متعة العيش الرغيد

حواجز في كل مكان. عناصر تقتحم عليك خلوتك لتتأكد من بطاقة هويتك. جواسيس يتحسسون أولى بوادر التمرد. تقارير لا تتوقف. أجهزة تنصت واستشعار فائقة التطور. فرق مكافحة الشغب. قوات التدخل السريع. حظر تجول شامل. فرض حالة الطوارئ. أرشيف هائل يحوي كامل المعلومات عن كل فرد. جيش نظامي وآخر احتياطي جاهز للاستنفار في أية لحظة. عتاد عسكري من الطراز الأول.
لا أتحدث عن الاستخبارات والأمن والأنظمة العسكرية القمعية، بل عن شيء يسميه علماء الفيزيولوجيا: جهاز المناعة. لذا لا يعد العيش داخل جسد بشري أمرا مريحا، حتى بالنسبة لفيروسات من طراز كوفيد 19، أو لأرواح هبطت من المحل الأرفع واستقرت في دنس الجسد المادي ووحله. إن كان لا بد أن تكون شيئا داخل شيء، فلتكن مثلا سلكا من التنچستن يعيش في لمبة.
وعلى الرغم من كل ما سبق، فقد تحدث خروقات. كأن تستولي جراثيم تفترسك فتقضي صريع إنتان ما، أو تنجح بعض الخلايا في انقلابها وتؤسس حكمها المستقل فنسميها سرطانا. وربما ينهار جهاز مناعتك هذا، كما يحدث في الإيدز، فيمكن حينها لقشرة موز أن تقتلك. وقد يصاب هذا الجهاز برد فعل هستريائي، بجنون وريبية مطلقين، فيقرر هدم المعبد على من فيه، حتى لو كان المعتدي قرصة من نحلة أو قطعة من الشوكولاتة. من يرغب منكم في أن يكون مصيره كذا أو ذاك؟ من منكم يرغب في أن يقول له أحدهم: “أنا سرطان ينهشك، چنچرينا تأتكلك، حمى تشويك، عصيات سل تنخر فيك، ديدان تلتهم طعامك وتمص دمك، انهدامات تصيب عمودك الفقري وتهده كبرج التجارة العالمي، ألزايمر يُخرفك لكيلا تعلم بعد علم شيئا”؟
لذلك نستسلم لجهاز المناعة، لمعادلة “الأمن أو الحرية”. لذلك يستخدم رأس النظام تعبير الجراثيم والتطهير والدم على بجامة الجرّاح والعلاج الكيميائي. هو طبيب. ويفهم أكثر منكم أيها الرعاع فيزيولوجيا الكائنات الحية، ومتطلبات البقاء… على الكرسي.
كانوا فيما مضى يتحدثون عن القائد الأب، ومن ذا الذي يثور ويتمرد على أبيه غيرُ ابن ضال؟ وكانوا فيما مضى يتحدثون عن كبير العيلة، وأي فلاح أصيل ذاك الذي يخرج على تقاليد العائلة ويعصي “أبا الحَج”؟ وكانوا يتحدثون عن الملهم، والنجم المضيء، ودانوب الفكر، والأب الرحيم لشعوب الأرض… ومن ذا الذي يود أن يكون بلا إمامٍ تائهاً في الظلمات والقحط والقسوة؟ لكن ذلك زمن مضى. نحن الآن في زمن جديد، ولا بد من لغة جديدة: المرض، والطبيب الذي سيخلصنا منه.
وبين عشية وضحاها، تفشى الوباء في صفوف أبناء الشعب. وصار مطلوبا منك أن تختار بين عَلَمَين: فتاة ظريفة شهية تود مفارشتها وهي تقول لك بغنج: “سوريا عيونا خضر”، وطفلٌ حريقٌ تود التحليق به وهو يبكي عاجزا عن النطق: “سوريا عيونها دامية”. عموما لا أحب العينين الخضراوين رغم قول درويش:” لخضرة أعين الأطفال ننسج ضوء رايتنا”، كما لا أحب حمرة الدم بالرغم من مهنتي، أو ربما بسببها; وبالرغم من حلم قديم كان يراودني بإشراقة النجمة الحمراء في سماء بلادي، لكن اللغة العربية ترفض تأنيث النجم. لو كان لي أن أختار لونا لاخترت زُهد الخريف. العَلَم راية، والراية رمز، وكنت ضد فكرة تغيير العلم من الأصل. لكن من أنا؟ أما وقد حدث، فحكما أنا مع علم الألم، والدم، والثورة، والاستقلال، والحرية الحمراء: “كل القلوب حمرا الليلة”. وعلى أي حال، كما أومأ درويش: “ستحسن صنعا لو اخترتَ يا شعبي الحي رمز الحمار البسيط”. الحمار كما في “غبي” أم الحمار كما في “صبور”؟ لعله كان يقصد الحمار الأمريكي الديمقراطي. أمريكا نفسها التي توعد درويش بأن نحفر ظلنا ونشخ مزيكا على تمثالها؟ نعم! نفسها، ثم مات في أحد مشافيها.
وكانت استراتيجية القيادة في مواجهة هذا التحدي الطبي واضحة ودقيقة ومفصلة، فقد كانت تستند إلى تقرير واضح ودقيق ومفصل كان موضوعا على مكتب السيد الرئيس صبيحة أحد أيام عطلته. ونحن هنا ننقله بالحرف حفاظا على المصداقية، وبوصفه وثيقة هامة من وثائق التاريخ تنضاف إلى إعلان حقوق الإنسان مثلا أو مجلدات الرفيق “أنور خوجة” السبعين:
“تحية عربية
انطلقتْ احتجاجات فردية محدودة على شكل مظاهرات حاشدة ملأت الشوارع والساحات. وكانت الاحتجاجات عفوية مدفوعة بإملاءات خارجية، وممولة من سفارات عربية وأجنبية، ومخططاً لها من أجهزة استخبارات عالمية. ولم يكن لهذه الاحتجاجات أي مطالب واضحة سوى الدعاء بسقوط المطر والدعوة لإسقاط النظام. وكانت تهدف إلى تمزيق وحدة التراب والنسيج الوطني تحت شعار “الشعب السوري واحد”. وتنادي بالحرية، علما أنها ثاني ثالوث أهداف حزبنا المقدس، وأننا نتمرغ في وحلها منذ أربعين عاما على الأقل، ولا نعرف لها تعريفا إلى الآن. ولا بد من التذكير هنا أن سيادته عند ابتداء ما سُمي زورا الربيع العربي ضحك حتى احمرت إليتاه الشريفتان من احتمال امتداده إلى عرينه ومزرعته. لذا كان خروج تلك الاحتجاجات غير المفهومة مفاجأة كبيرة لنا، علما أننا كنا على علم بكامل تفصيلات المؤامرة قبل الشروع بتنفيذها بسنوات. ولم يكتف مثيرو الشغب بامتشاق الورود الجورية، بل إنهم سطوا على بعض مخزوننا من غاز السارين الذي لا نمتلكه، وارتكبوا مجازر مكشوفة متنكرين بخوذ بيضاء.
وقد اتفقت أجهزة مخابراتنا ومعظم علماء ديننا الأجلاء على تكفير المحتجين الذين أظهروا ازدراءهم الشنيع لتعاليم دين الأكثرية عندنا، بدءا من خروجهم من المساجد، وإطلاق لحاهم مصحوبة بهتافات التوحيد والتكبير. ولم يعد ممكنا السكوت على كل تجليات الإسلاموفوبيا هذه المستوردة من منظومات غربيّة غريبة على قيمنا وثقافتنا وديننا الحنيف.
وقد أدى تدني الوعي لدى قطاع كبير من أبناء شعبنا إلى انجراره وراء الشعارات الخادعة التي رفعها المتآمرون. لكن تدني الوعي هذا هو الذي سيكفل لنا إلحاقَ الهزيمة النكراء بالمخربين، وإزهاقَ المؤامرة الكونية.
ولما كان جيشنا العربي السوري جيشا عقائديا محترفا، فهو قادر وحده على إنجاز هذه المهمة الجسيمة، لذا سندعو كل من دب على وجه الأرض فهو دابة من حلفائنا وأصدقائنا وداعمينا للمشاركة بكامل قوتهم العسكرية في هذا العرس الكبير.
والخلود لرسالتنا”.
وخلدتْ الرسالة، وهُزم شعبنا. ولم يمنعني ما بقي من حياء لدي من استراق السمع إلى امرأة وزوجها في مكان ما يتبادلان حوارا حميما بالفصحى:
– وحين تصبح ثَرياً؟
– سأشتري لكِ القمر.
– قمرَنا؟
– على الأقل هو قمر نعرفه وابن حلال.
– وماذا أصنع به؟
– شتى الخسوفات: خسوف كلي، خسوف جزئي، خسوف موزي، خسوف له أنف ناقة أو عرف ديك أو عنق زرافة، خسوف أخلاقيّ… وحين تشعرين بثقل حياتك، تستطيعين القفز عليه مثل كنغر.
– يبدو هذا مسليا، لكنني الآن جائعة.
– أوَ لم أخبرك؟ بوسعك زراعته. يقولون إن تربته ومناخه يصلحان لاستنبات الجبنة والمعكرونة.
– طبق لذيذ! لكن مساحته كبيرة علي.
– قومي باصطياد بعض الأوروبيين، هناك عدد كبير منهم. سيعملون لديك عبيدا، لكنك ستخبرينهم أنها مزارع تعاونية.
– أليست هذه عنصرية؟
– يراها بعضهم نوعا من العدل الفضائي.
– هل كان القمر إلهاً للعدل عند أحد الشعوب؟
– آلهة العدل لا تكاد تحصى، لكنها جميعا عاطلة عن العمل.
– وكيف تمضي وقتها؟
– تروي حكايات، مثلنا.
– إني أرى الحدود التركية من هنا.
– هذا مجرد وهم يا حبيبتي، أنت مثل طفل يمد يده ليقبض على القمر.
– قمرِنا؟
– قمرُنا لنا وحدنا.
– من تقصد بنا؟
– أنت وأنا والطائرة التي تحلق فوقنا.
– وشعبنا؟
– مشغول بمحاولته نيل جائزة نوبل في الاقتصاد.
– وكيف يفعل ذلك؟
– يطلق حملة مسبوقة بوسم “ليرتنا عزتنا”، وفجأة يتغير كل شيء نحو الأحسن.
– ألسنا نخلق العالم بالكلمات؟
– ربما الله وحده من يفعل ذلك، أما نحن فنخلق الكلمات لتخنقنا.
– مثل أزيز الرصاص الذي حولنا؟
– ذاك صوت صرار الليل، سألتك مرارا أن تكفي عن مشاهدة أفلام الحروب.
لوحة Luxuria للفنان Peter Howson