ذاكرة شخصيه بورتريه

الوعد

(1)

لم يكن سهلاً القيام بمثل هذا العمل. لقد جرت الأحداث بشكلٍ مختلفٍ تماماً. من واجبنا أن نعلّمهم أنّ النهايات السعيدة متروكةٌ للاحتمالات.

في يومٍ هادئٍ وجميل، جلس نوّار مع ابنة عمّته روزا، على بساطٍ قرمزيٍّ فوق الأعشاب التي افترشت الأرض بين الأشجار التي تظلل ركناً من حديقة تشرين في مدينة دمشق يتبادلون أحاديث شتّى.

اقتربَ نوّار من أمّه التي كانت تجلس على مقربة منهما، وقال: كم أحبّ أن أكون دائماً معك، فأنتِ والأماكن الجميلة تجلبون لي السعادة والأمان. ابتسمت خديجة واحتضنت نوّار وهي تقول: أنا معك دوماً يا حبيبي، وأتمنّى أن أراكَ سعيداً ومثابراً في كلّ ما تقوم به. الحياة رائعةٌ وعلينا جميعاً أن نستمتع بجمال الطبيعة وفتنتها الخلّابة. الحياة تستحقّ أن نعيشها بفرح. الاستمتاع بالجمال يا ولدي ضروريٌّ ومفيد، ومن المهمّ أن نعرف كيف نستغلّ الوقت وألا نهدره.

اقتربت روزا منهما فمدَّ نوّار يده لمصافحتها ونهض.

– سنعود سريعاً يا أمّي.

– انتبها لنفسيكما ولا تتأخّرا، قالت الأمّ وهي تحيطهما بنظراتها وحبّها الكبير.

– نصف ساعة على الأكثر، قال نوّار وهو يفيض حيويةً ونشاطاً.

كانت الفرحة تغمر قلب الأمّ وهي ترى الطفلين تغمرهما السعادة وتطوف حولهما.

كانت الساعة تدنو من العاشرة ليلاً حين غادروا الحديقة مستقلين حافلة الركاب باتجاه ركن الدين.

في كلّ عام تزور روزا دمشق مع عائلتها وتمضي بعض الوقت مع نوّار والعائلة وتنشر الفرح في أنحاء البيت الكبير بحركاتها وابتسامتها الجميلة.

– في العام القادم حاولي المجيء مباشرةً بعد انتهاء الامتحانات، قالت خديجة وهي تحتضن روزا بحنان.

– لا أدري بالضبط، ربّما في العام القادم سنذهب أوّلاً إلى اللاذقية وبعدها إلى الشام، هذا ما سمعته من والدي قبل مجيئنا بأيّام.

في تلك الليلة، بدأت خديجة تحكي قصةً للطفلين تلبيةً لطلب نوّار، تدور أحداثها حول النجمة والقمر وعمق الصداقة التي تربط بينهما، ومع الأرض أيضاً.

– آهٍ يا أمّي لو تعلمين كم أحبّ الاستماع إليك وأنت تتحدّثين عن المقالب التي تصنعها النجمة مع القمر وخاصّة زيارتها له في ذكرى يوم ميلاده!

ضحكت الأمّ لشغف نوّار وحبّه للقصص التي نسيت بعضاً من تفاصيلها. كانت تقصّ ما تتخيّله من أحداث وكان من الصعب عليها تكرارها أثناء الإعادة.

– ماما، أعرف أنّكِ تؤلّفين هذه القصص، وعند إعادتها تنسين بعض التفاصيل، ولكن هذا لا يهمّ، فأنا أتذكّر جيداً كلّ الأحداث في القصّة.

ربّتت خديجة على كتف ولدها وهي تقول: سأقصّ عليك اليوم أيضاً قصّة الحصان الجامح.

– وهل هناك مقالب في القصّة؟

– أجل؛ حكاية حصان العم كريم كلّها مقالب.

اقترب نوّار من أمّه ووضع رأسه على صدرها، فلفّته بذراعيها وكأنّه مولودٌ جديد.

– أصبحتَ الآن تلميذاً مُثابراً وعليك أن تعتاد قراءة الكتب والاستمتاع بها، وإن صعب عليك الأمر واحتجت إلى شيء فأنا حاضرةٌ لتقديم المساعدة.

– بالتأكيد سأقرأ يا أمّي، ولكنّ سماع قصّة جميلة منك تفرحني أكثر وأستطيع ليلتها أن أحلم بتفاصيل مقلبٍ جديد للنجمة، أو ربّما بحصان العم كريم.

كان نوّار شديد التعلّق بأمّه، لا لكونها أمّه، بل لأنّها تعلمّهُ كلّ ما يخطر على بالها من خلال سرد القصص والحكايات، وتوجيه اللعب نحو التعلّم لزيادة معلوماته في مجالاتٍ مختلفة. كانت خديجة مقتنعةً بأنّ علاقة الأمّ بالأبناء تفوق الرعاية وتقديم المأكل والملبس، أو حتّى الخروج معهم للتنزّه واللعب، وإنما تتعدّى ذلك لتصير صداقةً متينةً مبنيةً على تقديم الدعم الكامل للأبناء، والتفاهم، وحبّ المعرفة.

لطالما حدّثها عن كلّ ما يتعلّق بحياته، سواء في المدرسة أم في البيت، وعن علاقاته الواسعة مع رفاق المدرسة وأولاد الجيران. كان أمامها كصفحات كتاب مفتوح، فهي كانت تعرف عنه كلّ شيء تقريباً، وكانت تفرح بانسجامه مع الأصدقاء وأطفال الأقرباء والجيران، وتمسّكه بكلّ ما كان مثيراً للبهجة.

(2)

تأخّر الوقت حينما كان نوّار مُنهمكاً في رسم اللوحة المعلّقة على الجدار. تقدّمت منه الأمّ وهي تقول: يجب أن تكون نائماً في مثل هذا الوقت. هيّا اغسل أسنانك وقدميك وتهيّأ للنوم، وأكمل رسم اللوحة غداً.

– وهل ستحكين لي قصّةً جديدةً؟

– أشعر بالتعب يا حبيبي، غداً سأروي لك قصّتين.

– لست موافقاً، فأنا لا أستطيع النوم دون سماع إحدى قصصك، ثم أضاف وهو يبتسم: كيف أخلد للنوم دون أن تمسّد أصابعك شعر رأسي؟

– حسناً، سأمسّد شعرك، وسأروي لك قصةً جميلة، لكنها ستكون قصيرةً إلى حدٍّ ما، فكما أسلفت، أنا مرهقةٌ اليوم، وعليّ الاستيقاظ باكراً.

كان جميع أفراد العائلة الكبيرة مجتمعين على سطح الدار، بينما كانت الأمّ تروي قصّتها في الشرفة الواسعة التي تطلّ على جزءٍ كبيرٍ من المدينة، حيث ينام نوّار مع أخويه بشّار ودلير طوال فصل الصيف.

كان ياما كان، كان في قديم الزمان طفلٌ يعيش حالة خوفٍ دائمة، اسمهُ عدنان. لم يخرج في الليل إلى أيّ مكانٍ على الإطلاق، ولم يمشِ في الظلام أبداً، ولشدّة خوفه لم يغادر المنزل وحده قطّ. فكّرتْ أمّه طويلاً في حلول وطرق قد تساعده في التخلّص من خوفه وقلقه المستمرّين. في يومٍ من أيّام الشتاء، كان البرد شديداً، والمطرُ ينهمر بغزارة، والساعة تقتربُ من السابعة والنصف مساءً. استلقت الأمُّ على سريرها وبدأت تتأوّه مدّعيةً المرض. خاف عدنان على أمّه كثيراً. كان الأب خارج البيت وأخته الصغيرة تلعب قريباً من سرير أمّها. طلبت الأمّ من عدنان أن يذهب إلى بيت عمّه أبو علي القريب من بيتهم.

– أشعر بتوعّكٍ في صحّتي ولا قدرة لي على النهوض يا بنيّ. اذهب وعد بسرعةٍ مع أم علي.

وقف عدنان عاجزاً، وبدت عليه علامات الاضطراب. كيف يخرج إلى الشارع في مثل هذا الوقت والمطر يهطلُ بغزارة والشوارع شبه معتمة؟

– ربّما تحتاج أمّي إلى دواء، أو ربّما لا تستطيع شرح مرضها لي ولذلك تطلب مجيء أم علي. دارت أسئلةٌ كثيرةٌ في خلده.

لاحظت الأمّ ارتباك ابنها، فقالت له: هيا يا حبيبي، البس معطفكَ المطريّ، وأسرع إلى بيت عمّك.

لم يستطع عدنان الرفض. لبسَ معطفهُ وهو في حالةٍ من القلقِ والحيرة.

– أسرع يا حبيبي، الوقت يداهمنا.

لم يستطع عدنان أن يقول شيئاً. أشعل نور السلّم بعد أن وضع قدميه في الحذاء بشكلٍ سريع، ونزل درجات السلّم على عجالة محدثاً بعض الضجيج في محاولةٍ لتبديد مخاوفه قبل التهيؤ لمغادرة البيت. بعد الخطوات الأولى شرع يركض باتجاه بيت عمّه الكائن في نهاية الشارع. في هذه الأثناء اتّصلت الأمّ بأم علي وأخبرتها بكلّ شيء، وطلبت منها أن تعتذر من المجيء لكونها هي الأخرى مريضة.

ما هي إلا دقائق معدودة ورنّ جرس بيت أم علي. فتح علي الباب لعدنان، فدخل وهو يلهث: أين والدتك؟  تفضّل إنّها في غرفتها. دخل عدنان الغرفة ورأى أم علي طريحة الفراش وكأنّها تعاني من مشكلة صحيّة. بعد أن أخبرها بطلب أمّه اعتذرتْ أم علي وقالت له: سأمرُّ عليها غداً أو بعد غد. اليوم لا أستطيع مغادرة الفراش، أشعر بآلامٍ قويّةٍ في معدتي. سلّم على أمّك واهتمّ بها.

في اليوم التالي هيّأت الأم خطّةً أخرى بينها وبين جارتها أم سليمان، إذ قامت الجارّة بإطفاء أنوار بيتها وأغلقت الباب متظاهرةً بضياع مفاتيحها. جاءت الجارة إلى بيت أم عدنان وطلبت من عدنان أن يصعد إلى السطح، ويقفز إلى سطح بيتهم وينزل عبر السلّم كي يفتح لها الباب. وقف عدنان مذهولاً أمام هذه المهمّة التي بدت له مستحيلة.

قالت الأمّ: هيا يا ولدي ساعد جارتنا. هيّا يا بطل!

– ولكن يا أمّي كيف أنزل؟

تلمّس الجدار وستجد قرب الباب زرّ الكهرباء، ومن ثم أشعل النور وانزل بهدوء. هيّا إنّها تنتظرك.

لم يرغب عدنان في أن يخيّب أمل أمّه، أذعن للأمر وصعد إلى سطح البيت، تسلّق الجدار الواطئ الفاصل بين البيتين، وتمكّن من الوصول إلى السلّم. الظلامُ يخيّم على البيت. لم يتمكّن من رؤية أيّ شيء باستثناء بعض الضوء الخافت القادم من الشارع عبر النافذة الزجاجيّة المقابلة للسلّم. تلمّس الحائط بيده المرتجفة باحثاً عن الزرّ الكهربائي، ولشدّة خوفه أغمض عينيه ونزل بهدوءٍ حتى وصل إلى باب البيت. فتح الباب، وهو يرتعش، فوجد الجارة تنتظره مع طفلتها في الخارج. شكرته الجارّة ووصفته بالبطل. أعجبهُ الوصف كثيراً، ولعلّ هذه الكلمة هي التي بدأت تنتزع الخوف من قلبه فيما بعد.

بعد تلك الحادثتين راحت الأمّ تقصّ على عدنان حكاياتٍ تدور أحداثها حول أطفالٍ شجعان، محاولةً إفهامه بأن الشجاعة والحذرمن سمات الأبطال.

قال نوّار مبتسماً: وهل تقصّين علي مثل هذه الحكايات كي أصبح أكثر شجاعةً ممّا أنا عليه الآن؟

لم تجب خديجة على سؤاله مباشرةً، ولكنّها نعتته بالولد المُطيع والشجاع، وواصلت كلامها: مساعدة الناس وتلبية طلباتهم من صفات الإنسان الطيّب. والآن حان وقت النوم. هيّا إلى فراشك يا بنيّ.

اقترب نوّار من أمّه وقبّلها من رأسها، فاحتضنته وقبّلته من جبينه، وقالت: تصبح على خير يا ولدي. غطّته جيّداً ثم خرجت بهدوء.

في اليوم التالي، كان نوّار مفعماً بأريج الصباح، وكعادته كان يقترب من أمّه ويقول لها هل ما زالت رائحتي طيّبة؟ ردّت الام: نعم يا حبيبي ما أزكى رائحتك حين تستيقظ من النوم! إنّك تنفرد بهذه الرائحة دون الجميع. اغسل وجهك وتعال قبل أن يبرد الحليب.

لم يكن نوّار يحبّ تناول طعام الإفطار، ولكنّ إصرار خديجة على تناوله لكأسٍ من الحليب مع سندويشةٍ صغيرة جعله يذعن لطلبها، أو ربّما فهم أهميّة تناول الإفطار في الصباح للحفاظ على نشاطه وحيويّته طوال اليوم.

(3)

انقضت العطلة الصيفية بسرعة وعاد الأولاد إلى مدارسهم، كان عليهم العمل بجدٍّ لإنهاء واجباتهم المدرسيّة، وكان نوّار، الابن الأصغر في العائلة، محطّ اهتمام ورعاية الجميع.

في يوم الجمعة الأوّل من العام الدراسيّ، وبعد تناول طعام الغداء، ارتمى الوالد على الأريكة لينال قسطاً من الراحة، بينما دخل نوّار غرفته التي يتشارك فيها مع أخويه. جلس خلف الطاولة، حرّك بعض أقلام التلوين المبعثرة عليها بيده اليمنى مفكّراً في كيفية ملء وقت فراغه لحين عودة دلير الذي يكبره بثلاث سنوات. تناول ورقةً بيضاء وأفرغ بعضاً من الألوان المائيّة في منتصفها، ثم طوى الورقة وأخذ يمرّر المسطرة عليها بلطف حتى انتشرت الألوان داخلها، ثم فتح الورقة فأظهر تمازج الألوان أشكالاً متناظرةً زاهيّة الألوان. لم يستغرق الأمر أكثر من دقائق معدودة، ولكنّ النتيجة كانت مذهلة. أحبّ نوّار هذا النوع من الهوايات، كان يرسم معايداتٍ بألوان هادئةٍ لتقديمها للأهل والأصدقاء في الأعياد والمناسبات الخاصّة، وكان يهتمّ بما يرسم ويكتب ويحتفظ بها داخل خزانته الخاصّة بحرصٍ شديد.

وضعت خديجة يدها على كتف نوّار وخاطبته: لقد غدوت في الصفّ السابع، أخوتك يعتمدون على أنفسهم في كلّ شيء تقريباً، لذا حاول أن تكون مثلهم.

– بالتأكيد يا أمّي.

– والآن، تعال معي أريد أن أتحدّث معك عن بعض الأمور الخاصّة بك.

– ما الأمر يا أُمي؟

مسكت الأمّ يده وخرجا متوجّهين إلى الشرفة الأماميّة للبيت.

– هل تتّفق معي على أنّ خطّك يحتاج إلى مزيدٍ من العناية والإتقان؟ هناك دورّةٌ لتعليم الخطّ العربيّ ستبدأ بعد أيّام، ما رأيك في تسجيل اسمك مع الطلبة الآخرين؟ أعتقد أنّها ستفيدك كثيراً.

– نعم، أعرف ذلك يا أُمّي، وفي مدرستنا أيضاً ستبدأ الدورة بعد أيّام، وسأُسجّل اسمي فيها.

– هذا خبرٌ جميل. أريدك أن تكون مبادراً وفعّالاً في معالجة كلّ شيء، ونحن في البيت جميعنا معك.

– أمّي.. أريد أن أشكرك على اهتمامك بكلّ تفاصيل حياتنا.

– هذه مهمّتي يا صغيري.

– أمرٌ آخر؛ مساء أمس كنتُ جالسةَ في غرفتي أقرأ، فوجدتُ أزهار الياسمين المجفّفة بين صفحات الكتاب، فعرفتُ في الحال أنّك من وضعها. تبهجني جدّاً باقاتك الصغيرة بين الفترة والأخرى، ولكنّي لم أسألك سابقاً عن كيفيّة جمعها. هل تقطفها يا نوّار؟

– لا يا أمّي، إنّها متناثرة على الرصيف قرب مدرستي. صديقي محمّد هو الآخر يضع الياسمين بين صفحات كتبه فهي على حدّ قوله تجعل رائحة الورق زكية، وأنا أنثرها هنا وهناك، وأقدّم بعضها لك.

احتضنته خديجة بعد أن شكرته على مبادرته الرائعة.

– نسيت أن أخبرك شيئاً يا أُمّي!

– ماذا هناك؟

– صديقي محمّد في المستشفى منذ ليلة أمس. إنّه يعاني من تحسّسٍ في صدره.

– منذ متى؟

– لا أعرف التفاصيل. سأزوره مع بعض الأصدقاء غداً.

– هل تحتاج نقوداً؟

– لا شكراً، لديّ ما يكفي في حصّالة نقودي. سنشتري له هديةً مشتركة.

– حسناً يا ولدي. انقل له تحيّاتي. أتمنّى له الشفاء العاجل.

(4)

بعد عدّة أيّام، وأثناء اجتماع العائلة في غرفة المعيشة بعد العشاء، أطفأت خديجة جهاز التلفاز وطلبت من الجميع الانتباه إلى ما ستقوله.

– كما تعلمون، سأسافر بعد غدٍ إلى العراق لأرى أهلي. لن أغيب طويلاً، ستكون رحلةً لأسبوعين لا أكثر. لقد هيّأت كلّ ما تحتاجونه من ثيابٍ نظيفة، وقد ملأت الثلاجة بما يكفيكم من الطعام لعدّة أيّامٍ قادمة. غداً سأكمل توضيب أمتعتي وسيرافقني والدكم إلى مركز انطلاق الرحلة. طبعاً جدّتكم ستساعدكم في كلّ شيء، ولكن عليكم مساعدتها في الأعمال البيتيّة، فالبيت مسؤوليّة مشتركة. سأتّصل بكم من هناك كلّما سنحت لي الفرصة. ما زالت السنة الدراسيّة في بدايتها لذا عليكم بالاجتهاد والمثابرة منذ الآن حتى لا تتراكم الدروس عليكم. سأوصيكم بأمرٍ أخير اهتمّوا وأحبّوا بعضكم البعض، وكما تعرفون ستحين ذكرى ميلاد نوّار بعد أيّام، لكنّه طلب منّي أن نؤجّل الاحتفال بذلك إلى حين عودتي كي يكون “العيد عيدين”، فما رأيكم؟

قال بشار: لا فرق لدينا، فليكن ذلك.

– إذن سأجلب له هديّةً مناسبةً من العراق.

ابتسم نوّار حين سمع الجملة الأخيرة، وأضاف: شرط أن لا تتأخري أكثر من أسبوعين.

– أعدك بذلك، قالت خديجة وهي تنظر إلى الجميع بكثيرٍ من الحبّ والحنان.

دارت أحاديث كثيرةٌ في تلك الليلة حول الأهل في سوريا والعراق، وفجأةً نهض نوّار وقال: سأكتب رسالةً إلى خالتي أمّ مخلّد، وأخرى لمهنّد وحنين وسأرافقُ أبي إلى الكراج لتوديعك يا أمّي.

– لكنّ والدك لن يعود إلى البيت، سيذهب لعيّادته، ولا أريدك أن تتأخّر عن واجباتك,

– سأتّفق مع أبي، فقط وافقي، أرجوك يا أُمّي.

يوم سفر خديجة إلى العراق ظلّ نوار مبتهجاً طوال الوقت محاولاً إدخال الفرح إلى قلب أمّه التي كانت تنظر إليه مفعمةً بالثقة والإعجاب، وظلّت تلازمها مشاهد جلوسه وهو يكتب في ساعات فراغه، وكذلك رسائله المطرّزة برسوماته المختلفة، وتفاصيل دقيقة أخرى بقيت راسخةً في ذاكرتها خلال زيارتها.

في كربلاء، قرأت خديجة مع أفراد عائلة أختها رسائل نوّار مرّاتٍ عديدة، وفي كلّ مرّة كان الجميع يتمنّى لو كان نوّار معهم ويشاركهم فرح اللقاء والأحاديث الشيّقة. كانت الرسائلُ مغمورةً بالحبّ والتعلّق بالخالة وأبنائها، كان الحنين واضحاً في عباراته مشفوعةً برغبة اللقاء وتجدّده بين الحين والآخر.

كان نوّار الوحيد من أبناء خديجة الذي زار العراق في السنة السابقة، وتعلّق كثيراً بوطن أمّه وأهلها، حيث بقي لأكثر من شهر، زار فيها بغداد والموصل، وأحبّ كربلاء وجدّته بشكلٍ كبير. لم ينسَ أحدٌ سهراته مع مهنّد وحنين في ليالي كربلاء الصافيّة، وجلساته الطويلة حتى ساعاتٍ متأخّرة مع خالة والدته أم محمود في بغداد حين كان يقصّ عليها حكاياته وأحاديثه عن أخوته وعائلة أبيه في سوريا.

معظم الأحاديث في زيارة خديجة هذه كانت تدور حول نوّار، خاصّة وأنّ الجدّة لم تقابل من أولاد ابنتها البعيدة سواه، وكان في أغلب الليالي ينام بالقرب منها ولا يبتعد عنها أثناء الجلوس، وكلّما كان يذهب إلى الحانوت القريب من البيت كان يشتري لها شيئاً.

(5)

إنه اليوم السادس من شهر رمضان. مضى على وجود خديجة في العراق عشرة أيام، واقترب ميعاد العودة. ذهبت الأم مع صديقتها سناء إلى سوق المدينة لشراء بعض الهدايا، وكانت أغلبها، أو أجملها، لنوّار تحضيراً لحفلة ذكرى ميلاده. في المساء، رافقت خديجة أختها في جولةٍ قصيرةٍ في محيط البيت. كلّ شيءٍ كان يبدو طبيعياً حتّى ذلك الوقت، الأحاديث والوقائع ووجوه الناس، باستثناء زوج أختها، الذي جاء عاد مسرعاً وبدا كمن يخفي سرّاً ما. كان منفعلاً على الرغم من محاولته إخفاء ملامح الارتباك، وبدا للأختين أن الكآبة تخيّم على وجهه دون سببٍ واضح.

حلّ ظلامٌ دامسٌ بسبب انقطاع التيّار الكهربائيّ. دخلت أم مخلّد مع زوجها إلى مخدعهما، وما هي إلا دقائق معدودات حتّى عادا. اقتربت من خديجة وقالت لها بصوتٍ منخفض: جهّزي نفسكِ للسفر. سيأتي صديقٌ عند السحور ليقلّك بسيّارته. لقد تُوفّي والد زوجك، ولا يريدون دفنه حتى تعودي.

– ماذا قلتِ؟ عمّي؟ كيف؟ حتّى إنّه لم يكن مريضاً. هذا لا يعقل. نعم صحيح؛ إنّه يعاني من ارتفاعٍ في ضغط الدمّ ولكنّ زوجي طبيب، وهو يشرف على علاج والده بانتظام.

تدخّل أبو مخلّد محاولاً رفع نبرة صوته قليلاً: لا أدري ما حصل بالضبط. اتّصل بي زوجك وطلب منّي أن تعودي بأسرع ما يمكن. ربما توفّي في حادث سير، أو ما شابه ذلك.

ضربت خديجة تيّاراتٌ من ألمٍ مجهول. قبعت، وحولها أمّها وأفراد عائلة أختها، في حالٍ من الترقّب والانتظار. أطبق الحزن على الجميع لهذا الحادث المفاجئ الذي دفع خديجة إلى الرحيل بهذه الصورة المزعجة. كانت العيون مشدودةً إلى ساعة الحائط. وصلت السيّارة. لم يستمرّ الوداع أكثر من لحظاتٍ من الصمت المهيب كسرها السائق بعبارة “إنّا لله وإنّا إليه لراجعون”.

انطلقت السيّارة من حيّ الإسكان في ساعةٍ متأخّرة من ليل ذلك اليوم، التاسع من تشرين الأول. بحث السائق عبثاً عن محطّةٍ للوقود. توقّفت السيارة على حافّة الطريق بعد مسير ساعتين تقريباً. ترجّل السائق حاملاً صفيحةً معدنيّةً وأخذ يلوّح للسيّارات القليلة المارّة، لكن دون جدوى. لم تكن الطرق آمنةً أبداً، ووقوف السيّارة بهذا الشكل يمكن أن يعرّضهما لأخطارٍ جمّة.

– يا ربّ، كن معنا في هذه الدقائق الصعبة، قالت خديجة بأسىً بالغ.

مرّت دقائق صعبة، وأخيراً توقّفت سيّارة أجرة. إنّها على ما يبدو تقلّ عائلةً صغيرة، طفلان وامرأة ورجلٌ عجوز.

– هذه الكميّة من الوقود تكفيكم للوصول إلى المحطّة الكائنة على الطريق الصحراوي الذي يؤدّي إلى الرمادي.

– شكراً لك، وأعطاه السائق بعض النقود.

تحرّكت السيّارة وانطلقت بسرعةٍ كبيرةٍ دون توقّف حتى وصلا إلى المحطّة المنشودة. كان الازدحام شديداً. انتظر السائق مدّةً طويلة نسبياً نظراً لظروف الرحلة، وحصل أخيراً على الوقود، ثم قاد باتّجاه الحدود السوريّة. انتهت إجراءات الدخول بسرعة، ودخلا الأراضي السوريّة، فبدأ السائق الصامت طوال الطريق يبحث عن مدخلٍ إلى الحديث مع خديجة وهو ينظر إليها عبر المرآة بقلق. إنّها وحيدةٌ الآن. ماذا لو بدأت بالبكاء؟ أو أغمي عليها؟ لا؛ لن أقول لها أيّ شيء حتى نقترب من دمشق، هذا ما قرّره السائق آنذاك.

– هل نسير في الطريق الصحيح؟

– نعم؛ تابع السير.

– أريد أن أخبركِ شيئاً.

– تفضّل.

– ألديك طفلٌ في الحادية عشرة من عمره؟

– نعم؛ إنّه ولدي نوّار.

– أظنّ أنّه في المشفى.

– من الطبيعي أن يتواجد في المشفى فقد تُوفّي جدّه في حادث سير. أظنّ أنّ الجميع هناك، ونوّار سيكون معهم بالتأكيد.

لم تفهم خديجة ما كان يرغب السائق في قوله. تمالك نفسه، وقال:

– جدّ نوّار لم يمت، بل نوّار من تعرّض للحادث.

حدّقت خديجة في السائق عبر المرآة محاولةً تفسير كلماته.

– هل تقصد أنّ نوّار قد مات؟ أهذا ما تعنيه؟

– أنا آسف.. هذا ما حصل.. إنّا لله وإنّا إليه لراجعون.

– نوار..!

ضبطت خديجة أعصابها بشكلٍ رهيب. أمسكت بيدها اليمنى مقبض الباب ووضعت اليسرى على المقعد الأماميّ. كان السائق ينظر إليها بحزنٍ واندهاشٍ من رباطة جأشها. حاول السائق الاستفسار منها عن طريق البيت، فأومأت بيدها إلى طريقٍ فرعيّ.

– من هنا، ثمّ انعطف يميناً… توقّف قرب ذلك المبنى.

(6)

كان الحيّ مكتظّاً بالأطفال-أصدقاء نوّار في اللعب. ترجّلت خديجة وتكفّل السائق بإنزال الحقائب من صندوق السيّارة، فهرع الأطفال لمساعدتهم، بقي كيسٌ في يدها، كان يحتوي على أنواع مختلفةٍ من الحلوى ابتاعتها لعيد ميلاد نوّار. تقدّمت خطوتين باتّجاه البيت فاستوقفها طفلٌ كان يقف قرب الحائط. قال بصوتٍ مخلوطٍ بالبكاء والخوف: “خالة، نوّار مات!”. فقدت خديجة رباطة جأشها فاحتضنت الطفل وأجهشت بالبكاء.

بصعوبةٍ بالغة، وصلت خديجة إلى الطابق الثالث، حيث يوجد مسكن العائلة. سبقها طفلٌ صغير في الدخول وهو يصرخ:

– بشّار.. بشّار.. لقد وصلت أمّك.. بشّار.. تعال بسرعة.

نهض بشار وركض نحو الباب الخارجيّ، وما أن رأته الأمّ حتى بدأت بالعويل والصراخ:

– أريد ابني.. أريد نوّار.. أحضروه إليّ وإلا قتلت نفسي.

تزايد صراخ خديجة وبكاؤها، حاول بشار أن يهدّئ من روع أمّه، لكن دون جدوى، وكي تزيد الأمور صعوبةً عليه، أخذت النسوة المتواجدات في حضرة الجدّة بالنحيب. صرخ بهم بشار وأمرهم بالصمت حين رأى أمّه وقد أغمي عليها.

– أحضروا ماءً إلى هنا بسرعة.

– برفق، رشّ وجهها بالماء برفق.

– فلننقلها إلى المشفى.

– استدعوا زوجها.. أين هو؟

– إنّه في المشفى مع باقي الرجال.

– مسكينة! ذهبت لترى أهلها فعادت ثكلى.

– اخرسن، صرخ بشّار، اخرجن من هنا.

استفاقت الأمّ أخيراً وعادت للبكاء.

– أرجوكِ أن تتوقّفي يا أمّي، إنّه قدره وقدرنا جميعاً، لن يعيده البكاء إلينا، أرجوكِ أن تهدأي.. أرجوكِ.

– خذني إليه يا بشّار، أريد أن أراه.

– لن نذهب إلى أيّ مكان وأنت في هذه الحال. أبي منهارٌ تماماً، وإن رآك وأنت تبكين بهذا الشكل الهستيري سنخسره هو الآخر.

– أعدك أنّي سألتزم الصمت.. أتوسّل إليك.. خذني إليه.

– حسناً يا أمّي.

طلب بشار من دلير إحضار سيّارة أجرة بسرعة.

– افسحوا الطريق.

رافقت عمّة نوّار بشّار والأمّ إلى المشفى القريب، حيث توجد جثّة نوّار، ولحق بهم السائق الذي رافق الأمّ من العراق. سرعان ما وصلوا هناك. التقت نظرات خديجة بنظرات زوجها المتّشح بالسواد وهو يتوسّطُ جمعاً من الأهل والجيران. حضن الأب الأمّ ليواسيها، وليواسي نفسه بها.

– أين نوّار؟ سألت خديجة.

أمسك زوجها بيدها وسارا معاً باتّجاه غرفة برّادات الجثث. كانت الفوضى تعمّ المكان. بعضهم كان يطلق النصائح، وبعضٌ آخر كان يدلي برأيه.

دخل الوالدان الغرفة ولحق بهما بشّار. ساد شيءٌ من الهدوء في الغرفة. كانت الجثّة موضوعةً على سريرٍ متحرّك. رُفع الكفن عن وجهه، فبدا كما لو أنّه لم يمت. كان وجهه أبيض جميلاً، وعلت ابتسامةٌ خفيفة شفتيه، وكانت عينه اليمنى مفتوحةً قليلاً، وكان يعلوها قليلٌ من الدمّ المتيّبّس.

في اليوم التالي، جمعت خديجة أصدقاء نوّار وذهبوا إلى المقبرة. أقامت له حفلاً كما وعدته قبل أن تسافر، وتقاسموا كعكة عيده للمرّة الأخيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

19 + 10 =

زر الذهاب إلى الأعلى