حظ المساكين
المشهد الأول
الغرفة مساحتها لا تتجاوز الأربعة عشر مترا مربعا
المدفأة المخصصة للحطب تعمل بكفاءة عالية، ولكن ! .. على البسطار العسكري وبقايا الخزنات المعطوبة بفعل شظايا الهاون، الإضاءة لا تكفي لتمييز وجوه الحاضرين العابسة أصلاً من سوداوية المشهد ، رائحة دخان الأعشاب المستخدمة بديلاً عن التبغ تعج بالمكان، الهدوء المخيم على المشهد لا يتناسب مع عدد الحضور.
بشار يستلقي في صدر الغرفة شبة نائم أو غائب عن الوعي من فرط التعب والجوع، علي يتأمل سقف الغرفة ويفكر في شيء ما، أبو المجد ينظر الى الجميع ويبتسم ابتسامة لا تخفي قلقه العميق من القادم، ياسر يرسم على وجهه تكشيرة تكفي لإخافة جيش من الروم.
و أنا أتأمل وجوه الحاضرين و أبحث عن حل وأقول في سري:
“مو معقول بالحارة كلّها ما نلاقي شي ناكلوا”
يسبقني علي -الذي استشهد في مابعد برصاصة غادرة- بالفكرة ويقول:
“خيا عبدلله قوم ندور بالحارة على أكل “
لا أتردد، أنتصب مباشرة واقفاً معلناً جهوزيتي التامة ، أبو المجد يتطوع للقدوم معنا،
ننزل إلى الحارة
المشهد الثاني
المطر يهطل ، ” يزيد الطين بلة ” ، و يرافقه هواء ينذر بشؤم
أفكر..!
تماماً في هذه اللحظة، وفي مكان آخر من هذا الكوكب، هناك أناس يستمتعون بهذا الطقس الرومانسي الجميل!
كان البيت الأول شقة لصديق ياسر الذي خرج من المخيم منذ فترة والمفتاح كان معنا، دخلنا إلى المنزل، الظلام الدامس يلف المكان، ونحن نضيء المكان ببيل في يد علي وهيئتنا توحي بأننا لصوص، لا شي آخر
عمليات البحث تبدأ بالمطبخ وتنتهي بالحمام والنتيجة ” لا شيء”
نعم، يصاب الإنسان بخيبات أمل كبيرة في حياته، ولكن هناك خيبات لها طعم مختلف
الشعور الطفولي برغبتنا بالبكاء حين لا نحصل على ما نريد يهيمن علينا، لم نجد شيئاً بالبيت، لقد كانت المرة الألف التي ندخل إليه، لم تكن المرة الأولى
نخرج مباشرة وننتقل إلى منزل آخر يعود لموظفةٍ في وكالة الغوث لم ندخله من قبل، واحتمالية وجود طعام كبيرة جداً، خاصةً أنّها تعمل في قسم الاغاثة.
أذرع المكان ذهاباً و إياباً؛ المطبخ، غرفة الجلوس، وغرفة النوم، لا دليل على وجود شيء صالح للاستخدام البشري أو حتى الحيواني ،لا فرق! وعبثاً أقول:
“خيا علي ارفعني أدوّر بالسقيفة وهات البيل”
يقول علي” خيا عبدلله المكتوب مبين من عنوانو، لو في شي كان لاقيناه بالمطبخ “
لاأفقد الأمل وأصر على الصعود إلى السقيفة و أبحث في كل سنتيمتر هناك.
ثمة شعور داخلي يؤكد لي أن هناك شيء ما يستحق البحث
تقع عيني على خابية من البلاستيك، تلك التي نستخدمها في تخزين الزيتون بكميات كبيرة
اْقترب منها بحذر و أهزها … وزنها ثقيل، أفتح الغطاء، وأضع يدي داخل الخابية وأتحسس ما بداخلها
اختلطت أحاسيسي في تلك اللحظة، هل هذا حلم أم حقيقة ؟
وبصوت مرتفع جداً:
” طحين خياااااا علي طحيين خير الله طحين “
لأ أعرف ما هي الطريقة التي استخدمها علي حتى أصبح قربي بالسقيفة ! أخذ يتحسس الحفنة التي بيدي
” يسعد لله طحين ياعالم طحين ياناس”
تبدأ عملية كوماندوز لإخلاء خابية الطحين، وإيصالها إلى بيت ياسر، أبو المجد يراقب الحارة، أنا أحضن الخابية بين يدي كما تحضن الام طفلها، و علي يضيء الطريق إلى المنزل
الريح تهدأ تماماً والمطر يتوقف، القمر يطل علينا من فوق أعلى بناية على سوكة شارع المدارس
بشار يحاول جاهداً الوقوف على قدميه، وياسر تنفرج أساريره بشكل مفاجئ.
أقول:
” للطحين قوة وسحر تضاهي الكوكائين للمدمنين فقط ! فهو قادر على تغيير كل شيء، كل شيء حتى القمر”
صوبية الحطب تحمرّ من فرط الحرارة والإضاءة تزداد في المنزل لسبب غير منطقي
المنزل يتحول إلى خلية نحل استعداداً للوليمة الكبيرة
المشهد الأخير
المشمع على أرض الغرفة، الشوبك، المياه، خابية الطحين وكل الأدوات المطلوبة للعجن ومن ثم الخبز جاهزة، الجميع يحيط بي بمشهد يشبه المشهد في فيلم الراقص مع الذئاب، حين يلتف الهنود الحمر حول طريدتهم ويرقصون بفرح وسرور
نعم كنا في ذاك اليوم هنود ذاك العصر!
بدأت عجن الطحين، أجد صعوبة غير مسبوقة بخلط المزيج!
كان المزيج يتصلب في يدي
انتابني الشك بصلاحية الطحين، بنقاء الماء، بنظافة الوعاء المخصص للعجن، انتابني الشك بكل شيء، إلا شيء واحد؛
أن تكون تلك المادة البيضاء …”جبصين”
الصوبية تخمد نارها وتحتاج لمن يدفئها، الإضاءة تتلاشى بشكل نهائي
المطر يُغرق الأرض، والأبواب تتلاطم بفعل الريح، بكاء بشار المكبوت يضيف كآبة أخرى لهذا المشهد،
ياسر يختفي في اللاشيء، علي وأبو المجد يتمتمون بلغة غير مفهومة، و أنا أقول:
“”حظنا خرى ولله اذا منحط ايدنا بسلة ….بطلعنا….
تبرق الدنيا وتعلن صفحات المخيم عن سقوط شهيد اخر بفعل الجوع
أتحسس جسدي …..
أنا ما زلت حياً