سرير بنت الملك
استغرق الطريق بين مسجد مبرك الناقة و صومعة الراهب بحيرى أكثر من نصف ساعة سيرا على الاقدام، هذه هي المرة الثانية التي أزور فيها هذه المدينة، في المرة السابقة كنا نركض في تنقلنا من مكان لمكان خوفا من قصف قوات النظام لهذه المدينة شبه الفارغة من المقاتلين، في الحقيقة كان هناك مقاتلون كثر لكنهم جميعا كانوا خارج المدينة الأثرية، لكن لا أحد كان بامكانه إقناع الصواريخ والبراميل بالابتعاد عن المكان حرصا على حياة هذه الأثار الموجودة هنا، لا أحد كان يفهم أو يستطيع تفسير هذا الحقد من قبل قوات النظام في عدائها مع هذه الحجارة المعمرة.
المتحاربون في عداء دائم مع التاريخ كنت أقول في نفسي و أنا أمشي.
كان الطريق المرصوف بحجارة ناتئة حينا و غائرة حينا آخر تحدد المسار الذي سأمشي فيه مبتعدة عن الحفر الموجودة وبقايا الردم الذي امتلأ به الطريق بين المكان الذي وقفت به السيارة و المشفى الميداني الذي كنت أستعد للعمل فيه.
لكن لا شيء طارئ قالت الممرضة التي تعمل هناك، فمنذ اسبوع سرت شائعة عن اتفاق سيبرم بين الفصائل المقاتلة وقوات النظام عبر المفاوضين الروس لذلك اختفت عن المكان أصوات الطائرات والقذائف و كل الاسلحة باستثناء بعض طلقات الرصاص التي تنطلق من حين لآخر دون سبب معروف وبغياب هذه المعارك كان بامكاني التنقل بين معالم هذه المدينة ببطء متأملة فعل التاريخ وما فعلت الحرب بآثاره.
كان سرير بنت الملكة الشهير مكوما على بعضه بفعل أحد الصواريخ أو البراميل المتفجرة التي استعملها النظام في مواجهة مظاهرات أهالي بصرى، هذا المعلم الشهير لن يكون في مكانه بعد الآن، حسناً، كما كل السوريين لن يكونوا في مكانهم أو لن يعودوا كما كانوا، قلت في نفسي مواسية بقايا الحجارة المكومة
لقد انتهت المعارك اذن، حصلت تلك الصفقة المتكررة في سوريا بين كل مدينة على حدة وبين قوات النظام بمفاوضات روسية واحتفل الجميع بالنصر رغم أن النظام كان يبتلعهم منفردين لقمة لقمة
أسير نحو المشفى الذي طلبت التطوع فيه بخطى متثاقلة وبإحساس رجل في سن التقاعد لا حاجة له، بضعة مقاتلين يمرون بالقرب من دير الراهب بحيرا وهم يتحدثون في شروط التسوية، بالقرب منهم نساء تحمل متاعا على رؤوسهن يسندونها بإحدى اليدين ويمسكن أطفالهم باليد الأخرى، كنّ على ما يبدو من التفاؤل المفرط على وجوههن عائدين نحو منازلهم بثقة من لن يخرج منها مرة ثانية.
استقبلتني الممرضة الوحيدة التي كانت متواجدة في المشفى بوجه مرح، وقبلتني على وجهي عدة مرات، يبدو أنها بدورها كانت تحتفل بالاتفاق الموعود، ثم بدأت تطلعني على الغرف في ذلك المبنى الحجري وتشرح لي كيف حوله الأهالي لمشفى ميداني.
هنا غرفة الاسعاف، يجاورها تماما غرفة صغيرة معتمة هي غرفة العمليات وفي الطابق الثاني كان قسم التوليد، لم يكن المشفى الميداني يشبه مشاف شاهدتها في مناطق اخرى.
يبدو أن لا حاجة لي في الفترة القادمة معكم، قلت لمديرتي المفترضة و هي تناولني فنجان القهوة!
نتمنى ذلك، أجابتني وهي ترفع الفنجان لترشف القهوة، كنا نشرب القهوة كما لو كنا نفعل ذلك على إحدى شرفات المنازل المطلة على حديقة مشمسة في يوم ربيعي.
ودعتها دون أن أحدد لها موعدا لأبدأ العمل وبدورها لم تسألني
كان يبدو و كأن الحرب قد انتهت في هذه المنطقة من الجغرافيا السورية.
غادرت المدينة باتجاه بيتنا في درعا المحطة ولحظة وصولي كان الجميع يتحدث عن إتمام اتفاق التسوية، وبموجب هذا الاتفاق لن تدخل قوات النظام الى مدينة درعا البلد ولا إلى القرى المحيطة بالمدينة وسيحتفظ المقاتلون بأسلتحهم الفردية لحماية المدينة من شبح تنظيم الدولة الاسلامية في حين يتوجب تسليم الاسلحة الثقيلة على أن تبدأ مؤسسات النظام بالعودة التدريجية إلى المدينة.
ومن ثم ظهرت بنود أخرى تباعا ربما كانت على جدول ذلك الاتفاق وقد تمّ الاتفاق على سريتها وربما تم الاتفاق عليها في مفاوضات لاحقة حيث ظهر في بصرى والقرى التي تحيط بها ما يسمى الفيلق الخامس الذي أنشأته القوات الروسية ليكون تابعا لها فعليا و فتحت أبوابه للمتطوعين والمنشقين سابقاً وحتى للمقاتلين السابقين في صفوف الجيش الحر ممن انخرطوا في التسويات والمصالحات في المناطق التي كانت يُهجَّر سكانها، وذلك كملجأ لهم يعيدهم إلى النظام ولكنه يحميهم من انتقامه في الوقت نفسه، وقد كان اللواء الثامن بقيادة أحمد العودة الذي كان يقود فصيل فرقة “شباب السنة” في الجيش الحر سابقاً أحد أبرز مكونات الفيلق الخامس وانضم اليه لاحقا العديد من مقاتلي الفصائل الأخرى التي تفككت بعد التسوية حيث تم الاتفاق على احتفاظهم بأسلحتهم، بشرط الإشراف على استخدامها من قبل الشرطة العسكرية الروسية.
عاد الهدوء نسبيا إلى درعا وقراها بعد هذا الاتفاق، ومن ثم حاول بعض مؤيدي النظام الدخول إلى المناطق التي كان يسيطر عليها مقاتلو الجيش الحر دون أن يعترضهم أحد وفي مرات أخرى كان يتم احتجازهم وإهانتهم ثم إطلاق سراحهم، بعضهم تفتح له الأبواب وتذبح لهم الذبائح وبعضهم يٌقتل.
كانت الفوضى والعلاقات الشخصية والعائلية هي المتحكمة في مجرى الأحداث هنا وبدوره الفليق الخامس كان يدير مدينة بصرى والقرى المحيطة بها بسيادة شبه كاملة ولم يلبث أن التحق به العديد من الشباب طمعا بالراتب الشهري الذي كانت تقدمه القوات الروسية دون أن تطلب من هؤلاء المقاتلين حتى الاعتراف بانتمائهم لقوات النظام ولو اسميا، كانت حالة شاذة تستعصي على أي محاولة للتفسير.
استمر هذا الخواء الذي أثارته التسوية فلم يكن أمثالنا من الناشطين المدنيين يعرفون أنفسهم مع أي جهة يقفون وقد غادر العديد منهم المدينة إما في محاولة للخروج من سوريا أو لمحاولة تسوية أوضاعهم والعودة لحياتهم السابقة خارج المدينة.
توجهت لمدينة درعا في بداية العام السابق بعد التوترات التي حدثت بين الفيلق الخامس وبعض القرى في محافظة السويداء لزيارة عجوز مريضة وعدتها ببضعة حقن من الانسولين.
نزلت من الباص الذي توقف هذه المرة بالقرب من المدرج الروماني الشهير، كان يبدو التوتر على بعض الأشخاص الذين يجلسون على طاولات خشبية أمام مطعم صغير في حين كان صاحب المطعم يمسح الطاولات بكل هدوء رغم أصوات الرصاص المتقطع الذي أعقبه صوت رصاص متواصل مدة دقيقتين قبل أن يخبو تماما.
كان الرصاص يتطاير نحو التيجان الحجرية المحفورة بعناية تاركا أثرا لم يعد بالإمكان إصلاحه بعد الآن، لقد صمدت هذه النقوش على الحجارة ألافا من السنين ومرت عليها الكثير من الأحداث التي لم تستطع أن تنل منها لكن الآن مجرد خلاف بسيط بين عناصر اللواء الثامن في درعا قد أودى بحياة ثلاثة من هذه التيجان.
المتحاربون على مر العصور يستهزئون بكل ما يقوله التاريخ .