لماذا لم أمت في وطني.. وانتظرتُ وحدتي هذه لأرحل
أزهر جسدي هناك، حيث الشمس لا مكان لها، في بلاد لا تعرف سوى البرد، والألم، وأينعت ملامحي مع انسكاب العمر في حفرة من المصائب المتتالية التي كانت تجرني إلى الحزن لا أكثر، وتبتلعني لأصير جذوراً لنباتات شوكية تطل من مسامات التربة، غامقة اللون، باخضرار باهت ونتوءات ضعيفة تسمي نفسها “أشواكاً” ولكنها تنكسر من هبوب ريح ضعيفة عليها.
فاجأتني الحياة بآلام غير مسبوقة، فَطِرتُ بجسدي نحو جغرافيا جديدة، إلى تركيا، حلم آلاف السوريين، والمأوى الأول للملايين منهم، سافرت عل الأماكن الأكثر دفئاً وأماناً تصيب جسدي بالعدوى فيشفى، هكذا قلت لنفسي، قبل أن تطأ قدمي تلك الأرض، فيزداد المرض شراسةً.
التهم المرض قطعة من جسدي في الأمس، منذ عدة أشهر، فتح الطبيب نافذة فوق قلبي واستأصل ما استطاع لإزالة المرض اللعين.
هل كانت خدعة، هل دخل مجدداً من النافذة ذاتها أم أنه لم يخرج أساساً، لا أسأل نفسي هذه المرة، بل أسأل جسدي المنهك، ماذا فعل بك مبضع الجراح إن لم يشفك أيها الثوب البالي، هل تستعجل بالفراق، مرحباً بالفراق، لا يهم!
أعد الأيام منذ أجريت تلك الجراحة، مذ صرت مسكناً للآلام لا يعرف الراحة، منذ وقعت عيناي على ذلك التشوه المتعرج الذي يشق القسم الأيسر من جسدي، لكن روحي آمنت بك أيها الجسد، قالت إن قصة عشق جميلة تربطكما، وأنك بوسامة الفرسان وشهامتهم تقاتل لأجلها، هل تراك تحارب لتحريرها منك الآن، وهي التي تحزنها طعنات الجراحين في أجزاءك.
لماذا تخيب ظنها بعد أن أحيتك لسنوات طويلة، بعض الوفاء لا أكثر، عليك أن تتحلى بالوفاء لأجلها وقليل من الصبر، كي لا تفقدك، على الأقل الآن، ليست جاهزة بعد لهذه الرحلة الطويلة دون عودة، لازالت تستأنس هنا بقلوب دافئة وعيون ترقبها بنظرات الحب منذ بلوغك سن الشباب، أيها الجسد الفاني لا تتعجل، حارب لأجلها، ألا تذكر كم حاربت لتسكن آلامك وتهدئ من صرخاتك أثناء دخول ذلك السم، الذي يعتبر علاجاً، إلى أوردتك الرقيقة.
لطالما دافعت روحي عنك في لحظات عنادك وتسلطك على كل ما يؤذيك، كانت تقف وتجادل دون حجة مقنعة لتخرجك من كل مأزق أوقعت نفسك به، سوف تتركها الآن وحيدة تطوف في مدى لا نهائي، لا رفيق لها سواك، أين ستذهب من بعدك، إياك وذرف دمعة واحدة فهذه الدموع كذبة إن لم تكن محارباً حقيقياً، لا نحتاج للدموع الآن، أنا وهي في وحدتنا وسط هذا البلد الغريب، وتلك الطرقات الموحشة، والوجوه الباردة القاسية، لا نحتاج إلى جسد ضعيف سلاحه الدمع فقط، أخرج قوتك الآن تلك التي عملت لسنوات على بنائها لأجلك، وقاتل لأجلنا، فهذه المرة ليست كالسابقة، هذه المرة باتت النهاية أقرب.
لماذا لم أمت في وطني، لأن وطني لم يعد يتسع لمزيد من الموتى، باتت القبور تحدد خريطته من كافة الاتجاهات، حتى تعامد الشمس على الأرض يحده قبر ما، دون اسم ربما رقم فقط، ولكن كيف لم أفكر سابقاً، بأنني سأموت وحدي هنا، ما من قلب سيحزن على فراقي، ولن يكون المشهد الأخير الذي سأراه وجه أمي الحزين ودموعها المحترقة على وجنتيها، لن تلامس يداي بقبلة تشتعل في قلبها، لن يرمي أخي التراب فوق وجهي عندما يضعون جسدي في تلك الحفرة المظلمة، سأكون وحدي كفراشة دخلت شعلة من النار واحترقت أجنحتها، من يأبه لموت الفراشة، من يشتاق لها، لا أحد.
لا يعرف وطني أسباب الحياة بل يحفظ طرق الموت عن ظهر قلب، إلا أنني في لحظة مجنونة غادرته لأموت بعيداً، كان علي الانتظار قليلاً لتعلق نعوتي هناك حيث جميع المارة يعرفون اسمي وتلتصق ضحكتي في ذاكرتهم، ضحكتي التي لم تفارقني هناك رغم جميع الآلام، إلا أنها تخلت عني هنا ورحلت دون رجعة، منذ اللحظة الأولى لوصولي إلى هذا البلد الغريب بت مجرد وجه حزين يتجول دون ملامح واضحة، ويبحث عن فرصة للنجاة دون أي أمل بها.
سوف أغلق عيناي تحت نافذتي الغريبة الباردة وحدي، ربما أوصد النافذة قبل ذلك لأمنع رائحة الورد الجوري القريبة التي تتسلل أحياناً لتؤنس وحدتي، لن أحتاجها بعد الآن، ربما أترك لها رسالة لأخبرها بأنني سأرحل للأبد وأن لا داعي لقدومها، هناك نوافذ وحيدة كثيرة تحتاجها.
اسمع جيداً، سوف أحتال عليك وعليها معاً، أنت وروحي شريكان في هذا الألم، ولذلك قررت، دون أي تردد، أن أنفذ خدعة جميلة وأفرقكما، ليكون هذا القرار بيدي، وليس بيدك أو معها، لم أعتد يوماً أن أسلم زمام أمري لأحد، صارعت الحياة كثيراً منذ طفولتي المبكرة اتخذت القرارات وحدي وعشت الحياة وحدي وسوف يكون القرار لي بالطريقة التي تنتهي بها، لن أدع خلية مجنونة فقدت صوابها تقتلني، ولن أدع ضعفك بطلاً ليختتم هذه الحكاية، سوف أنهي الأمر بطريقتي.
هل تعلم مما أخاف حقاً، أخاف فقط من ترك ذلك القلب مكسوراً يتخبط في أفق الذكريات كطائر نورس وحيد فوق بحر شاسع الأفق.