سوريا
قليل من الورد يكفي
كي تصير حدائقنا
قرابين للرب.
والقربان كل ما يُتقرَّب به إلى الإله. وكان الرجل إذا قرّب قربانا، سَجَد لإلهه، فتنزل النار فتأْكل قربانه، فذلك علامة قبول القربان. وكان قربان الأمم السالفة ذبح البقر، والغنم، والإِبل. ومعلوم من علم الأديان المقارن أن لكل إلهٍ مزاجه الخاص وذائقته الفريدة وطبعه المتطلب. الرب السوري لم يرض بأقل من أن يكون البلد كله قربى لخصيتيه وشرجه، فأعلنها زبانيته صراحة: الأسد أو نحرق البلد. وكانت حمرة الدماء وروائح الشواء وصرخات المعتقلين تلذ للرب كثيرا.
زعم بعض علماء الأحافير أن الشام تشتهر بجوريّها وياسمينها. ولا أزال أذكر الطفل الذي يسكنني يقرأ في الصف الثاني درسا عن شرطي المرور، عن احتماله قسوة شمس الصيف وبرد الشتاء ومطره كي ينظم السير. عند الانصراف من المدرسة مصحوبا بوالده، قطف الطفل بضع ياسمينات وتوجه صوب شرطي مرور في حي البرامكة وأهداها له. كان الشرطي لطيفا بما يكفي ليبتسم للطفل ويطبع قبلة على خده.
شباب داريّا وشابّاتها خطوا خطوة أبعد. كانوا يخرجون في مظاهراتهم مع بزوغ الثورة حاملين الورود تأكيدا على السِلْمية، بل بلغ بعضهم من القحة أن قدمها لجنود الوطن – الذين كانوا يحرسون المظاهرات من المندسين – قائلين: نحن إخوة.
أثارت تلك الزهرات تقزز الثالوث المقدس الذي يجاور داريّا عن كثب: القصر الجمهوري، ومقرات الفرقة الرابعة، ومطار المزة العسكري. أخذ حماة الديار يعتقلون أجرأ الزهرات، يطوفون بها على رؤوس الأشهاد بعد أن أشبعوها ضربا، ثم يعيدونها جثثا هامدة بعد بضعة أيام.
لم يكن عبد الرحمن الأبنودي قد سطر بعدُ بيته: “إيش يفهم التور في هوى البساتين؟”، فداوم الدارانيّون على عادتهم، وتفاقم شعور الرب السوري بالقرف، إلى أن قاءت أسلحته حممها في آب/أغسطس 2012 في محرقة التهمت مئات القرابين. قل ربي أعلم بعِدّتهم.
قليل من البرد يكفي
كي نذوب أسى
ويصفرَّ عشب.
يقول معلّم الزّن: “حين أشرب الشاي فأنا أشرب الشاي”. وما معنى هذا؟ أليس الجميع يفعل ذلك؟ لا! فنحن نتابع أخبار الحرب ونحن نشرب الشاي، ونحن نفكر في سعر السكّر ونحن نشرب الشاي، ونحن نتفاعل “أحزنني” على فيديوهات المجازر ونحن نشرب الشاي. وحده من في مقام المعلّم يعيش اللحظة، ينهمك فيها، يستغرق في تفاصيلها، وينهب لذّاتِها نهبا، معلقا لافتة تُقرأ: سنعود بعد قليل.
الشيء الوحيد الذي عودنا أنفسنا – وإن متأخرين – على فعله ونحن نفعله كان الاحتراق غراما بالشتاء. عشنا أيامه قرصة قرصة، انهمكنا في درجات حرارته أو لاحرارته، استغرقنا في سفرجله غصة غصة، وانتهبْنا لياليه حتى نهبَنا الأبوابَ والبلاستيك والثياب وبذور الزيتون، ثم علقنا لافتة تقرأ: لا تنتظرونا!
عهدي به منذ نعومة أظفاره أن يكون كابوسا لدى أكثر السوريين، لكنه نضج الآن وتدرج في الرتب والمقامات حتى صار قاتلا تسلسليا، مرتكبا لجرائم ضد الإنسانية، جحيما. لم يعد الشتاء يعني مطرا تعود فيه السحب إلى أصلها الأرضي، لم يعد ينحت رجلا أبيض ذا ثلاث كرات وأنف من جزر، لم يعد سؤالا في الامتحان عن سبب تغير الفصول، صار حرباً علينا، وقد علِمْنا الحرب وذقناها.
قليل من الأرض يكفي
كي نعمر خيمتنا
دليلا على الدرب.
.
في مخيم اليرموك، يحمل كل شارع وحارة ومدرسة اسما فلسطينيا، ويعبق كل مطبخ برائحة فلسطينية. وكان أبي يعلمني الأسماء على مهل، وأمي تلقنني الروائح على أمل، لكن شارع الثلاثين حيّر الطفل الذي كنتُه: لا طوله ثلاثون مترا، ولا عرضه. كان لا بد لي من استعجال أبي، فحدثني أن انتفاضة هبت في الثلاثين من آذار عام 1976 في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48، احتجاجا على مصادرة الصهاينة آلاف الدُنُمات الزراعية في منطقة الجليل من فلاحيها ومالكيها الفلسطينيين، وارتقى في تلك الانتفاضة ستة شهداء. ومنذ ذلك اليوم أصبح الثلاثون من آذار يوما فلسطينيا للأرض، تجديدا للذكرى والعهد.
ولأسباب كثيرة كتبت مرة عن مخيم اليرموك أنه نمط ظاهري ممتد للجسد الأصلي المسمى فلسطين. ولأن المخيم – كان – يقع في سوريا، احتوى الجسد السوري حَشاً فلسطينيا، عضواً أصيلا مُزدرَعا. ومن منطلق الأصالة، خاض الفلسطينيون تجربة جديدة في اللجوء والنزوح. وبحكم المعايشة والمجاورة، جرب السوريون خوض هذه المغامرة الفريدة. وفي إدلب انتهى بي التطواف إلى مسكن ذي إطلالة بديعة. التلال المجاورة والأرض حتى الأفق مكتوبة بشجرات الزيتون، والمكان هادئ، فارغ، أو كذا كان في البدء. ثم ظهرت خيمة، خيمتان، خمس، إلى أن اشتعلت النار في العود، وصار المشهد يغنيني عن أرقام وتقارير الهيئات والمراصد والمنظمات والمفوضيات.
قليل من الحَرف يكفي
كي تسيل قرائحنا
قصائد رعب.
لأنه أجاد بعض الحروف، وأدركته حرفة الأدب، كتب الماغوط “سأخون وطني” وذيّل العنوان بتوضيح: هذيان في الرعب.. ولك أن تتخيل ليون تروتسكي، الثوري البلشفي ومؤسس الجيش الأحمر، يستمع وهو منفي في النروِج إلى إذاعة موسكو تبث محاكمات “الخونة”. لنفترض أنه العام 1935، وأن ستالين يقوم بالجولة الأخيرة من تصفية قيادات الصف الأول في الثورة والحزب ليتفرد تماما ونهائيا بالسلطة. “الخائن” هنا هو كامينيف، رفيق لينين ومناصر ستالين نفسه في معركته مع تروتسكي نفسه. والمحقق هو فيشنسكي، مرتزق متسلق معاد في الأساس للبلاشفة، لكنه حاليا النائب العام.
– فيشنسكي: كيف تقوّم مقالاتِك وتصريحاتك التي كنت تعبر فيها عن ولائك للحزب؟ هل كان ذلك خداعا؟
– كامينيف: لا! بل هو أسوأ من الخداع.
– فيشنسكي: غدرا إذن؟
– كامينيف: أسوأ من ذلك أيضا.
– فيشنسكي: أسوأ من الخداع، وأسوأ من الغدر. جد بنفسك الكلمة المناسبة، إذن هل كان ذلك خيانة؟
– كامينيف: لقد وجدتَ الكلمة المناسبة.
ثم يختم كامينيف اعترافه قائلا فيما قاله: “مرتين جرى العفو عني وأُنقِذت حياتي، لكن لكل شيء حدودا. هنالك حدود لشهامة طبقة الشغيلة ونحن بلغنا هذه الحدود… إننا نجلس جنبا إلى جنبٍ هنا مع عملاء الاستخبارات الأجنبية… هذا هو الطريق الذي سلكناه، وهذه هي هاوية الغدر الحقيرة التي سقطنا في قاعها”.
إسحق دويتشر، كاتب سيرة تروتسكي المرجعية، يعلق قائلا: “تلك المحاكمات لا يمكن أن تكون إلا مقدمة لتدمير جيل كامل من الثوريين. والأسوأ هو الطريقة التي كان يُسحب فيها المتهمون في الوحل مجبرين على الزحف نحو موتهم، وسط إدانات مقرفة وتشهيرات بالذات… كان ستالين يقذف بخصومه إلى أعماق الإذلال الذاتي التي لا قعر لها، كما لو كانوا نساء في القرون الوسطى يروين مضطرات أمام محاكم التفتيش كل أعمال السحر المنسوبة إليهن، وكل تفاصيل تهتكهن المزعوم مع الشيطان”.
هل من رعب يفوق ما سبق؟ يكفيك إن كنت مستعجلا أن تقرأ صيدنايا.
قليل من الخبز يكفي
لنهتف للكلب:
شكرا من القلب!
لست أذكر السياق الذي كتب فيه فرِدرِش إنجلس: “إن الكلب يرى في سيده إلهَه، مع أن سيده قد يكون أكبر الأنذال”. لكنه لا يحدثنا عن الحالة التي يكون الكلب فيها سيّدا، كيف يراه عبيده؟ أسداً ربما.
وكان سيدنا الكلب كل شيء. كان القائد المناضل، والرفيق الأعلى، والماريشال الأوحد، والمعلّم الأول، والفيلسوف الأفضل، والطبيب النِطاسي. كان العرّاف الذي أبصر النصر، والمعماري الذي أنجز التجانس، والطفل المعجزة الذي منحنا الأمل بالعمل، والفرّان العفوّ الذي وهبنا خبزا لا نستحقه. وعلى سيرة الخبز، يذكر بعض الحاقدين أن نجمة خوجة، السيدة الأولى زوجة ديكتاتور ألبانيا أنور خوجة، حين سألها فاضل بكرامي عن السر الذي حوله من رفيق إلى عدو، أجابته بكل فضل وكرم: “أغلق فمك! واستمتع بقطعة الخبز التي نمنحك إياها!”.
ولم نستمتع بكسر الخبز اليابس المغشوش فحسب، فكثير من مواطني سوريا المفيدة باتوا ينعمون الآن بساعة من الكهرباء كل يوم، وسيارة أجرة كل ثلاث ساعات، وارتفاع في الأسعار كل أسبوع، وجرة غاز كل بضعة أشهر، ومسلسلات أفيونية كل رمضان، ورئيس جديد قديم كل بضعة عقود.
قليل من الحلم يكفي
كي نساق إلى المشنقة
من غير ذنب.
شاع في فرنسا ذات يوم أن المعجزات مصوَّرة على ضريح رجل فرنسي في مقبرة ما. لكن الملك لويس الرابع عشر أصدر قرارا بإغلاق المقبرة وإلغاء المعجزات جميعها، فنقش أحد الساخرين على بوابة المقبرة ما تعريبه: “بأمر من جلالة الملك، يُمنع الرب من مزاولة أي معجزات في هذا المكان بعد اليوم”.
في سوريا الأسد مُنعت الأحلام، حُرّمت. لكن قوانين الطبيعة لا تسقط بالتجاهل.
حلم السوريون بالكرامة، وهي شيء عندهم لا علاقة تجمعه بخوارق العادات عند الأولياء والمتصوفة.
حلموا بغدٍ يقبل بهم ضيفا، غدٍ يزوّجهم بناته، غدٍ لا ينسى أنهم عاشقون له وأنهم لا يرضون بحب من طرف واحد.
حلموا بالحرية جملةً شعرية تستحق أن تعاش، لا أن تتلى فحسب، أو تُردَّد في شعارات الحزب الفارغة.
حلموا بالحياة وفي وجدانهم قول محمود دويش: “ونحن لم نحلم بأكثر من حياة كالحياة” غافلين عن قول الأول:
وإن قلتُ: ما أذنبتُ؟ قالت مجيبة: ….. حياتك ذنب لا يقاس به ذنب!
أحلام حاولوا تدوينها فور هبوطها عليهم لئلا تتبخر تفاصيلها، أشباح أحلام حاولوا إنقاذها قبل أن تلحق بالهولندي الطائر، وكان ذلك مما لا يغتفر.
قليل من الشعر يكفي
كي يكون الوطن
جريمة حرب.