة مصغرة، وتارة مروحة، بالإضافة إلى ألعاب تسلية كهربائية عديدة. هو اليوم يقود سيارة أجرة وغدا إحدى قطعها أو قطع القدر الذي يحركه.
كان ماجد يسكب أحاديثه على أذني كمن يحكي ملخصاً أو نبذة تعريفية عنه، يعرِّف نفسه فيها من خلال الواقع الذي حشره في هذه الزاوية، بعد أن كان يطمح بصناعة واقعه وإجباره على السير بما يرغب هو، لكن وكما قال في البداية: “هاد قدرنا بهالبلد”.
يضيف ماجد الذي بدت يده اليسرى مصابة وبالكاد يحركها:
“سجلت هندسة ميكانيك، وبالسنة الثانية اتوفى الوالد، واضطريت وقف تسجيلي واشتغل فترة لأصرف عأهلي، بعدين بلشت الأحداث وصرت أجل تسجيلي، بعدين طلعت ع لبنان، اشتغلت هنيك فترة وجيت، بكتشف إنو مخربطين بوراق التأجيل تبعي مدري مموطلين فيهن وسحبوني عالجيش من الحدود. برجع بعد شهرين متصاوب، وبقعد بالبيت، ومن وقت ما شفيت عم اشتغل عهالسيارة، لا قادر كمل علمي ولا سافر ولا سرحوني من الجيش”
كان ماجد يسكب أحاديثه على أذني كمن يحكي ملخصاً أو نبذة تعريفية عنه، يعرِّف نفسه فيها من خلال الواقع الذي حشره في هذه الزاوية، بعد أن كان يطمح بصناعة واقعه وإجباره على السير بما يرغب هو، لكن وكما قال في البداية: “هاد قدرنا بهالبلد”.
فجأة تذكرت شاباً كان معنا وكان مقرباً من ماجد وكان اسمه خالد، ولا أعرف شيئاً عنه حالياً، فهممت بسؤال ماجد عنه، فابتسم وقال:
“خالد دخل مركز البحوث العلمية، حسب رغبة أهلو، وبعد ما اتخرج خدم عسكرية بنفس المركز، هيك خدمتهن بتجي بنفس المركز، لكن بعدين هرب علبنان ومن هنيك طلع عأوروبا، ما عاد قدر يتحمل يكون مقيَّد من وقت دخل عالمركز، وطبعاً بقي الأمن يزور أهلو كل مدة لإنو وضعو حساس وبخافوا يكون مسرب شي معلومات لبرا”
ثم تذكرت فتاة كانت معنا أيضاً وسألته عنها: “طيب ورشا شو أخبارها”
“رشا تزوجت من ضابط بالجيش وحالياً ساكنين بحمص لإنو خدمتو هنيك، وبتجي زيارات لعند أهلها كل فترة، ومن مدة شفتها لإنو أهلها جيراننا، بس بتحس إنو كل هموم الدنيا فوق راسها”
ثم ما لبثت أن بدأت أسماء أصدقائنا وصديقاتنا في المدرسة تنهال على ذاكرتي، وأسأله عنهم بالتوالي ليغرقني بأخبار متفرقة حولهم، همسة مثلاً غادرت البلاد ولجأت إلى أوروبا حيث رست رحلتها في فرنسا بعد أن تطلقت من زوجها. سامر عاد إلى قريته وشيئاً فشيئاً دخل في فصيل مسلح وقد جُرح في المعركة الأخيرة في بلدة القريا، في حين أن علاء يعقتد أنه دخل في عمليات التهريب بالمازوت والبنزين ويقوم بتوزيع المازوت والبنزين على البسطات المتناثرة في المدينة، بعد أن ترك وظيفته واغتنى فجأةً، ويُقال أن له علاقة بتهريب المخدرات أيضاً والمتاجرة بها.
هكذا بدا ماجد يدرك أخبار الجميع تقريباً وعلى اطلاع على أخبارهم، وقد تزاحمت تلك الأخبار في رأسي حول مصير أصدقائنا وصديقاتنا، أولئك الذين طالما حلموا بدخول الجامعة ودراسة اختصاصٍ يحبونه والعمل فيه وتأسيس عائلة تكبر في جوٍ من الود والأمان والقدرة على النجاح والتطور. لكن واقع البلاد حال دون تحقيق ذلك، فاضطر كل منهم للحاق بركب الواقع كما ماجد، ومحاولة الاختيار بين وقائع مريرة قد لا يحبذ الفرد أياً منها.
لطالما كنا نتحدث عن إمكانية التواصل عندما نكبر ونجلس ونتخيل ما يمكن أن نكون عليه حينها، فتبدأ الأحاديث حول كيف سنربي أولادنا وماذا سنعمل وماذا نحب أن نكون. فتلك تحب أن تنجب إناثاً وتعلمهن كيف يصبحن أقوياء وتؤكد على أن سلاح الفتاة علمها وشهادتها، وذلك يحب أن يغدو مهندساً يبني بيوتاً فريدةً بتصاميمها ومتلائمة في الوقت نفسه مع بيئة مكاننا وطبيعته، وكم كان يرغب بأن لا تكون الأبنية نسخاً ساذجة عن بعضها البعض. كانوا يرغبون بأن يسافروا ويكتشفوا الدنيا لكن لم يتحدث أحدهم عن البقاء في الخارج، فالعلاقات الاجتماعية وقتها كانت ذات أهمية وحميمية لدرجة يصعب عليك تركها بسهولة، لكن اليوم يبدو أن القدر غدا فوق استطاعة الجميع وقدرته على التحمل، فنثرهم على امتداد يده نثر القمح في الحقل، لترسو مصائرهم على ما رست عليه من تيه.
كيف وصلنا إلى هنا، كيف لنا أن نتأقلم مع ذلك الوصول، ما هي قدرتنا على تحمل طي القصص القديمة وعلاقاتنا وذكرياتنا القديمة والبحث عن الجديد منها. كيف للإنسان أن يمتهن بناء علاقات مهددة بالانقطاع…
أفكر في همسة مثلاً التي لجأت إلى فرنسا، بماذا تفكر اليوم، هل ستستطيع أن تنسى حياتها هنا أو تنطلق من جديد بمعزل عن ماضيها، هل كانت رغبتها كاملة في اللجوء، أم أن القدر اضطرها لذلك، وهل كان على علاء العمل في التهريب لولا قذارة الوضع وثقله الذي يجعلك تقبل بما لا ترغب بملئ إرادتك، هل كان سيعمل في التهريب لو أتيح له العمل الكريم والمناسب والمدخول الجيد.
أسئلة وأسئلة بدأت تتوارد إلى ذهني دون أجوبة أحياناً وبخيارات كثيرة أحياناً أخرى. كيف وصلنا إلى هنا، كيف لنا أن نتأقلم مع ذلك الوصول، ما هي قدرتنا على تحمل طي القصص القديمة وعلاقاتنا وذكرياتنا القديمة والبحث عن الجديد منها. كيف للإنسان أن يمتهن بناء علاقات مهددة بالانقطاع، دون القدرة على المحافظة عليها، كيف له أن ينسلخ عما بناه منذ الصغر وعايشه وكبر معه.
أنزل من سيارة الأجرة، أودع ماجد وعاطفتي مشدوهة ومثارة بلقائه، فأجد نفسي واقفةً في دهليزٍ قاتم ومتعرج لا يفضي إلى شيء. أتوه في شوارع المدينة تيه رفاقي الذين تناثروا في بقاع الأرض وفروضها، أفكر بهم، أتمنى أن يكونوا بخير لتكون ذاكرتي بخير. وأتساءل، هل سنمتلك القوة على تحمل هذا التيه، وكيف للإنسان أن يستقر ويشعر بتوازنٍ ضمنه. هو زمن التيه زمن ضياعنا واستقرار اللا استقرار. زمن تذرر الفرد وضياع روح الجماعة، وضياع ذاكرة جمعية كانت يوماً ما كل ما نملك، وصارت يوماً ما أبعد من أن نملك.
اللوحة “إصرار الذاكرة” لسيلفادور دالي.