ذاكرة طبيب

منمنمات أموية

بائعة الكبريت

تتلمس طريقها في شبه العَتَمة/شبه الضوء

 وتقول: “جيد أن القمر لا يعمل بالكهرباء”

 تعثر بغريزة حديثي العهد باللبن على حضن أمها

 قبل أن تتذكر أن أمها رحلتْ منذ زمن بعيد.

 أبوها لم يأنس نارا 

لم يأت منها بقبس، أو جذوة، أو خبر

 لم يجد عليها هدى لعلّها تصطلي.

 “هو لم يعد إلى الآن”

 ليست له نبوة موسى

 أو التفاتة من هيئة إغاثية 

أو حظ حيوان أسترالي فيهلك بحريق. 

“ربما تعب فاستراح قليلا 

ربما التقى بأمي فأخذا يتقاذفان كرات الثلج

 أو ربما ضل طريقه في شبه العتمة/شبه الضوء”.

 ثم تموت بائعة الكبريت

 ليكتب عنها “هانز كريستيان أندرسن” قصة.

تباعد اجتماعي

العالم الناطق بالعربية ميؤوس منه: 

اِحذفْ من لا يعرفون القراءة

 اِحذفْ من يغتذون بالدناءة 

احذف رجال السياسة

 احذف الفقهاء العاملين في أسواق النخاسة

 احذف ثوار الفنادق 

احذف الباحثين عن فتات الخبز

 احذف الفلاسفة المغتربين أفكارا ومفردات

 احذف اللاهثين وراء الترِنْدات

 احذف العلمانيين الذين يرعبهم صوت الأذان أكثر من سوط السجان

 احذف من لا يزال يترحّم على ستالين

 احذف اللصوص والمتسولين 

احذف من هو في حلف المقاومة

 احذف من يعمل بالمياومة

 احذف من يؤمن بالحل السلمي والحمامة ذات غصن الزيتون 

احذف من يظن الوباء والحجْر أكبر مصيبتين حلّتا بالبشرية

 احذف واحذف ثم احذف… 

من يبقى؟ 

حفنة حالها أسوأ من حالي

 لذا أرفعُ ورقة مزدانة بالحروف اللاتينية

 قد تصادف فتاةً من عمري 

ليس لها اسمي ولا لون بشرتي ولا حياتي اللعينة

 لكنها على الأقل طفلة مثلي 

لم تلوثها بعدُ عُطورُكم الكريهة ومياهكم القذرة، 

أو هذا ما أرجوه.

كانيباليّة Cannibalism

يفترض أن أكل البشر لحوم البشر حدث في مناسبات كثيرة. ربما كان يمارسه أبناء القبائل اللاكتابية حين يلتهمون قلوب أعدائهم لاكتساب شجاعتهم. ربما تناولوا لحم موتاهم تعبيرا عن الاحترام. ربما حدث في المجاعة الأوكرانية عام 1933 وفي حصار ستالينجراد. ربما صار تعبيرا فلسفيا عن الاتحاد بالرب : “كلوا هذا الخبز فإنه جسدي”. ربما اكتسب صيغة نفسية مذهلة كما في “صمت الحملان”. ربما تستطيع عدَّ كل استغلال للإنسان شكلا من أشكال الكانيبالية. وربما تبرزه لنا الصورة أدناه: ألوان زاهية، شباب مفعم بالأمل والحياة، يشع النور من إبداعاتهم..

 “هنا كان شعبي

 هنا مات شعبي

 هنا شجر الكستناء يخبئ أرواح شعبي”

 وتحت الأنقاض تكمن أجساد وأرواح شعبي، شعبِ هؤلاء الفنانين أنفسهم. لا أدري مفهوم هؤلاء عن الفن. لم أطّلع على المنهاج الفكري لكلية الفنون الجميلة. لا أعرف كم واحدا منهم كان في المخيم أثناء الحصار. لا أعرف إن كانوا سيرسمون رضيعا مات جوعا، أو عجوزا قضت تحت الركام، أو شابا فقد ساقه. كما أعجز عن تخيل كيف يكون مكان يختزل كل هذا الألم والمعاناة والحصار والخراب والتجويع والأمراض والموت.. مُلهِما لكل هذا الاستخفاف والاستهتار والفن الجميل البديع.

 “ألا تحفظون قليلا من الشعر كي توقفوا المذبحة؟!

 ألم تولدوا من نساء؟! 

ألم ترضعوا مثلنا حليب الحنين إلى أمهات؟!”

 المكان: ما كان مخيم اليرموك

الزمان: 12 آب 2018

 الاقتباسات الشعرية من قصيدة محمود درويش: “خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض”. الأبطال: فنانو المستقبل، بانو سوريا المفيدة، ومحررو فلسطين. 

ساعة الذروة

وإذ أسأمهُ الانتظار، قرّرَ أن ينتظر مزيداً منه. 

ليس ما يؤلمه الهندسة المعمارية للفضاء الخرب المحيط به، أو الحشائش العبثية كمسرحيات “بيكيت”، أو اللافتات التي ما عادت تحيل إلى أحد أو شيء، أو الشح اللوني الذي أُرْغِمه رسامٌ في ضائقة مادية، أو أن الباص الذي لا وجود له لم يأتِ بعد، أو أن الطريق موحشةٌ كبيتٍ فَقَدَ ربّته. كلُّ ما آلمه أن المقعد الذي إلى جواره كان خالياً، ولا يزال.

5 أيلول 2015، مقابل شارع لوبية

الصرخة

وحيدة 

مهملة 

مستطيلة

زرقاء داكنة 

لا تشير إلى شيء، لا تدل على أحد.

عنيدة

مُفقَرة

مستحيلة

مهمَّشة ناحلة

ليس لها ولد أو بلد.

أغنية أطفال

طيارة طارت بالجو

فيها بعبع فيها عو

فيها جندي من بلادي

مو قادر على بعادي

جايبلي معه صواريخ

مو مصنوعة بالمريخ

تشكيلة من بابا نويل

بتلعب فينا طول الليل

خلت عتمة عمري ضو

طيارة طارت بالجو

فيها بسبس فيها نَو

خلتني ليل بعد نهار

إحلم لو إني طيار

إرمي على شعبي براميل

بتفيده ضد التواليل

طيارة طارت بالجو

عملتْ دُم دُم عملتْ جَو

خلتني عايش عالكيف

إتمنى لو عندي سيف

عندي سيف وعندي لَو

خرِّبها واضحك هَأّو

هِيْ طيارة وفيها عسكر

كعكة محلاية بالسكّر

كعكة بتطير وبتعلي

مطرح مالإيراني قللي

حتى إرجع عفلسطين

بعد العترة وبعد الطين

طيارة طارت بالجوطفّوا العتمة طفّوا الضو.

 شبابيك

الشُّبّاك، كما ورد في “معجم الأسرى العرب في السجون العربية”:

برزخ بين “الوجود بالقوة” و”الوجود بالفعل”.

حرف مذبذب بين الشمسية والقمرية.

جُحر الأرنب الذي تثب فيه من الجوع، والجرب، والاغتصاب، والقُر، والحَر، وفنون التعذيب السريالية التي ابتكرتها أحقر النفوس البشرية المريضة/المجرمة؛ إلى حيث يجلس عاشقان يتبادلان الغزل والقبل تحت ضوء القمر.

اختصار للحلم في جملة واحدة كتبها الشاعر والفنان التشكيلي “مجدي نجيب” عن سجون مصر/مصر السجون: الدنيا كلّها شبابيك.

كأن الثورة اشترت من المتمردين حريتهم بأن لهم المجدَ، والموتَ منسيين في الأقبية.

القَسَم هو القَسَم

بدأ اهتمام ستيفن مايلز Steven Miles، الأستاذ في كلية الطب/جامعة مينيسوتا، بموضوع تورط الأطباء في تعذيب المعتقلين، منذ عام 2003 حين ظهرت صور التعذيب المهينة التي مورست في سجن “أبو غريب”. ألّف مؤخرا كتاب “خيانة القسم” Oath betrayed. يحدثنا فيه عن الأدوار التي يؤديها الأطباء في التعذيب: 

1- ابتكار وسائل التعذيب التي لا تترك ندبا (مثل “التغذية” عبر المستقيم… ويستثني بلدانا مثل سوريا وكوريا الشمالية حيث ندوب التعذيب عُرف شائع).

 2- التأكد من الحفاظ على حياة المعتقَلين الذين لا يراد لهم أن يموتوا. 

3- تزوير التقارير الطبية وشهادات الوفاة لإخفاء أذيات التعذيب والسبب الحقيقي للموت (كلهم هنا يموتون بنوبة قلبية!). يتحدث باستفاضة عن الوسائل التي تهدف إلى التدمير النفسي للمعتقلين: العزل، تجربة الاختناق، حشر السجناء، التعذيب الأبيض، و”الغرفة السورية” Syrian chamber (نعم! كذا صار اسمها). 
يكشف لنا كيف تلقى عالِما نفس أمريكيان مبلغ 81 مليون دولار لتصميم برنامج تعذيب لصالح ال CIA.

ليس الأطباء ساديين بالضرورة والطبع، وَفق مايلز، لكنهم قد يتعرضون للتهديد والإغراءات، أو ربما يتساوقون بكل بساطة مع السياسة العامة لنظام البلد والسجن: “هؤلاء أعداؤنا وعلينا اعتصار المعلومات منهم”. للرابطة الطبية الأمريكية AMA موقف صريح: “على الأطباء أن يعارضوا التعذيب، وألا يشاركوا فيه مهما كانت الأسباب. والمشاركة تكون بتقديم أية خدمة أو مواد أو معرفة تعين على ممارسة التعذيب. ويجب ألا يكونوا حاضرين عند استخدام التعذيب أو عند التهديد باستخدامه. كما عليهم ألا يعالجوا (نعم ! ألا يعالجوا) المعتقَل إن كان الهدف من ذلك هو التحقق من ملاءمة حالته الصحية لبدء التعذيب أو استئنافه ومتابعته.

 يبلغ “قسم أبقراط” الشهير من العمر 2500 سنة. عام 1948 ظهرت النسخة الحديثة منه التي يقسم (أو يتعهد) عليها طلاب كليّة الطب عندنا، وفي العالم كله، في سنة تخرجهم. في الذي يخص موضوعنا، يقول الطبيب:

 ● أتعهد مخلصا بتكريس حياتي لخدمة الإنسانية. 

● صحة المريض ومنفعته هما شاغلي الأول.

● ألتزم بأقصى احترام للحياة البشرية.

 ● لن أستخدم معرفتي الطبية في خرق حقوق الإنسان والحريات المدنية، حتى تحت التهديد. 

يُفترض أن رأس النظام في بلدنا طبيب! .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

3 × خمسة =

زر الذهاب إلى الأعلى