ذاكرة شخصيه بورتريه

إلـى الطبيب الأول

كنت شقيا بما يكفي لأن أكون طفلا وناشطا وطنيا وضحية في آن معا.

ﻻحت في ذاك التشرين بوادر ربيع سيزهر بأيد نقية رغم كل ما حل بي من وحدة وإحباط خريفيين.

كنا في أول مظاهرة مدرسية في مخيم اليرموك دعما ﻻنتفاضة الأقصى، بعد يومين على استشهاد الطفل محمد الدرة في حضن والده.

يبدو أنني تعاطفت أكثر من اللازم مع أبناء جلدتي فخسرت صور “البوكيمون” التي احتفظت بها في جيب مريولتي وحزنت عليها. ليس ذلك فحسب بل إن جزءا من جسدي اشتعل بالنار حرقة وغضبا.

وﻻ أدري لمَ تذكرت وقتذاك مشهد احتراق السجينات في مسلسل كاسندرا، وإذ بي أنا الذي هناك هنا وثلة من المنتفضين تطفئ حريقا أصابني به العلم الإسرائيلي الملقى أرضا من سطح أحد المباني.

لكن نيران قلبي لم تنطفئ رغم كل المحاولات، وحتى دموع الأحبة والتفاف الأهل والأقارب من حولي أخفقا.

في بيت متواضع داخل السياج الفقير جنوب المخيم، والجنوب مشهور بذلك، كان يمكث شخص وحيد سيثلج لهيبي لاحقا. فمضيت إليه لمّا اعتدنا أن أقلهم حيلة أكثرهم صدقا.

كان نحيل الجسد بسيط الملامح والشيب يتغلغل في لحيته وتحويطة الشعر الصامدة حول جلدة رأسه السمراء كما لو أنه عارك الأيام كلّها قبل لقائي به.

وأنا الآخر حاولت أن أشبهه إنما بشعر أشعث متفحم وأذن أكبر من صحن “الستالايت” نالت نصيبها من البنزين، ظنا أنها، أي “الهمشرية”، الحالة العامة للوطنيين.

قبل موعد تبديل الشاش ودهن المراهم كنت أردد بعض أناشيد المجموعة “طالعلك ياعدوي طالع”..”ياجماهير الأرض المحتلة” حفّظتني إياها أجواء بيئتي عن ظهر قلب منذ نعومة أظفاري.

ولم أتأكد أني مجرد ببغاء يكررها بلا تدقيق في المعاني، إلا بعد أن جاء ذاك الطبيب المخلّص، ليصحح المسار ويرشدني إلى ما غاب عن بالي.

وازداد اهتمامه بي حين علم أن إصابتي وطنية، فاعتبرني أصغر ثائر في العالم ونصّب نفسه ملهمي الكادح.

مضت أيام لمواظبته على علاجي بوصفة مرهم “ميبو” وخلطة خارقة أعدها بعناية، إذ إنه كان يبتكر الوصفات بعبقرية، ولم يتأخر يوما عن تعقيم مواضع انسلاخ الجلد المنقوشة بعض آثارها على ساعدي الأيسر.

لطالما تخيلته أحد علماء القرون الوسطى، وعندما كبرت قليلا قارنته بعدد منهم شكلا ومضمونا.

في غرفة بيته الصغير تشعر أن المختبرات العلمية لا تعترف بالمساحات الجغرافية وأن العطاء لا يرتبط بالقدرة المادية فحسب، بل إن تدخله منع أن تصير إصابتي تشوها أبديا.

ولهجته المطعمة بقاف مفخمة، والتي ورثها عن جيل الآباء اللاجئين من قرية لوبية قضاء طبرية حفظت للأغاني الثورية رونقها.

غنى لي حين تعافيت، ورقص مرات عديدة وسيجارته بين السبّابة والوسطى، بل إنه صفق مبتهجا كما لو أني رفيقه الجندي في المعركة أو كأنه نجح في امتحان الدكتوراه مجددا.

وظل مؤمنا بي بعد اعتناقي طيبة قلبه الفلسطينية، فحاولت ألا أخيب ظنه.

لكن ظروف الحياة فرقتنا فيما بعد، غير أنه استمر في ذاكرتي شعاع أمل ومضادا حيويا لأي إحباط يعترض طريقي.

وإلى أن دارت الأيام وصار لبنان ملجأي الثاني وملجؤه ونال اليأس والنكوس محلّ الإعراب للجميع، وأعترف أني قصرت بواجب زيارته والسؤال عنه.

وعندها بالذات رحل ملهمي “أحمد مصطفى رشدان”…

غادر الحياة من ملجئه القسري في مخيم برج الشمالي في صور جنوب لبنان، بعد حياة صعبة عاشها حالما بفلسطينه مشتاقا إليها.

ذاك الرجل العصامي وضع جلّ خبرته الطبية بين يدي أبناء شعبه، وكرس نفسه  لخدمة المرضى بإنسانية تفوق أي اعتبار آخر و ﻻ تعرف مكانا للمادية وقشور الحياة.

إنـه الأحقّ بلقب الطبيب الأول بلا منازع، فهو الحريص على أهله من أي مكروه وباعث حب الحياة فيهم، على عكس آخرين بلا مؤهلات آدمية وينشرون الموت في كل أرض ويسرقون اللقب.

صعدت روح الأحمد إلى السماء طفولية فرحة ونام الجسد في الثرى وحيدا خفيف الظل ولمّـا يؤرق أحدا، أما أثر الفراشة فظـلّ فينا لا يزول…

إلـى اللقاء معلمي البسيط الطيب أحمد رشدان.

 

أِشرف السهلي

طالب ماستر تخصص (تمويل) وخريج كلية الاقتصاد - قسم التأمين والمصارف في جامعة دمشق صحافي مهتم بقضايا المخيمات الفلسطينية في سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

14 − 8 =

زر الذهاب إلى الأعلى