هذيان في الملجأ
حارتان من تلافيف الدماغ تتسابقان أي منهما تحرز تقدما على الأخرى في سد حفرها بطريقة أقرب لما يفعله ملف “Crack” على حاسوب تافه، أو لمحاولات أنثى تمزق ظلّ ثوبها ترقيعه من إسفلت التصق أسفل نعال عشيقها المفقود، يعبّدهما بطينان ساذجان في قلب يلهث عطشا لماء الحياة الخفاق وعمقها العقيم بـدم راكد حاصرته جدران أربع حجرات ساذجة.
تتمرد قطرات الدم على الحجرات وتسيل على نافذة الغرفة باتجاه الشبك الخارجي، وصراخ الجرذان يُـسمع بوضوح وكأنّ قيامتهم حلت فجأةً.
إنها على ما يبدو لحظة إيقاظ أفراد المهجع كـرها نحو تحية الصباح التي ستصير بصقا على الأصنام واللوحات المعلقة لاحقا…
جرذٌ بحجم حمار!.. وقطٌّ يهرب من الجرذ الهارب!… يفاتش الأول الثاني عن ملبسه الداخلي وأصله وفصله فيجيبه زورا.
الجرذان تتقاطر وتنصب كمينا لشاب ضخم!.. تتظاهر في الشارع مطالبة بالحرية والكرامة، ويحاول الشاب قمعها.
هو غبي بما يكفي ليفشل في قمعها وهي ذكية بما يكفي لشرب الماء والتحايل عليه بالهرب من دون التنازل عن مطلب واحد.
أصغرها يباغت ساقيه بعملية انغماسية تحت المركبة، لم ينفجر شيء على الإطلاق، كل ما فعله اشتمام رائحة “مرتديلا” الدجاج منبعثة من براد يبعد مترا واحدا عن نقطة التظاهر خلف الحاجز، وعشرين مترا التفافيا.. إنه الذكـاء الجرذاني بأبهى حلله.
فاصل صُوَري تحت عجلة السيارة التي استخدمت في العملية الانغماسية.. “صرصار يتغذى على أعقاب السجائر!”.. انتهى الفاصل.
كلبٌ ينبح في وجه الشاب ويفزعَ له أربعة كلاب من الفصيلة “السلاقية” عينها، لتخجل المجموعة لدى وصولها قبالة الشاب وكأنه أحد أفرادها!.. دموع الكـلاب تنزل!.
يعبّر الغبي عن خوفه، ثم يتمالك أعصابه.. يصمد.. يتهيأ لشيء واضعا يده على حبل حقيبته المهترأة.. كل ذلك في ثانية واحدة!.. “مياااو”.. مواء الكـلاب ووداعتها على هيئة دموع القطط!
يستغرب ابن الشارع ويلتفت للسماء بسذاجة مع اشتداد وتيرة القصف!؛ فحادثة الأرض تترجمها الطائرات.. يعود محدّقـا في عيني كـلب وديـع باستغراب؛ فيطمئن قلبه وكـأنهـما صديقان حميمان!
ﻻ قصف هنا بل هناك.. وﻻ كلاب كتلك التي تعتـرض طريق المـحاصرين عند الحاجز وتسيء لهم أثناء رحلة الموت بحثا عن فتات طعام.. لا كلاب على هيئة عسكر فالكلاب الكلاب بشرية أكثر!
ينتهي الزهايمر ويبدأ متى يشاء، وزميله الانفصام يختار بين مقت الحاضر ومزاح المزاجيين لحظات للظهور والاختفاء، لتحلّ عليهما لعنة الصفات والكنيات المتعددة؛ “((أنت)).. سيد زهايمر.. و((أنت الآخـر)) سيد مفصوم”.. إذن، تشرفا ببعضهما البعض وقرّرا الصداقة بعد حوار عقيم.
ببساطة..
الأنا الذي في ((أنت)) يقول كل شيء ولا يبخل بباقة من أطغاث أحلام ماطرة في زمن الجفاف؛
“سأعود بسيطا ﻻ يؤثر الحديث الزائد ويفضل عدم التفكير اللولبي كما يفترض أن يحصل للتماشي مع متغيرات الواقع، فالسذاجة أجمل للقلب.. سأعمل مابوسعي للعودة إلى حيث كان الحال قبل القدرة على دراسة الأبعاد وتحليل الأمور.
وسأضطر لمسح الحاضر واستبداله بذاكرة ماقبل مئتين وأربعين ألف ساعة، وساعة، حفاظا على دقة المواعيد التي تفوتني لتقييمي الخاطئ على أنها غير مهمة. عندها لن أمارس هواية المطالعة ولن أبقى مرتبطا بما أكتب، وستبقى حصيلة الضحايا محصورة بمن تركتهم في مخيلتي دون سواهم.. سأعود بطيئا في فهم الأحداث..
وسأسعى جاهدا إلى الصمت عن كل خطأ بما فيه أخطائي الشخصية لخدمة البساطة والتبسيط بإخلاص.
قد أغضب مثل الفلاحين ﻷنه من الجيد فرض الرجولة في الشجارات مع الصبية تحت ظل شجرة في الشمال الدافئ صيفا وشتاء، ليذكرني الجنوب الفقير بحاجاتي ورغباتي مع قليل من التستيسترون.
سأشرب الماء من صنبور وهمي لو كان موجودا لسبحت تحته، وسأكتب الكلمات عند الضرورة على دفتر البقالة لبسطة البضاعة الشعبية التي سأعرضها تحت المنزل.
سأتناول طعامي بهدوء في حال اضطررت لذلك إذا فشل مخطط الموت السابق. لكني سآكل بنهمٍ إذا وضعت والدتي الطعام أمامي، وسأجبر الأرض على استقبال فتات الطعام المتساقط، كما سأصدر صوتا غير ﻻئق أثناء المضغ حتى أقنع الجميع أنني بسيط جدا في فهم معاني التغذية والسعرات الحرارية مقرونة بأدب الطعام والبرستيج العام.
وسأشرب الشاي “أكرك عجم” ثقيلا جدا مع بعض السكر كما أفضّل عادة، وسأنام “طبـّا” على بطني بعد ذلك فورا وأشخر وألعن من ييقطني من الحلم إلى الكابوس.
سأمارس النوم عندما أكون متعبا أيضا مع إصدار ما أظنه صوتا خفيفا من الشخير، لأكتشف في اليوم التالي أنّ صوتي أزعج بعفوية مطلقة جميع الأهل والجيران.
لن ألبس ما يلبسه أبناء جيلي ولن أضع ما يضعونه فوق خلاياهم السوداء والشقراء والصفراء. سيكون ثوبي فضفاضا وغير ﻻفت، ولن أمارس مايكسب الشخصية أو الشكل الخارجي جاذبية تذكر.
لن أتكلم إﻻ رؤوس أقلام مع من أحب مصارحا أن الوسادة عشيقتي الأولى، وسأعتمد الطاعة من دون حوارات مع ذوي القربى خشية أن يقال عني: “يجادل أهله فيما يجب أن يفعل بأمرهم”.
سأعود إلى تفضيل الساذجين أمثالي، فلا مكان مع بساطتي لكل من هو معقد وكثير التفكير والنشاط. وسأسرق لحظات الراحة أثناء بساطتي، مكتفيا كل يوم بحصاد ثمرة أو زرع شجرة داخل رأسي.. وسأجلس مع أمي، أبي وأخوتي ونتحدث عن بائع التمر هندي وعن أمور شعبية أخرى..
سأسعى للسبات صيفا والاستيقاظ شتاءً؛ فلا قاسما مشتركا بين زمانين ومكانين مختلفين غير صوت المطر ولسعة برد تنشط موجز الأخبار صباحا، علّ سخرية القدر تضع مضاعفات مشتركة بيني وبيني!.
سأحاول ملاحقة قذيفة مورتر لأرتمي تحتها وأتشظى، أو سأضطر لوضع رأسي معترضا طريق رصاصة روجر في أماكن أخرى. وسأطلب بعد ذلك موتا هادئا بسيطا يشبه موت الآخرين في شكله، لكن أقل أهمية من موتهم كي أشعر ببساطة الموقف أمام الله..
أنـا ذاك الشاب عاد مع الجرذ والقط والكلب والصرصار أبسط مما كانوا عليه بكثير، أو على الأغلب هم هناك منذ حين ولم يغادروا.
أشرف السهلي