مراوغة المكان
“سلامتك من سكين الحنين يا نعجة النزوح”
لا تفتح النافذة، ليس لأنك لا تريد ذلك، بل لأن صدمة المنفى الجديد هي صدمة الهواء الأول، ترى المكان كأنك آتٍ من زمنٍ آخر، فالزمن الخاص بالسويد يخرج من ذلك الشق الضيق في النافذة التي لا تقبل أن تُشرعَ على آخرها، ذلك القيد اللئيم الذي يقيُّد المصاريع، ثم تفكرُ: أفي بلاد الحرية لا حرية للنوافذ المشرعة؟ حيث لا نساء يجلنّ بأنظارهنّ من الشبابيك ليشبكن المارة فرادى وعلى الجملة، ولا حبل غسيلٍ يُنَّقِط ماءه العطر مُشكلاً لوحةَ سيوله على الشوارع المتصدعة، أين ذياك العبير في سُنة تلك البلاد المتروكة على مصراعيها لأمزجة الهواء “المحتَل”، حيث النوافذ تفرد درفتيها إلى كل الجهات لكي تستقبل الرصاص والريح، ولقد يثيرك في هذه المفردة اليتيمة من اللغة العربية أنها تفتح الباب على التناقض، “المحتل” …! حيث يثبتُ المعنى ونقيضه بشكلٍ استثنائيٍ لا يحرفّه التلفُظ ولا يقبل الاجتهاد، فالقاتل مقتول والمقتول قاتل والمكان مسكونٌ ومهجور في آن والحنين إليه يستوي للأعمى والبصير. ذلك هو الوطن وتلكم هي ناصية الأمور.
ستحاول أن تعثر على تجربتك الخاصة في الانتقال من المكان إلى المكان الآخر، إذ أسرف الكثيرون في هذا النوع من الكتابة حتى لتظنَّ بأن الكاتب ينسى أن يشرح نفسه في المنفى ويتعمق في فهم القارئ عن ذاك المعنى المستخلص من تجربة اللجوءات الجديدة والمتكررة لأبناء الهلال الخصيب المصابين بهذه اللعنة ولا تثريب على أحد، فيصبح ما هو حريٌ بأن يكون التجربة الذاتية، مكاناً للاستنساخ المستساغ دائماً ومراءاة في نفخ عضلات الحنين و وقوع الشبيه على الشبه وتعميق جماليات اغترابات الروح وتأصيل ولوعها بالمكان الأول حتى يتراءى لك أن القاعدة تسكن هناك في المكان الأول فيما تصبح تجربة الحديث عن المكان الآخر هنا – المنفى المعاش- هي الاستثناء.
أما بالنسبةِ للمنفى المركب فهذا جدالٌ يشبه أن تولد فجأة في العشرين ، فالانتقال من المكان الأول لا يعني تماماً أنه الأول بالنسبة للفلسطينيّ السوريّ حتى إذا ما تراكمت الأماكن صار المكان هو الطريق والطريق هو المستقر، وما الأخيرُ سوى خيالٍ هزيل يراودك كحلم مستحيلٍ بين الفينة والأخرى، فلا يعود الحديث عن المكان لدى الفلسطيني السوري إلا اختلاط الزمان بفكرة التراب السليب، حيث لا جذور ولا ذاكرة للطفولة العادية بل تراكمات من أسئلة اللجوء التي تُدرب القلب على ديمومة الكارثة في هذا العالم العربي الغريب الرهيب، ولا تفاضل هنا للسوريّ الفسلطينيّ عن السوريّ سوى في خبرة اللجوء المريرة التي أصبحت عند الأول الفلسطيني ضرباً من التكرار الهزليّ للتاريخ وعند الآخر السوري تتجسد في مأساوية هذا التكرار، وهو ما حاولت تسليط الضوء عليه من خلال مسلسل المرآة الذي عُرض على تلفزيون “سوريا”.
تحتاج إلى الوقت قبل أن تحتفي بالشوارع الأوروبية الجديدة فالهاربون لا يكتشفون جمال المدن حولهم، حتى لتبدو المدن الغريبة ببنيانها الآسر وشوارعها المغسولة، كالنساء المتباهيات بدلالهن وهنّ يلفظنّ المساكين، فيصير لكل شارعٍ غصة .. وأنت مشدوهٌ لا تملك وجهك، وظهرك مطعون بالبلاد البعيدة المهترئة المتسخة التي لا تزداد قبراً إلا ويزداد قلبك إيغالاً في الفراغ والغياب، فتسنُّ لك الكآبة سكينها وهي تترصدُكَ فيما أنت قاب قوسينِ أو أدنى من السقوط ثم ترى إلى نفسك مذعوراً تنبش في وسائل التواصل – الحق عندي أنها وسائل انفصال إذ أنها رسخت تجربة الانفصال والعزلة البشرية كما لم يحدث على مر التاريخ – وأنت تبحث عن الأصدقاء القدامى لكي تعلل غاية هذا الوجود بأي وهمٍ ما، فلا تنجو من محيطاتِ الكآبة المتربصة خلف دماثتهم المفتعلة حتى لترى الواحد منهم أو الواحدة منهنَّ يبالغون بردود أفعالهم على غيرِ الحاجة، خذ هذا المثال وأنا أجري مكالمة فيديو مع إحدى الصديقات المقيمات في أوروبا، حيث جرّنا الحديث إلى معنى القيمة التي يخسرها الانسان عندما يتجاوز الحدود، و روح المكان المرتبطة لدينا بالمآذن والآذان والابتهالات الليلية على الرغم أننا لسنا متدينَين، ثم دافع الكلام بعضه إلى معنى العائلة والتكافل وقرب المسافة بين الأصدقاء وترف الخيار عندما تقرر أن تبقى في البيت أو تخرج للقاء أصدقائك ومع أنها – أي الصديقة- كانت تتفاعل مع الحديث وتستطرد به أكثر مني إلا أنها وبدون مقدمات بدأت تسخر من كل ذلك بانقلابٍ هزليٍّ لم يخلُ من الحُنق على المجتمع والعادات والتقاليد والقمامة بمجازيها السياسي والاجتماعي التي أنتجتنا ككائنات هائمة على وجوهها ومغضوب عليها أو كنعاجٍ متراخية لم تعتد إلا على الرضوخ والذبح، ثم ما لبثت الصديقة أن صبت جام غضبها علي وهي تسألني عن معنى الحنين إلى كل ذلك الخراب، ثم تمنت لي السلامة بكامل السخرية إذ قالت لي ” سلامتك من سكين الحنين يا نعجة النزوح” .. كنت أتأملها على عادتي في استيعاب الأصدقاء عندما يبلغون هكذا ذروات مرعبة، مع أن جسدي كان يخبئ لي انتكاسةً لاحقة خاصة بعد أن انفجرت الصديقة في بكاءٍ مباغت وأغلقت الاتصال مما جعلني أستسلم لهذه الخلاصة “إننا الألم الكامل دون نقيصةٍ أو خديعةٍ للأمل” .. وليس مصادفةً أن الألم والأمل يتشكلان من ذات الحروف .. فالصدفة الوحيدة هنا هي نحن – نعاج النزوح الهائمون- بما ينالنا من استثنائية هذه الثنائية الدائمة الخضرة.
ويسألونك عن الحرية كتجربةٍ جديدة عند الانتقال من مناخات الاستبداد إلى الفضاء الأوروبي الذي يتهيأ للبعض أنه يمتلك أجوبته المسبقة عنه، حيث تتجلى الفردية بأشكالها المستقلة التي تتصدرها الحرية الجنسية بشطحاتها المختلفة والمساواة بين الجنسين المنبثقة من البناء السياسي القائم على الانتخاب والمرتبط بالليبرالية الاقتصادية التي تقسّم الأدوار بين الرجل والمرأة بشكلٍ تعسفي لا يراعي الخصوصيات الجندرية ويسهم في انقسامها العاطفي الحاد، فكل شيء خاضع للتسليع، مما يجعل منك كطارئٍ جديد كياناً مغترباً يصطدم بكيانات منعزلة اجتماعياً بحيث يُعرف المرء نفسه بها من خلال المؤسسة التي ينتمي إليها لا من خلال البناء الاجتماعي الأكبر، فتصبح قيمة الفرد هي قيمته التسويقية لنفسه بمعنى أن الفرد يبيع نفسه في بازارات الشخصية إذا ما اقتبسنا من عالم النفس الاجتماعي “إريك فروم” ، فيصبح التنظيم لا الحرية هو ما يحدد علاقات البشر بعضهم ببعض ضمن سطوة الرأسمالية الآسرة التي تستهلك أفرادها في ساعات العمل الطويلة حتى لتبدو العلاقات الاجتماعية معنىً مناقض للحرية الفردية ومحكومة ضمن إطار تبادل المصلحة، فيصبح كل ما لاتكتمل معه اقتصادياً أوعائد بمنفعة محددة وواضحة، يصبح دائرة مغلقة لا يمكن تشكيل أي تفاعل إيجابي من خلالها والحال أنه إن لم يكن المحرك الأساسي لتفاعلك الاجتماعي هو الجشع الاقتصادي سوف تجد نفسك خارج اللعبة وخارج المجتمع، وهنا لن يفاجئك عندما ترى تلك العلاقة الوثيقة بين الفرد والكلب كشكل ثقافي يحكم منظومة اجتماعية كاملة، وإذ ذاك فما أهمية أي حرية هنا إن لم تُعرّف الحرية من خلال العلاقات الاجنماعية المبنية على الشرط الانساني الصرف فمن له الحق أن يكون حراً في وضع إنساني غير حر في الأساس يدربك مع الوقت على إتقان لعبة الانضباط الذاتي التي تبدأ بفرضها على نفسك تحت بند الالتزام العام بالقوانين.
وهاك مثال عن قدرة القوانين في ترويضك تحت سطوتها، سنفترض أنك في السويد وتعرضت لانتكاسة صحية ما أصابتك بقلقٍ شديد، هنا ستلزمك القوانين في تقديم طلب لتحجز موعداً عند المركز الصحي الخاص بمنطقتك وسيأتيك الرد خلال يومين لكي تقابل ممرضاً بعد عشرين يوم والذي بدوره سيقوم بتحويلك إلى طبيب خاص بعد عشرة أيام أخرى وحتى لو فكرت بأنك تريد أن ترى طبيباً على نفقتك الخاصة فعليك أن تتعاطى مع إجراءات طويلة ومضنية من التسجيل ستمكنك من رؤية الطبيب بعد عشرة أيام في أحسن الأحوال وأنت هنا أمام سيناريوهين إما أن تُمضي شهر من الانتظار والقلق الشديد فيما حالتك تصبح أكثر تدهوراً أو أنك ستشفى من تلقاء نفسك ولا تعود بحاجة لطبيب بعد أن تكون قد استهلكت أعصابك في ذاتية مجردة من الأفكار القلقة عن وضعك الصحي، مثلاً عندما أخبرت ممرضاً على الهاتف أنني لا أستطيع النوم بسبب حالة صحية ما وأنه يجب علي أن أرى طبيب في أسرع وقت، أحالني إلى المركز الصحي من أجل أن يصفوا لي حبوب منومة لأنني لا أستطيع رؤية طبيب الأذن والأنف والحنجرة في وقت قريب، والغاية عنده هي أن أنام لأن النوم يعني أنك شخص يمكنه النهوض في اليوم التالي من أجل الكدح والعمل الذي سيعود بالنفع على محصلي الضرائب، ولن يتدخل أحد لإنقاذك بسرعة إلا إن كنت على شفير الموت بالمعنى الحرفي للكلمة، ثم تنظر إلى بطاقة التأمين الصحي الأروبية بين يديك وتترحم على كرت “الإعاشة”،أو على عيادات الأطباء في بلدك التي كانت تنتشر في الأحياء العشوائية عند كل مفرق طريق، وهذا غيض من فيض لقهر القوانين التي يمكن لخيال القارئ أن يعمم منها على كل شيء.
يستطيع الوقت أن يصلح كل شيء فيما يخص علاقتك بالمكان الجديد، ويبدأ شعور الاستسلام والسكينة يستقران في النفس، ثم ترى إلى حيواتك تدور كمسننٍ صغير في هذه الماكينة الضخمة التي لا تشبه بأي حال من الأحوال مكانك الأول الخارج من احتضان العائلة وعلاقاتها البدائية اللطيفة، تختبرُ مشاعرك كل يوم … ليس هنالك أي شعورٍ بالألم ولكن وبذات الحد لن تجد هنالك شعورٌ بالأمل أيضاً. فيا لوجه الحرية الخائب دوماً.