مخيم مدولب
الأمر للوهلة الأولى صعب و هو كذلك في الحقيقة و لكننا قوم مهرة بابتذال كل شيء بما في ذلك الألم بحد ذاته فكما أن هاتفاً يهتف يوم الجمعة أن داووا مرضاكم بالصدقة فكذلك هتف بنا هاتف بأن نداوي آلامنا بالسخرية .
وصلت المفاوضات مع الجانب الروسي إلى حائط مسدود ؟
نعم
فهم و إن كانوا يتركون فيك انطباعات خاصة كممثلين لدولة أجنبية ، لكنهم متغطرسون كأي محتل ـمشبعون بكل أنواع الجريمة و مغموسون بالدم رغم ابيضاض بشرتهم .
بدأت ريح الشمال تهب علينا ، و حان موسم الهجرة إلى الشمال و بدأت الذكرى تتوسع على حساب الحاضر ، كما بدأت الوجوه الجميلة المألوفة تقل و يتسلل ذاك الشعور بأن المكان يهجرك و أن البساط لا بل الأرض تسحب من تحت قدميك ليوضع تحتهما سجاد رخيص مما يفرش في الباصات الفاخرة التي تنقل المطرودين .
يا مرحى ستكون رحلتنا على باص من درجة رجال الأعمال vip !
تباً للطبقية الموجودة في كل شيء .
اليوم موعد رحلتنا ، أنهينا توضيب أمتعتنا و انتهت جدلية ماذا سآخذ و ماذا سأترك ، انتهت جدلية فلان سيخرج و فلان سيبقى ، انتهت جدلية سنرجع إلى المخيم أو أنهم سيدمرون المخيم ، انتهت أسئلة كثيرة كماذا فعلوا بنا وماذا فعلنا بأنفسنا. كل ذلك انتهى فأنا اليوم خارج و شاهدت بأم عيني كيف دُمر المخيم .
لم يكن باصنا مكتظاً و لم يكن توزعنا فيه سيئاً بل أزعم أننا حظينا برحلة فاخرة حقيقية، مع سائق تبين أن له طرفاً بعيداً من القرابة مع الفلسطينيين من جهة أمه فأخذنا زمام المبادرة تجاهه بأن لنا عليه حق الخؤولة .
انطلقت الرحلة من نقطة تجميع الباصات مع حلول المساء ، لسبب قد يكون أن وكالة السفريات المسؤولة عن تهجيرنا يضيرها أن يتلوث منظر دمشق بنا أو أنهم يريدون حرماننا من نظرة نهارية لجلق أو لنقل أن السبب هو رومانسية المسؤول عن كل هذا ..
ودعتنا دمشق بغير قليل من حزننا و كثير من اصبع وسطى للجماهير التي اصطفت على جانب الطريق ، يبدو أن الأمر أصبح عادة لديهم ، فلسنا الوحيدين و لسنا الأفضل و لكن قد أكون متأكداً اننا لسنا الأسوأ ، و لم يعد للإكليل معنى حتى و إن وجد بيننا من يستحقه.
الطريق سهل بمجمله و الذهول من كل هذا التمدد مربك ، فأن تكون لسبع سنوات محشوراً في مساحة تستطيع سبرها من حدها لحدها بنصف ساعة يجعلك لا تستوعب أنك تتحرك ليوم كامل على طريق دون أن تصل جهتك .. يوم واحد ؟ سنرى !
هل نمت ؟ سألت السائق و أنا الجالس بجانبه بعد أن أيقظني من غفوتي البسيطة صوت صراخ و أصوات ارتطام ..
نعم نعم ، لا تشعل ضوءاً فهم في الخارج يرمونكم بالحجارة و قد تحطم زجاج بعض الباصات و لكننا لحسن الحظ لم نتعرض لأذى .
لا أذكر اسم ذلك المسلسل و لكنني متأكد أن هناك مسلسلاً مُثِّل في خناصر ! هذه البيوت المقببة مألوفة جداً و لكنها شهدت معارك طاحنة حسب ما رأيت مما جعلها خرائب مهجورة مقببة .
بعد توقف هنا و توقف هناك وصلنا إلى النقطة المقصودة .
معبر أم الزندين على أطراف مدينة الباب حيث علينا أن نعبر من مناطقهم لمناطقنا حسب مفهومنا أو من مناطقنا لمناطقهم حسب مفهومهم أو من سوريا الأحمر لسوريا الأخضر أو من عدم الطغيان إلى وجود الحرية و لكن هذا تغير و سأخبرك .
حين وصولنا عصراً نزلنا من الباصات و قمنا بالبروتوكول المألوف من التقاط الصور التذكارية و تخليد اللحظة التاريخية على عجل كون الوقت هنا محدود فنحن بعد دقائق سنعبر هذه النقطة و ندخل أو هذا كان ما ظنناه .
” أنا بكره يكون لقائي بأي مكان جديد علي بالليل “
هذا ما قلته لنفسي بعد أن فكرت أننا سنقطع المناطق المحررة ليلاً و لكن الليل حل و نحن في مكاننا .
ماذا يحصل ؟
يسود بيننا جميعاً مهارة كبيرة في استخدام العقل التبريري و لذلك فقد “أبقونا الليلة هنا كي ندخل صباحاً و بلا أي تهديدات كون الضامن الروسي حريص على علاقته بالضامن التركي ” هذا ما قاله أحدهم.
جاء الصباح و انتعاش الصباح و طقوس الصباح التي تضطرك أن تختفي بين الحشائش لتهب الطبيعة ما وهبته لك سابقاً بشكل أو بآخر ، لا بأس فليست الرفاهية مطلوبة دائماً و” كلها ساعة ساعتين و بنكون جوا “.
حل المساء و بدأ القلق و بدأ الجوع فزوادة الرحلة انتهت و مياه الرحلة قد انتهت و ثياب الرحلة اتسخت و شحن الأجهزة نفذ و لعل لهذا كله نهاية
في الصباح التالي ازداد الأمر صعوبة و فتحت صناديق الباصات، خرجت منها بطاريات و ألواح للطاقة الشمسية و ثياب للأطفال بدل تلك التي اتسخت و خلعنا احذيتنا و ارتدينا ما هو أكثر راحة .. الأمر خطير و علامات الاستقرار بدأت مع قدوم سيارات للهلال الأحمر نقلت لنا مياهاً و طعاماً معلباً و قلقاً .
هتف بي هاتف أن الأمر ليس سهلاً كما تتوقعون و شكلنا وفداً و اتجهنا للقاء ضباط العدو و أقول اتجهنا و ليس خرجنا لأننا في الخارج فعلاً و لأننا محاطون بهم من جميع الجوانب ، السجين و السجان في سجن كبير للطبيعة في العراء .
انتم في مشكلة و نحن نحاول حلها ، لا يريدون استقبالكم في الطرف المقابل إذ لا مكان يستوعبكم و تم الاكتفاء ، إلى وقت حل هذه المشكلة ماذا تطلبون ؟ فاجأنا الجنرال سيرجيه و هو جنرال روسي سمين طافح الوجه يأخذ النفس بصعوبة بهذا الكلام على لسان مترجم جامد الوجه نافر القسمات يزهو على أمثاله من الضباط رغم ثيابه الرثة بكونه مترجماً للجنرال .
نظرنا لأنفسنا بدهشة إذ ليس هذا ما نتوقع سماعه و لكن رضينا من الدنيا بما لا نوده و أي امرئ يقوى على الدهر زنده .
أمر الجنرال الروسي الهلال الأحمر العربي السوري بتركيب دورات مياه متنقلة كون الحقول اكتظت بطالبي الراحة منا و ما أكثر من نزل عن فرسه لغاية كتلك .
عدنا في اليوم الثاني و الثالث و الرابع و لا جديد سوى موافقة الجنرال الروسي سيرجيه على طلبنا بأن تخرج لجنة منا لشراء بعض الحاجيات الضرورية من القرى المجاورة و بمرافقة أمنية و بضمانته الشخصية أن لا يتعرض أحد لنا بسوء أثناء ذهابنا و عودتنا .
لم تكن تلك القرى التي تسوقنا منها في الريف الفرنسي و لكن نظرات الدهشة لنا و نحن هناك تشعرك بأنك أحسن الأحوال غريب حقيقي
قال أحد القرويين لضابط الأمن المرافق لنا : ” سيدي هدا بيشبههم ” في إشارة إلياس، نظرت إليه بحزم مفتعل ثم ابتسمت و نظرت إلى أسفل سيقانه و قلت
” ارفع إزارك شيخ” … و هذه جملة يعرفها جميع السوريين
فضحكنا جميعاً كلٌ لأسبابه بالطبع ، اشترينا كميات تكفي لألف انسان من أشياء مختلفة .. ” يلا شباب احملوهن عالسيارة ” أخبرت عناصر المرافقات ” يلا شيخ ” كان جوابهم بكل لطف مأمور به من الجنرال الروسي .
دار بيننا حديث خلال الذهاب عن سبب الأزمة باعتقادهم و الثورة باعتقادي ، و لا أعلم سبباً لمزاجي المشرق حينها فقد انطلقت بحديث منطقي عن الظلم و الطغيان و قتلاهم و قتلانا و حقنا و حقهم و الوطنية السليبة و الوطن المصادر و التماهي بين الدولة و النظام فظهر عليهم الاحراج و دافع من دافع منهم عن الموقف بخطاب أجوف بتباه مفتعل و بمكابرة ..
آه يا عرب المكابرة
خلال عودتنا كنا نتحدث فقلت بقضاء العرف و العادة حين ارتطمرأسي بسقف السيارة ” لك كسخت الأسد” فامتقعت وجوههم و لكنني خففت عنهم بأن هذه أصبحت جزءاً من اللغة الدراجة و ليس المقصود بها إهانتهم.
أما آن لك أن تثوب إلى رشدك و تدرك حقيقة ذاتك ؟ إذ أن القضية كل القضية في العقل يا صاح!
عدنا و العود إلى مكان كمكاننا ليس أحمداً أو فلأقل أين مكان البعد إلا مكان كمكاننا .
ليلة أخرى و لا جديد لدى العروبة سوى أننا فكرنا بحيل جديد نتحدى بها ما نحن به. يقال أن ايمانويل كانت كان قد قال أن هناك ثلاثة طرق لمواجهة –و دقق قليلاً معي ، مواجهة و ليس التغلب على- صعوبات الحياة و هي النوم و الضحك و الأمل ، انتهينا من التأصيل و لننتقل إلى التمثيل :
-النوم: قد تستطيعه ساعة و أنت جالس على كرسيك و قد تستطيعه مثلي لساعات ثلاث أو أربع و لكن أن تقضي أياماً سبعة تنام على الكرسي فذاك صعب و ليس مستحيلاً
هات الأخرى يا كانت
-الضحك : للناس في ضحكهم مذاهب شتى فهناك من يخبرك أن الضحك بلا سبب من قلة الأدب ،و آخر يخبرك أن كثرة الضحك تذهب المهابة و يقال أن كثرة الضحك تميت القلب و قال أحدهم : كم ذا بمصر من المضحكات و لكنه ضحك كالبكاء و آخر يبكي و يضحك لا خوفاً و لا فرحا
و لكننا ضحكنا كثيراً بلا سبب كالبكاء فقلوبنا ميتة و هيبتنا قليلة و لا نخاف على أنفسنا في العراء سوى الله و الذئب .
إليَّ إذن بالثالثة يا ايمانويل كانت
إنه الأمل يا سادة
أخبرني أبي ذات يوم أن الأمل آخر سهم في جعبة الصياد و أن القناعة كنز الفقراء فبماذا نأمل ؟
نأمل أن ندخل بإذن من دولة ، أن تدخلنا إلى أرض سورية كي نسكن في الخيام و نبرهن لأنفسنا أننا لم نصالح على الدم حتى بدم .
يوم جديد و لقاء جديد مع الجنرال الروسي سيرجيه و عدد من الضباط
سأكون كاذباً إن قلت أن الجنرال كان فظاً بقدر فظاظة ذلك الضابط الذي قال كالنفاثات في العقد :
” ليه ما بترجعوا للشام ؟كل مشاكلكم بتنحل احكو مع اللي ضلو بالشام صار شي عليهم ؟”
و أكمل الجنرال الروسي سيرجيه : لا تقدم في المحادثات بين حكومتنا و الحكومة التركية فيما يتعلق بموضوعكم و لكن تستطيعون تغيير وجهتكم إلى إدلب .
بادرت بالقول : سيادة الجنرال إن قافلتنا تضم أطرافاً سيكون من الانتحار أن تغير وجهتها إلى إدلب و بالنسبة لما طرحه الضابط فإننا ننظر إلى الأمام و لا نريد النظر إلى الخلف زمانياً أو مكانياً ، إننا فيما لو أردنا البقاء فلماذا خرجنا ؟ ما يعرض علينا اليوم بمكرمة عُرض بالأمس بالمجان و لكن بضاعة كهذه كاسدة في الأمس و اليوم و في الغد .
إذن فلنعتبر أننا الآن في حالة مخيم مدولب ؟
قاطعني الجنرال الروسي بالقول .. فوجدتها فكرة بمكانها الصحيح تماماً
فأثنيت على هذا المصطلح و “عليك نور يا سيادة الجنرال” .
يا سيادة الجنرال معنا في القافلة عدد من الفلسطينيين و سيتكلم باسمهم قال أبو بكر – قائد عسكري شاب -للجنرال الروسي سيرجيه و أشار إلي :
سيادة الجنرال نحن الفلسطينيين أبناء قضية كبيرة و ها نحن نتهجر المرة تلو المرة و نحن موجودون في هذه القافلة و بيننا متحدثون بلغات شتى و من لديهم اتصالات بجهات إعلامية عالمية و نحن نضغط عليهم حتى هذه اللحظة حتى لا تتضخم قضية مكوثنا هنا حيث أننا لا نريد لهذه المهزلة أن تتطور فحبذا لو تعمل دولتكم على التسريع في حل هذه المشكلة .
و كانت هذه إحدى الحيل التي تفتقت أذهاننا عنها في الليلة السابقة ، أخذ الجنرال كلامي على محمل الجد و فكر هنيهة ثم سأل : كم يبغ عددكم كفلسطينيين في هذه القافلة ؟
-300
هل توافقون أن نجري اتصالاتنا لنفتح لكم كريدوراً (ممراً)لتعبروا مبدئياً ريثما يتم حل قضية باقي القافلة ؟
- بالطبع لا فنحن معاً نبقى سوياً و ندخل سوية .
أثنى ضباط جيش النظام على ردي !
كيف لا فهم ضباط في جيش عقائدي ! جيش العرب ! و لا يجوز أن يفضل الروسي عربياً على عربياً في الحياة أو الموت
و ليس الفلسطيني أفضل من السوري ليسمح له الروسي أن يعبر باتجاه جزء من الأراضي السورية و لا يسمح للسوري و إن كان من تفرقة فهي من صنيعة الاستعمار و الامبريالية و لكن الروسي ليس مما ذكر ، فطائراتهم كطائراتهم تقتل السوري كالفلسطيني على حد سواء ، و ليس الكريم على القنا بمحرم ِ .
و عدنا إلى مقر تمركز الحافلات بقمحة و شعيرة معاً فتمكنا من الحصول على أغطية تقينا برد الليل و بعض المواد الصحية التي تعهد مسؤول الهلال الأحمر العربي السوري للجنرال الروسي أن يسارع بتقديمها لكل الباصات في قافلتنا ، كما تعهد الجنرال أن يستقدم مطبخاً ميدانياً ليوزع علينا طعاماً مطبوخاً ، في البداية ظننته كاذباً و لكنني انتبهت عندما عدنا إلى القافلة عصر ذلك اليوم من جولة التسوق أن ثمة جلبة عند الحافلات ، فعلمت أن مشكلة قد وقعت عندما حاول الروس توزيع طعامهم و أن الأمر كاد أن يتطور إلى اشتباك بالسلاح فالشعب يرفض الطعام .
يثير بي الاعجاب هذا الشعب في موقف كهذا ، فبين من رفض لعدم رغبته بأي شيء سوى الدخول و بين من رفض لأسلوب التوزيع و بين متشكك أن لحم الخنزير موجود في طعامهم و بين من كان يحاول مع أساليب كانت فلم ينتبه لشيء .
يوزعون لنا خبزاً تختلف تسمياته : مع الحب / روسيا معكم / صدقة جارية .
” يا جار بلاقي عندكم ربطة خبز مع الحب أو روسيا معكم ؟”
ناديت على جار لنا في الباص المجاور .
“ليش شو بتفرق خيا ؟”
“بتفرق كتير فنحن آل البيت لا نقبل الصدقات “
نظر إلي نظرته إلى من فقد عقله ، و أعطاني ربطة خبز دون أن ينظر إليها مع الحب و أكلنا عشاءً لذيذاً و شربنا شاياً ساخنا أعددناه على النار التي جمعنا حطبها أثناء عودتنا من قضاء حاجاتنا الإجبارية .
نعمنا بنوم لذيذ في خيمتنا البرتقالية التي أقمناها في ساعة من ساعات الحماس و البحث عن جدوى ، و زدنا بأن رفعنا علم فلسطين على سارية طويلة احتطبناها من طرف الحقل المجاور و بدأنا نخطط للخطوات القادمة .
علينا أن نرفع صوتنا أكثر ، عليا أن نضغط ، و أن نطرق الأبواب كي لا يقول أحدهم عنا . لماذا لم يصرخوا ؟لماذا لم يقرعوا جدران الصهريج ؟
ماذا نفعل ؟
بدأنا بتصوير بعض المقابلات لايصال حالتنا المزرية و بدأ البعض بتنظيم تظاهرات تجوب منطقة تمركز الحافلات و بدأ البعض بالتواصل مع وسائل إعلام مختلفة ..
نحن قوم نحب الأوهام .. أليس كذلك ؟
و آلية تحول الأفكار من مجرد نظريات إلى مُسلمات تقبل بلا براهين آلية غير واضحة ، و يكفي أن تقول أكثر الأشياء لا منطقية بطريقة منطقية لتصبح منطقية تماماً .
بثثت في أحد الاجتماعات أننا إن بقينا مدة طويلة هنا فمن الممكن أن تتدخل دول عديدة ليس فقط لإدخالنا نحو مقصدنا بل لنقلنا إليها و استقر رأيي على كندا .. الجماهير بحاجة لغذاء سايكولوجي حاجتها للغذاء الفيزيولوجي و لإبقاء الآراء متفقة فأنت بحاجة إلى صمغ.
هذا الصمغ قد يكون المهددات و الأخطار ، و في حافلاتنا قوم رأوا بأم أعينهم الخطر أكثر مما رأوا أقاربهم و أهليهم في السبع سنوات الماضية فلا يوجد ما يخيفهم ، فكان الصمغ هو الإغراء بما هو أفضل بكثير مما يتوقعون .
“ولك اسكتوا حاج نق .. ادعو لله انو نضل هون وقت طويل ، كندا عم تحكي فينا “..
عم تحكي فينا ؟؟ هذه جملة تستخدم في من يتقدم لخطبة فتاة ما و لكن نحن بغايا مثلك سيدتي ما بعنا سوى اللحم الفاني و البعض يبيع اليابس و الأخضر . هذا كذب ليس كالكذب .
تجدد لقاءنا مع الجنرال الروسي سيرجيه و الضباط و كرر علينا أن لا جديد و أن الأمر قد يزداد تعقيداً إذ أننا قد نكون ورقة على طاولة المفاوضات بين الدول الضامنة لمؤتمر أستانا و أشار علينا أن نضغط على الأطراف السورية الموجودة في وجهتنا لتضغط على الحكومة التركية علها تسمح لنا بالدخول ، و جددنا تأكيدنا أن خروجنا من الجنوب كان بناءً على تعهد روسي بإيصالنا بأمان إلى وجهتنا و أن هذا إخلال بالتعهدات ، فأشار الجنرال الروسي بكلتا يديه إلى خلف رقبته و قال : نحن لسنا فرحين بوجودكم هنا لا بل أنتم حمل زائد و عبء علينا و نتمنى أن تُحل مشكلتكم بأقرب وقت فلا تعتقدوا أننا نعرقل دخولكم .
لست أؤمن بعدو صادق و لكنني أقول أنني صدقته حينها ، و إذ ذاك التفتُّ تجاه ضابط برتبة عميد و قلت له على غير عادتنا فنحن نتحاشى الخطاب مع ضباط جيش النظام
- هل تراه أمراً طبيعياً يا سيادة العميد أن نفاوض الروس ليضغطوا على الأتراك ليسمحوا لنا بالدخول إلى مناطق سورية ؟
- و الله قمة العار .
ممممم لا أشك أنني أردتُ معنى و أراد الضابطُ معنىً آخر .
أشار الجنرال الروسي لضباط النظام بطرف يده أن غادروا مكان الاجتماع ، هممنا بالانصراف فقد فهمنا أنها إشارة منه بانتهاء الاجتماع
لكنه استوقفنا و قال المترجم : يريد الجنرال الحديث معكم على انفراد
- هل عرض عليكم أحد من هؤلاء الضباط العبور مقابل مبلغ تدفعونه للحواجز و ذلك عبر الهلال الأحمر ؟
- أشرنا جميعاً أن لا
و دار بيننا حديث بالعموميات و تكرار للأحاديث التي أصبحت كاسطوانة مشروخة .
- لا بأس و هكذا نستطيع انهاء الاجتماع , أشار الجنرال
ماذا يريد الجنرال ؟ استوقفنا ضباط النظام و لكننا اكتفينا الابتسام مع إجابة أنه لا شيء مهم في الحقيقة .
إنهم يشعرون بانتقاص القدر و القيمة ؟
رمى ليونايدس رمحه على كسرى ليخدش خده و يهتف بعدها بأعلى صوته :
أرأيتم ؟ إنه ليس إلهاً !
و قد قام الجنرال الروسي بخدش خدودهم و مشاعرهم و كرامتهم و كبريائهم أكثر من مرة في حضورنا ، و لست أنسى حين اختلى بنا أحد هؤلاء الضباط ، فقال بحماس :” لك نيال ربكن ! دخيل ربكن ! بتقولو اللي بدكن ياه ، أخو هالشرموطة حرق البلد ليضل على كرسيتو !”
عدنا إلى مقر تمركز الحافلات بالأخبار السيئة ، و بدأ التململ و الاضطراب في صفوفنا، فنحن لسنا جميعاً كما نحن دائماً أبداً سرمداً، متفرقون و لسنا على قلب رجل واحد .
البعض حسموا خياراتهم بتغيير الوجهة إلى إدلب و البعض قرروا العبور الى الجهة المقابلة بدون أمتعتهم و بدون أي تصريح لذلك و البعض و نحن منهم قررنا البقاء ريثما تُحلُّ القضية ، قضينا الليلة على أخذ و رد و أن الأمر لن يطول و أننا لا محالة داخلون و لكن هذا رأينا و ليس رأي النساء و الأطفال الذين لهم الأفضلية و الأولوية عند اتخاذ قرار كهذا و نمنت على قلق .. كأن الريح تحتي .
جُهزت قوائم الراغبين بالاتجاه نحو إدلب و انطلقنا إلى جلسة التفاوض اليومية لنخبر الجنرال برغبة البعض منا بالاتجاه نحو إدلب و استلم الجنرال القوائم و بدأنا نقاشاً حول الضمانات على الطريق و خط سير الرحلة و القرى التي قد يصدر عنها تهديد للقوافل و شيء كهذا .
اعتدنا خلال الأيام السابقة أن يأتينا اتصالات من جهات عديدة أنكم اليوم لا بد داخلون ، فلذلك لم يكن ذا أهمية أن يأتي اتصال لأحدأعضاء وفدنا أن استعدادات ادخالنا النهائية قائمة الآن ، ثم جاء اتصال ثانٍ فثالث ثم اتصال بمندوب الهلال الأحمر و تأكد الأمر و الجنرال الروسي ينظر بحيرة إلى الحماس الذي ارتسم علينا .
عدنا إلى المخيم المدولب بعد مصافحتنا لهم فإذا به خلية نحل فالجميع يعيد توضيب أغراضه و عدنا لنتحول إلى جملة اعتراضية لامحل لها من الإعراب في هذا المكان ذو الاسم الغريب ..
معبر أم الزندين ؟ أيصح أن يكون للمرأة زنود بارزة ؟ أليست الزنود وصفاً للرجولة ؟ لا خلاف فكل شيء مقلوب هذه الأيام حتى الأجواء غريبة علينا و لن أستغرب أن تشرق الشمس غداً من المغرب .
تحركت الحافلات و أضعت أم قططي الصغار التي قضت كامل فترة بقائنا في المخيم المدولب معنا .. لعل المكان أعجبها ؟ لعلها تمردت ؟ لا عجب فللنساء زنود في هذا المكان .
بدأ التحرك بطيئاً ثم انطلقت الباصات و لاح في البعيد العلم .
طوبى للعلم
طوبى للحرية
عبرنا آخر نقطة للنظام و نزلنا من الباصات و بدأنا نعانق بعضنا و نضحك و نبكي كأننا لم نلتقي منذ سنوات نحن الذين كنا من دقائق مع بعضنا ، جاء أصدقاؤنا السابقون الأولون و عاد اخضرار القلب
تغير كل شيء و حتى الهواء صار منعشاً للرئتين منفتحاً على المدى معطراً بحرية الهبوب .
الخيمة بانتظارنا ؟ و ليكن
تذكرت مرة حين هددتهم بأنهم إن تعرضوا لنا فإننا سننفجر
نحن الذين لا يأبه لنا أحد
نحن الذين تُركنا لأيام طويلة فيما ظننا أنه الأعراف
نحن الذين لم يعد لدينا ما نخسره و لكنني كنت أكذب
لدينا الكثير لنخسره و لكن عليك أن ترى ..
هي أشياء لا تشترى .