ذاكرة طبيب

حمداً لله على سلامتك أيها الشهيد

يضعك الشهيد في حيرة من أمرك، في مأزق حقيقي: فأن تكتب عنه راثيا أو مادحا عرض يبدو رخيصا يؤديه من لا يزال حيا إلى من جاد بأثمن ما لديه، في زمن كل ما هو فيه مبتذل، أو يهرول في طريق الابتذال. وأن تتجاهله، فعل دنيء وفق أكثر الأوصاف احتراما. وليس كل من قُتل في حرب شهيدا، لا بد أن تكون حربه عادلة. وسمي شهيدا لأنه يكون شاهدا على من ظلمه وانحرف عن طريقه، كذا قالت العرب. وليس هناك حرب أهلية وحرب غير أهلية، هناك حرب عادلة وحرب غير عادلة، كذا كتب فكتور هوجو. ويختلف الشهيد عنا ــ نحن سائرَ البشر الفانين ــ لأسباب دينية وعلمانية، بأنه لا يموت. هو يغفو فقط، وعند استيقاظه نهتف: الشهيد قام! حقّاً قام!

أفهم ــ على الأقل بصفتي ذكرا ــ أن يهتاج قطيع من الذُكران لمرأى حذاء بكعب عالٍ مستدق تنتعله امرأة تحطم في مشيتها كل قوانين الميكانيك. لكن ماذا عن الرغبة الدفينة فينا في أن يظل البسطار يدعس علينا؟ ماذا عن حمى الإعلاميين والممثلين و”المثقفين” وهم يظهرون على الشاشات يقبّلون بشهوة هذه الكائنات البديعة؟

وليت الشهيد يكتفي بما سبق، إذ ماذا لو أن مقتل هذا الذي ندعوه شهيدا كان على يد فرد من أفراد جيشنا الوطني؟ أيكون شهيدا حينئذ؟ وجيوشنا وطنية، ما عندي في ذلك أدنى شك: فعناصرها ــ من الماريشال الأعظم إلى أصغر جندي ــ لم نستوردهم من فنلندا أو نجم فيجا، هم أبناء هذا الوطن. وبهذا المعنى، فإن أجهزة الأمن والمخابرات لا تقل وطنية. لكن أهذا هو تعريف الوطنية؟ أقسم إني لا أعرف تعريف شيء، لكني أعرف أنه يمكن لمؤسسة ما ــ الجيش مثلا ــ أن تصبح “جماعة وظيفية”: كياناً منسلخاً عن شعبه ــ رغم انتمائه البيولوجي إليه ــ له مصالحه الخاصة المستقلة عن مصالح هذا الشعب، بل المتعارضة في أكثر الأحيان معها. وبالرغم من ذلك، يظل للجيش سحره، ولأسمّها: فِتشية البسطار (أو البصطار) العسكري. والفتشية باختصار هي أن يثيرك جنسيا عضو أو شيء غير جنسي. أفهم ــ على الأقل بصفتي ذكرا ــ أن يهتاج قطيع من الذُكران لمرأى حذاء بكعب عالٍ مستدق تنتعله امرأة تحطم في مشيتها كل قوانين الميكانيك. لكن ماذا عن الرغبة الدفينة فينا في أن يظل البسطار يدعس علينا؟ ماذا عن حمى الإعلاميين والممثلين و”المثقفين” وهم يظهرون على الشاشات يقبّلون بشهوة هذه الكائنات البديعة؟ ماذا عن غزلنا الإباحي بجيوشنا بصفتها حامية للأرض والعِرض والوحدة الوطنية؟ بل لم لا نصنع تمثالا أو ناطحة سحاب تمثّل بسطارا؟ لم لا نقوم باستمناء جماعي ونحن نحك فروجنا بمثيرات الشهوة هذه؟ ومن أشد من يعارض البسطار “العَلوي” الذي يمثله حافظ الأسد، قوم يلعقون البسطار “السُني” الذي يمثله صدام حسين مثلا. ولكل إنسان ذوقه في شذوذاته الجنسية الفتشية. ولكل امرئ ينتمي للهوموسابينس الحق في اختيار إلهه ومعبوده، وهذا أمر تكفله شرعة حقوق الإنسان: حرية المعتقد والضمير.

ثم ليت سادية الشهيد تقف عند هذا الحد، إذ ماذا لو أن هذا الذي اغتالته يد الغدر الآثمة كانت له علاقات حميمة مع مخابرات النظام الأسدي؟ ماذا لو أنه أخرج أسلحة من اليرموك لئلا يستفيد منها الثوار؟ ماذا لو كانت تدعمه منظمات أوروبية “إنسانية” يزودها بالمعلومات مقابل مبلغ من المال ووعد باللجوء والجنسية؟ ماذا لو أنه كان يؤمّن حماية وتغطية ورعاية لواحد ممن أجمع الكادر الطبي في مخيم اليرموك على فساده؟ ماذا لو أنه جمع كمية كبيرة من الأدوية وقام برميها في نار هائلة/هولوكست دوائي؟ نار يطوف بها أتباعه من الغلمان والخصيان كما لو كانت نار المجوس، أو الشعلة الأولمبية، أو مدفأة شتاء اليرموك. كما لو كانوا أسلافنا البدائيين الذين اكتشفوا النار لأول مرة فأنضجوا على حرّها لحم موتاهم.

ثم يأتي من يتلو عليك أقواله المأثورة ونصوصه المقدسة: “اذكروا محاسن موتاكم، الرجل أفضى إلى ربه، عند الله تحتكم الخصوم، له ما له وعليه ما عليه، الرجل مات ولم تعد تجوز عليه إلا الرحمة، كان أحسن من غيره، لا لنبش القبور …” وكأنك بذكر سلبياته تنكر أنه كانت له أفضال، أو كأنه تبعا لنقدك لتصرفاته ستحكم عليه بالخلود في جنة الخلد أو المُقام في الدرك الأسفل من النار.

من قتل هؤلاء وسواهم؟ ولم فعل ذلك؟ لا أحد يعرف. وحدهم بعض الناشطين الزرق يُتحفوننا كلما أوشكنا على النسيان بأنهم سيخرجون ما لديهم من مستندات ووثائق في المكان والزمان المناسبين. ويبررون تأجيلهم بأعذار هي أقرب ما تكون إلى المشاركة في الجريمة والتستر على المجرمين.

مرة، في الحصار، كنت ساخطا أشد السخط، وفي فمي ماء ودم وحصى وقيء. وإذ بإحداهن تسألني عن “شهيد” فلاني، وعن سبب شدة حب أهل اليرموك له. فما كان مني إلا أن قلت لها: “جميعنا هنا نحب الموتى”. وكانت من الذكاء بما يكفي لتفهم مقصدي، وكانت من الدماثة بما يكفي لتقول لي: لسانك إبليس.

المسألة ليست محاكمة تاريخية، ولا غيبة، ولا بخلا بالرحمة الإلهية، ولا نبشا للقبور لإعدام سكانها من جديد. كل ما أريده ألا نكون مجرد أعضاء في جوقة الراثين، وأن ننقد لنتعلم ولا نكرر الأغلاط، ولا نضيف إلها جديدا إلى الآلهة التي نعبدها، إلى النسخة الفلسطينية من جبل الأولمب، وإلا فليكن: “من قُتِل إثر جرعة مورفين زائدة فهو شهيد. من قُتِل دون ماله الذي اختلسه فهو شهيد. من قُتِل دون أهله الذين خانهم فهو شهيد. من قُتِل دون نفسه التي باعها لأجهزة المخابرات فهو شهيد”

واكتظت الجنة بشهداء اليرموك. وحدهم أصحاب الرايات السود كانوا يصفون “شهداءهم” بالقتلى. ربما لكيلا يزكّوا على الله أحدا، وربما لأن لفظ شهيد لم يرد في القرآن الكريم بالمعنى الذي نستخدمه في زماننا، وربما لأنهم كانوا أكثر انسجاما مع أنفسهم من سائر المنافقين.

وعدا الذين قُتلوا قصفا، أو تجويعا، أو نتيجة مضاعفات عمل جراحي، أو من مرض عجزنا عن تشخيصه أو لم يكن لدينا دواؤه، أو أُجهز عليه عند أحد الحواجز التي لا تحصى; كان هناك من قتل غِيلة. تمت تصفيتهم على طريقة المافيا. كأن تمر دراجة نارية مسرعة يمتطي صهوتها مسلح ملثم، ثم: طاخ! طاخ! ويتابع المسلح طريقه غانما، ويعود سالما إلى قواعده.

وقد بدأت هذه الظاهرة منتصف العام 2014: سلسلة من الاغتيالات تطيح بناشطين سياسيين وإغاثيين وطبيين من الفاعلين في مخيم اليرموك، والمعروفين لكل قاطنيه آنذاك، ولعل هذا الاغتيالات بلغت العشرين. وكان من أبرز ضحاياها:

● 17-6-2014 أبو العبد شمدين (خليل)، وهو ناشط إغاثي، وعضو تجمع أبناء اليرموك.

● 20-12-2014 أبو العبد (محمد يوسف) عريشة، مسؤول تجمع أبناء اليرموك، ومدير الهيئة الخيرية التابعة لحركة الجهاد الإسلامي.

● 23-12-2014 أبو أحمد طيروية، مسؤول حركة فتح- إقليم سوريا في مخيم اليرموك.

● 30-3-2015 أبو صهيب (يحيى حوراني)، قيادي في حماس، مسؤول التنمية والتدريب في هيئة فلسطين الخيرية.

● 12-7-2015 أبو معاذ (مصطفى الشرعان)، مدير هيئة فلسطين الخيرية، ثم مؤسس “الوفاء” الخيرية.

● 27-10-2015 أبو أحمد هواري، مسؤول الجبهة الديمقراطية في المخيم، وأمين سر الهيئة الوطنية الفلسطينية.

من قتل هؤلاء وسواهم؟ ولم فعل ذلك؟ لا أحد يعرف. وحدهم بعض الناشطين الزرق يُتحفوننا كلما أوشكنا على النسيان بأنهم سيخرجون ما لديهم من مستندات ووثائق في المكان والزمان المناسبين. ويبررون تأجيلهم بأعذار هي أقرب ما تكون إلى المشاركة في الجريمة والتستر على المجرمين. وما على من بقي حيا منا إلا أن ينتظر حتى يأتي دوره كي يُقتل أو يموت من نوبة قلبية. وإلى أن يأتي ذلك اليوم، اصنع فلما ناطقا بالإنجليزية، وليكن اسمه “let’s fuck Lily”. ولأن مجتمعنا أخلاقي، سيعرض الفلم وقد ترجم العنوان إلى: “تعال نقطف بعض الزنابق”. في المشهد الأول، لن يظهر ضفدعان يستجمان على ورقة نيلوفر طافية على وجه البحيرة تحت شمس مذهبة. بل وحش اسمه “مكمور”، والكَمَرة هي رأس الذكر/القضيب، فالمكمور لغة هو عظيم رأس الذكر. ستحتج العائلات التي أحضرت أولادها إلى صالة السِنَما في نزهة تثقيفية. كان جذع النخلة ينتصب بشدة، وكانت الكمرة تنتفخ وتحتقن. سيكون هناك صراخ كثير، وهتافات نصر. وسيخرج أكثر الحضور لم يفهموا شيئا. مشكلة حياتنا هي أنها نسخة رديئة الترجمة من فلم هابط.

حمدا لله على سلامتك أيها الشهيد! فقد نجوتَ من الحياة بأعجوبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

7 − 5 =

زر الذهاب إلى الأعلى