في حضرة انتصار الانتكاسات
جاء جارنا بوجهٍ تملأه الحسرة وثقل الهموم، يسير بخطى متعبة نحو دكانه، لقد تأخر عن افتتاحه اليوم على غير عادته. وصادف وصولي إلى دكانه لحظتها، فأثار انتباهي وهو يفتح الدكان عمق الزفير الخارج من صدره كلهب محرقة، وهو يردد “انشالله خير” “الله يبعت اللي فيه الخير”.
خير عم أبو جمال صاير معك شي؟ أسأله أنا. فيرد: “إذا قصدك شي بخصني مباشر لا اطمن مافي شي”.
– لكان ليش متأخر وجاي هيك كأنو في شي ماخد بالك؟
– لك يا عمي مرقت جنب خيمة انتخابية وهيك ما بعرف شو صاب مشاعري، منيح هيك.
ضحكت أنا قليلاً، وفهمت عليه ما الذي حل به، فحاولت التخفيف عنه، “لك يلا يا عمي خلي هالناس تتسلى بشغلة. اعتبرها تغيير جو”.
فقال لي: “لك يا عمي أنا زلمة بآخر عمري ومليت شوف هالهوس، من قبل الوحدة ونحنا فايتين بحالات هوس جماعي، وحشود رايحة وحشود جاية، وحاكم رايح وحاكم جاي مع اختلاف الاسم، وهالحشود نفسها نفسها، شي بخليني حس كأنو قدرنا نضل مهووسين بهالشكل”
– يا عمي مفكرين حالهن انتصروا مؤقتاً وعم يحتفلوا بهالشي، أو عم يحاولوا يخلونا نصدق إنهن انتصروا.
– لك يا عمي انت بتفكر هي الحالة هوس مؤقت، بانتصار مؤقت وبيمرق، بس هاد الثابت والمستمر بهالبلد، اسألني إلي، ختيرت وأنا بهالبلاد وبعرف هالحالات لوين بتودي. تذكر الرجال اللي كان يهتف بتونس هرمنا حتى هذه اللحظة التاريخية، إي أنا هرمت وأنا شوف هالحشود التاريخية.
الاستثناء هو الهدوء عنا. صار تاريخنا كلو انتصارات وهوس بالانتصار، من أيامات النكسة ونحنا عايشين بهوس الانتصار وهي بالحقيقة هزيمة، ومن وقتها وعم تتراكم الانتصارات المهووسة واللي ما هي غير اتنكاسات فوق انتكاسات.
يعني الناس نسيت معنى كلمة انتصار وصارت تعرف إنو في فشل جديد رح يصيبها منو، لإنو اتعودوا إنو الانتصار إما انتصار الحاكم على مطالب شعبو، أو انتصارو بالاستمرار بالحكم، حتى لو التاريخ تغير وما عاد يمشي الحال بهالطريقة، ولما بصير الانتصار غير منطقي بالمرة، بتصير الهزيمة اللي لاحقتنا من وراه غير منطقية بالمرة وعم تكبر الهووة بينها وبين إنو نرجع نوقف من جديد، يعني باختصار عم تترسخ هزيمتنا أكثر وأكثر.
رمى أبو جمال جملته الأخيرة ودخل دكانه، ليبدأ بترتيبه استعداداً للبدء بالعمل.
نسيت أن اخبركم عن أبو جمال وهو ليس مجرد إنسان بسيط صار له من التجربة ما يخوله الحديث عن السياسة ومسارها في سورية، بل هو من أحد الأشخاص المساهمين في دورهم في العمل السياسي في سورية.
أبو جمال كان من كوادر إحدى الأحزاب الشيوعية القديمة، لكنه ابتعد عنها حينما اكتشف على حد تعبيره إتيانها بوصفةٍ جاهزة للبلاد لا تناسبها، ودون أي نقدٍ لتلك الوصفة، فكان يقول دائماً “ماركس وضع منهج للمعرفة وللبحث بحال البلاد والعباد ولم يضع وصفة جاهزة كما يتوهم مريدوه”.
ويقول أيضاً: “يتحدثون عن العمال والفلاحين وفي بلادنا هؤلاء يشكلون أقلية ولا يمكن أن تجدهم في طبقة واضحة يمكنها التنظم والحركة. هذا اسقاط مجحف بحق البلاد وكأنك تريد تحريك طواحين الهواء بعد تخيلها.
رويداً ستتحالف تلك الأحزاب مع النظام السائد على اعتبار أنهم في خندقٍ واحد ضد الامبريالية، لتكشف السنين أن لا هم حاربوا الامبريالية بل زادو بقضم مكاسب الشعب، ولا هم حسنوا من وضع البلاد وصمود أبنائها ونهضة اقتصادها الوطني، فما كان من العم أبو جمال إلا ان افتتح دكاناً يسلي به نفسه ويلتقط قوت عيشه.
لكن ما اختلف عليه هو ما حدث في العام 2011 حيث ستراه وقد عادت الحياة إلى روحه مجدداً، وبدأ بتشجيع الشباب على الأخذ بدورهم وما كان يقول لهم سوى: “يلا إجا دوركن كونوا قدها”.
لكن رويداً رويداً، بدأ يكتشف على حد تعبيره أن حتى الحالة الثورية التي قام بها الشباب كانت ضرباً من الهوس الذي اعتادته البلاد، فاختلطت الثورة بتكريس الواقع، مثلما اختلط من قبل الانتصار بالانتكاسة.
وكان الحدث المفصلي الذي عبر بشدة عما وصل إليه العم أبو جمال من حالة يائسة، حين قرر الدفع بابنه للسفر خارجاً بحثاً عن مستقبل أفضل له، وهنا استشفيت منه أن لا أمل بقي بحوزته.
وبدا اليأس يتقدم بوضوحٍ فوق معالم وجهه يوماً بعد يوم، فلا هو يستجيب ويتفاعل إن حدثته في السياسة ولا ينفعل إن حدثته عن التاريخ كما كان قبل، بات كل شيء عنده سواء، ولم يعد يقتنع بأن أملاً بالتغيير ممكناً في الأفق.
“لكن يا عم أبو جمال، عليك أن تثق بما قد يؤول إليه الوضع ويحركه الناس”، أسأله أنا محاولاً تحريك مياه مشاعره الراكدة، فيجيب:
“يا عمي نحنا جيل الهزيمة ونكسة حزيران، وانتو الجيل اللي اتربى على هزيمتنا، والميت ما بشيل ميت. ومشاهد الهوس اللي عم شوفها اليوم ما تغيرت عن المشاهد اللي بذاكرتي”
بعد يومين من رؤيتي للعم أبو جمال صدرت نتيجة الانتخابات الرئاسية ليلاً، وانهال الرصاص الاحتفالي من كل صوب وحدب، فرحاً وابتهاجاً بالنتيجة المتوقعة بل والمؤكدة. فكان مشهداً إضافياً على مشاهد الهوس الجماعي التي تحدث عنها العم أبو جمال.
وفي حين قال البعض منتقداً إطلاق الرصاص ذلك، بأنه لو توجه للجبهة مع العدو الإسرائيلي لحررنا الجولان، لكن ما يبدو واضحاً وجلياً بأن هذا الرصاص مهمته أن يطرب آذاننا بهوسهم ولطالما هو كذلك فلا يمكن أن يتوجه باتجاه العدو. فهو في حقيقة الواقع رصاص الهزيمة، رصاص من لم يقدر على العدو فجاء يتباهى بذكوريته أمامنا.
هكذا كان يصف دائما العم أبو جمال مسار سورية السياسي بعد هزيمة حزيران، بأن الهزيمة ارتدت علينا أضعافاً مضاعفة. فالمهزوم يحتاج إلى إظهار رجولة مصطنعة كي يفرض سطوته وسلطته الهشة، فما كان بنا إلا أن ابتلينا بسلطةٍ هُزمت وهادنت حيث كان يجب أن تنتصر وتسحق العدو، وانتصرت وسحقت حيث كان يجب أن تهادن، حيث كان يجب أن تهادننا. وكلما كبرت هزيمة وعورة السلطة كلما زاد انتصارها فجوراً وهوساً ما بعده هوس.
الهوس وحده الذي بات يراه العم أبو جمال وحده متسيداً المشهد اليومي في بلادنا.