فرار من وسادة

خُلق الإنسان منتميا؛ منا من انتمى لوالد أو أسرة أو عائلة أو قبيلة أو منطقة أو وطن؛ ومنا من قفز فوق ذاك كله فانتمى إلى دين أو فلسفة أو انسانية ومنا من انتمى إلى.. حبيب.
يقول المعالج الفيزيائي عليك أن تحضن وسادة قبل النوم لتريح مفاصلك وعظامك؛ نصيحة ارتاح لها قلبي قبل عظامي.. هو فراغٌ نشعر به في نهاية كل يوم حين نصل إلى مضجعنا وقد حملنا هموم يومنا ومستقبلنا وثقل ماضينا لنريحها على حافة السرير ونتدثر ونحن نحضن تلك الوسادة لتشعرنا بشيء من الطمأنينة في هذه الغربة؛ وهو شعورٌ نبدأ به يومنا بعد أن نغادر عالم أليس العجيب الذي يبقى في تفاصيل لا وعينا طوال النهار دون أن نعلم ما يتحرك في خلفية مشاعرنا ولما أو ما مر من أحداث لا نتذكرها لكن أثرها يستمر عابثا فينا.. شعور أن تستيقظ فتجد أن من كان بين ذراعيك مجرد وسادة يحمل لك مفاجئة الصباح التي تدفعك لمغادرة السرير فورا هربا من مواجهة صريحة مع واقعك وخيبات طويلة.. يبدو أن عظامي تحتاج لأكثر من وسادة.
الإنسان ليس هدفا لكنه الغاية؛ والإنسانية ليست فكرة لكنها الممارسة.. قد يكون الإنسان هو الخلاص وقد يكون هو نفسه المصيبة، وقد تكون الإنسانية هي المنهج لهذا الخلاص وهي المعيقة له أحيانا.. لكل رؤيته وحجته في تفسير الإنسانية من وجهة نظره وكيف يربطها بالإنسان وخدمته؛ رغم أن البعض يظن أن الظلم إنسانية حين يعتبرها تهدف لإرضاء مخلوقات أعلى وأسمى من الإنسان معطيا لقوانين يعتبرها هي الإنسانية صفة القدسية، وأنها معصومة عن النقاش وأن الظلم الذي قد يقع بسببها ليس ظلما، بل إن الانصياع لها هو قمة التفاني والتسليم؛ ويقنعون أنفسهم لدرجة التعصب بأن هذا هو منتهى الحق والخير والجمال.
كيف يمكن لقانون سنه أناس لا نعرفهم بأن يكون نبراسا وناموسا لكل عصر وأوان فيرسموا لنا خطا نحياه دون حق في نقاش خياراتنا؛ خيار أن نغادر هذا السرير هربا من وسادة سعت بكل جهدها لأن تملأ فجوة في الصدر؛ عاجزة التحقق مستقبلا بسبب عجز تلك الخطوط المرسومة عن إدراك واقع لم يخطر على بال من سَنوها. ولأن خرجت عنها ستكون في مأزق القطيعة الاجتماعية والوصمة، أو سترضخ لها وتبقى مع نقص يرفض البشر أن يعترفوا بأنه من صفاتهم.
ما هَمُّ من كانت الظروف أمامه واضحة ولم يخطره أن تعقيدات ما بعد بعد المستقبل ستقيد من نَظَّرَ لراحتهم الاجتماعية؟! إذا ما اعتبرنا أن ما قالوه كان لهدف التنظيم الاجتماعي ولم ننفي عنهم الظروف السياسية والاقتصادية!!.. لا ليس همه! بل هم من يقف أمام رغبةٍ أو هبةٍ أو أمنيةٍ مستحيلةِ التحققِ؛ فيصبح أمامها مكسور القلب لا يَفرقُ عمن عاش كل عمره بجوار حبيب غادر الدنيا فقضى يعد الأيام بعده بمتلازمة القلب المكسور وفارق بعد فترة قصيرة. إنهما كينونة واحدة في جسدين يَفرقُ بينهما استحالة أو فعلية التحقق..
على طاولة أقف أمام احتمال هروب من وسادتي عاريا واضحا أحاول عرض ريشي لأغوي طاووسا تكبر فنعتني بأصلٍ فارقته كما لو كان مسبة! في مجتمع اللجوء اللعين حيث تجد نفسك تبحث عن ذات جديدة وهوية جديدة تكون كل احتمالية اتحاد بشريكٍ غير وسادتك احتمالية لظهور مركب جديد كما لو أننا عناصر كيمائية يقوم الخيميائي الأعلى بتجريبنا في بوتقاته اللامتناهية؛ بعضُ هذه العناصر فقد اشعاعها وباتت كما النجم المنطفئ الخامد.. تقترب منه فتبصر تحت السطح نواة نفيسة لن تبلغها حتى تنفض عن سطحه رماد التجارب وكوارثها وقبل أن تعديك وتزكمك ذراتها وربما تعُّلَك.. تبقى مراقبا من بعيد! عله الزمن يغير من هذه الطبيعة، فتخشى أن يقتنص كوكبٌ يمرُ مصادفةً بجوار لحظة الاشتعال تلك فتخرج الاحتمالية من يدك مجددا. إن القلوب الكسيرة تخبئ كنوزا؛ تلك القلوب قال عنها التبريزي قد تكفي صحبتها عن العالم كله؛ ولها ألقيت السلام بيني وبيني: كيف حالك يا كل كلي؟
نطلب الصمت والهدوء في حياتنا وحين نحصل عليه يصبح عقوبة؛ في جوٍ مطبق الصمت يمكن لك أن تسمع صوت النبض في أذنك، ويكون أقل صوت كما الطبل فيها لأن خلفية الصوت هي اللاصوت؛ تماما كما تكون نقطة سوداء على صفحة بيضاء مصدر ازعاج!؛ يبدوا لو أن الوسادة تنطق أو تحيا في محيطي الحيوي ستحيي فيني ألف حياة! أهرب من هدوء أرغبه وأطلبه إلى ضجيج لا أطيقه تجنيا لأي صوت مفاجئٍ مهما كان بسيطا على خلفية اللاصوت التي تسبب انقطاعا مزعجا في اللاشيء الذي أسمعه!! في مكان صاخب لن يحدث أي طارئ صوتيٍّ أي فرق، حالة تدفع العقل للتفكير والانفراد مع النفس في إعادة قراءة للذات: ما بي؟
كما العلاقات الاجتماعية عينها، في اللحظة التي تحيى جوا مكتظا لن يكون لعلاقة منفردة عابرة أثرا؛ لكن علاقة تستفز فيك كل خلية من ذكورتك ورجولتك وثقافتك المستجدة المهجنة في هذا الجو ستكون استثنائية وستترك فيك أثرا لن يزول بسهولة أو لن يزول مطلقا؛ تبقى مقاربتك لكونها هي الاحتمال النهائي رضاك وقناعتك؛ على عكس العلاقات التي تأتيك فردية في الوقت الذي تكون فيه وحيدا لا محيط حولك لتقيس عليه ما أنت فيه، ستعتقد وقتها أنها الخلاص والمنتهى؛ وفي الوقت الذي قد تكون كذلك سترى أنها تمر باختبار ثبات وصدق عند أي علاقة عابرة تمر في حياتك متزامنة معها؛ لأنك لم تتحقق بعد منها، وستبقى في حيرة وشك من اختيارك، وتبقى القاعدة رضاك وقناعتك.. لكن للإرادة والوفاء قولا آخر!! تلك الاحتمالات حاول من سلفنا تنظيمها، لعلمهم بأن عين الإنسان فارغة ولمعرفتهم بأن البشر طغاة طامعون؛ ولكن عقلا عنيدا يبقى في مواجهة مع أفكارهم ليقول: هل هم على صواب؟