مسارات القدر في البلاد
كانوا مجموعة صغيرة متحمسة لأي عمل، وكان أحمد.
حين التقيت بهم مجموعين لأول مرة شعرت بأني أمام مجموعة طوارئ، قد ينتقلون فجأة لأي مكان بعد اتصال من أحدهم. جلساتهم الهادئة مع بعض ليست إلا محاولة للتفكير بعملٍ جديد، أو مناقشة فكرة أو اقتراح لأحد أفراد المجموعة.
كان أحمد أحد أفراد المجموعة، تعرفت عليه حين رأيتهم في تلك الجلسة مجموعين مع بعضهم البعض، حيث دعتني صديقتي زاهرة وهي واحدة منهم للجلوس معهم في إحدى مقاهي ساروجة.
لم يكن أحمد مقتنعاً بدوره في الخروج ضمن مظاهرات كبيرة تناهض النظام، قد يهتف فيها المتظاهرون بغير ما يرغب، بل كان يسعى دوماً للقيام بأعمالٍ ونشاطات تضفي على الحراك الشعبي سمة الإبداع والسلام وتقرب الناس منه، بدلاً من إخافتهم. كثيراً ما كان يلتفت أحمد في أحاديثه لمن هم ليسوا مع المظاهرات ويحاول تفهم وجهة نظرهم وتخوفهم، ويحاول الإضاءة على مخاوفهم تلك وفهمها بغية تفكيكها.
في عيد رأس السنة الميلادية قام أحمد بارتداء لباس “بابا نويل” وحمل في كيسه الكبير هدايا صغيرة عديدة، وقام بتوزيعها على الأطفال في المناطق التي قدم إليها نازحين من المناطق الساخنة، كان يريد حسب قوله تلطيف مشاعر الناس والتقليل من توترها، مؤكداً أن العمل طويل ويحتاج منا إلى الصبر، كمن يحفر في الصخر على حد قوله.
ثم قام بتوزيع بطاقات ملونة في مناطق دمشق المستقرة، كُتب عليها كلمات مثل “حرية” “سوريا للجميع” “حقنا نعيش”.
لكن مسارات القدر في البلاد لا تسير مثلما يتمنى الناس مهما كانت نيتهم صافية وتتطلع للخير، حيث أن قوات الأمن لم تكن تفرق بين متظاهرٍ سلمي وبين مسلحٍ يريد قتلهم، بل ربما كان المتظاهر السلمي أشد أعداء السلطة وأكثرها خطراً عليها، ولذلك فقد شددت قبضة أجهزتها الأمنية على أولئك بالذات، لما يتمتعون به من تأثير على محيطهم وإحراجاً للسلطة، مقابل ما يمنحه المسلحون من تبرير للسلطة باستخدام عنفها المفرط على اعتبار أنه يحمل تهديداً إرهابياً يتفق على معاداته العالم أجمع.
مهما كنت مسالما يا أحمد فلا بد أن تدفع الثمن.
تم اعتقال أحمد في إحدى المظاهرات في دمشق على الرغم من عدم قدرة المظاهرة حينها على الخروج، حيث كان من المقرر القيام بها في قلب دمشق بأعداد صغيرة غايتها إقلاق راحة القوى الأمنية وتشتيتها، لكن وبسبب شعور المنسقين أن العملية قد تم كشفها فقد قرروا إلغاءها قبل لحظات قليلة.
لكن القوى الأمنية قد استنفرت فورا وهرعت إلى المكان، وقامت باعتقالاتٍ متفرقة عشوائية كان من ضمنها: أحمد.
لم يقم أحمد بمقاومتهم، بل مشى معهم دون أن يتفوه بكلمة، ليتم وضعه في أحد أقبية الأفرع الأمنية ويتعرض للضرب والتعذيب باستمرار ولمدة أشهر، لكن سيتم الإفراج عنه لاحقاً من سجن صيدنايا.
أذكر كم كانت فرحتنا لا توصف حين عرفنا أن أحمد سيخرج، وبدأنا نفكر بما سنحدثه ونرويه له حين نراه، وكم من الأحداث قد وقعت في غيابه. جلسنا حينها وكأننا نقوم بجردة حساب لما مضى في الأشهر التي غابها عنا كي نكون جاهزين لذلك الاجتماع معه.
لكن ومجدداً فإن مسارات القدر في البلاد لا تسير مثلما يتمنى الناس مهما كانت نيتهم صافية وتتطلع للخير. سيتم اعتقال أحمد مجدداً وهو خارج من السجن، أو بالأحرى سيتم تسليمه للشرطة العسكرية حيث انه قضى فترة اعتقاله لصالح الأجهزة الأمنية وجاء الآن دور خدمته العسكرية الإلزامية التي لم يؤدها بعد ولم ننتبه إلى أنه قد فاته تقديم ورقة تأجيل عن الخدمة كونه داخل السجن.
هكذا تبخر فجأة حدث ملاقاته كبقعة ماء في شمس الصحراء، وكأن الفرح في هذه البلاد أمنية يصعب تحقيقها تماماً كأمنية أن تجد مياهاً في قلب الصحراء.
غادرنا أحمد قبل أن يعود، ساقوه إلى الخدمة العسكرية. فبتنا ننتظر أن يعود إلينا بإجازةٍ ما كي نراه مجدداً. وبعد بضعة أشهر جاء أحمد أخيراً ولم نصدق ذلك لدرجة أننا بداية رؤيتنا له كنا نحدق به ونتلمسه وكأننا غير مقتنعين بقدومه. حدثناه عما كنا نريد أن نحدثه منذ أشهر وإن نسينا بعض التفاصيل وترتيب الأحداث، وحدثنا هو عن القهر والعذاب الذي واجهه في السجن وعما حصل معه ومع غيره من المعتقلين هناك.
لكن وبعد بضعة أيام عاد أحمد إلى خدمته حيث كان يقول “أرغب في إنهاء خدمتي وأن أعود كإنسانٍ عادي غير ملاحق”، فالخوف بات يملأ قلب أحمد بعد اعتقاله وسوقه إلى الخدمة وما تخلل كل ذلك من تفاصيل مؤلمة ومرعبة.
شعرنا حينها أن أحمد بات أكثر قوةً وصلابة، لكنه في العمق أكثر خوفاً وتهرباً. وكأن الخوف الذي بداخله بات أكبر من أن يقوى على إظهاره في العلن. وهنا حيث يبدأ الخوف بالنمو أكثر فأكثر يبدأ الإنسان بالإنكار أكثر فأكثر.
عاد أحمد إلى خدمته التي قال عنها أنها مريحة نوعاً ما وبعيدة عن ساحات القتال، وهو الأمر الذي جعله يتقبلها إلى حدٍ ما. وخاصة أنه في دمشق لا يمكنك التحرك إن كنت هارباً من الخدمة العسكرية. لذلك اختار أن يعود إلى الخدمة ريثما تتوضح الأمور أكثر على حد تعبيره.
لكن ومجدداً فإن مسارات القدر في البلاد لا تسير مثلما يتمنى الناس مهما كانت نيتهم صافية وتتطلع للخير، وسيتم نقل أحمد إلى جبهات القتال، حيث المعارك الحامية بين الجيش النظامي والجيش الحر.
هناك حيث سيقف أحمد أمام خيارين لا ثالث لهما، إما القتال أو الهروب، لكن ليس الهروب إلى الوراء بل إلى الأمام، إلى صفوف الجيش الحر. هكذا وببساطة وكأن شيئاً ما يحركه دون إرادته سينتقل أحمد إلى صفوف الجيش الحر. حيث سينضم إليهم ويقاتل إلى جانبهم، كونه يحسب نفسه أقرب إليهم وينتمي للقضية التي يحاربون باسمها، وإن كان لا يعجبه ما يقومون به.
ذات مرة أرسل لي “يريدون منا جميعاً أن نقوم بالصلاة الجماعية سواء نرغب أم لا، وينظرون إلى من بقي في مناطق النظام على أنه (شبيح) ويستحق الموت طالما أنه يسكت على قصفنا”
كنت أرى كلامه وأعجز عن الرد، فأحمد الذي تطورت الأحداث خلال غيابه في السجن، وانحرفت مسارات كثيرة وظهرت مسارات جديدة، يبدو أنه لم يدرك بعد أن ما خرجنا لأجله لم يعد كما كان، وأن كثر ممن يحملون في قلوبهم ما خرجنا لأجله لا يستطيعون البوح به اليوم.
لقد تغيرت الأمور يا أحمد، وغدوت عاجزة عن الشرح لك.
دخول أحمد في صفوف الجيش الحر، يعني أنه لم يعد بمقدورنا رؤيته مجدداً، فهناك لا إجازات ولا مغادرة، فما إن تبتعد حتى تصبح فريسةً سهلة المنال، وحيداً أمام جبروت جيوش العصر الحديث، الذي لا يقرأ مافي قلبك يا أحمد، لا يقرأ أنك لا تنتمي لهؤلاء ولا لأولئك، لا يقرأ أنك أصبحت تكره الجميع ولا تريد سوى الخلاص مثلما كنت تريده للآخرين.
هكذا تكبَّل أحمد، وأوصدت الأبواب في طريقه، ولم يعد يقوى على مغادرة موقعه الجغرافي ولا مغادرة موقعه (الثوري)، وبقي يمثل ما أشعر بأننا خرجنا لأجله وبقيت آمل بوجوده وإن كان بعيداً، وكأنه شعلة لا بد أن تعود لتجد مشعلها يوماً ما وتهب من جديد.
هكذا تكبل أحمد إلى اليوم الذي رأيت فيه خبراً على القناة السورية “القضاء على مجموعة إرهابية مسلحة”. بين تلك المجموعة ماتت آمالي ومات أحمد، هكذا وبكل بساطة وسفاهة هذه الحياة، غادر من بيننا كما تغادر نقطة الماء من بين رمال الصحراء نحو السماء. غادرنا أحمد حيث مسارات القدر في البلاد لا تسير مثلما يتمنى الناس مهما كانت نيتهم صافية وتتطلع للخير.