ستي فاطمة
سيدتي الماكـثة في حصار فلسطينها الصغرى؛ أعلم أنك غير مضطرة لفهم شيء مما سأقول فأنت أبسط من ذلك بكثير.
ﻻ عليكِ سأبدأ حيث انتهت حكايتي مع آخر جلسة في صالون بيت العائلة المشبع بذكريات القهوة والسجائر..
أنا ﻻ أدخن وأكره المدخنين والمدخنات إلاك، وشعيرات أنفي الفريدة من نوعها قادرة على إرسال رائحة سيجارك
إلى جرود عقلي المتصحر سوى من الأشواق.
وعقدة الاضطهاد التي سلّمتكِ علبة التبغ يا جدتي توقفت عند باب قلبي تعرض عليه زواجا من نوع جديد.
إنها من نوادر المرات أن تطلب من تظن أنها أنثى، إلى رجل اعتناق ذكورية ولدت من رحمها العاطفي الجيّـاش!،
لكني اعتنقت ديانة الحياد يا جدتي لأؤمن مؤخرا أن العقدة تلك “نسويّة” صرفة ﻻ أنثى؛ فالقسوة الوطنية تتلف لذّة ما تعششت روائح طهيه الطيبة في فرش نومنا وقمصان نومك.
وموائدنا العامرة بات معلوما أنه يصعب تمددها على سجادك الأصيل مجددا، ومعلوم أكثر أن الحياة صارت أصعب من لجن المفتول وصواني الحلاوة. ولا رغبة لديّ في سرد الأسباب، فـلتوّي، أي في مطلع السبع سنوات العجاف
الأخيرة شرقت دمعتي واضطررت لمغادرة زماني ومكاني.
وظلّت نكهة كرات اللبنة المغمّسة بزيت الزيتون تدغدغ بلعومي قادمة من قشرة مخّـي على طول خط الهروب من
الواقع.
لكن لا عليك عزيزتي فـأنا لا أزال مستعدا للحظـي بإحدى الطناجر المليئة بما طهيت في رمضاناتنا الحيّـة عندما
وزعتها بحصص عادلة على بناتك، وبـخمسمئة ليرة سورية تخرج من جزدانك اليدويّ جائزة كوني حفيدا شابا في
أول أيـام العيد.
ومن دواعي سروري كان أن تبذلي مزيدا من الخوف حين أخرج من بيتكِ ليلا عبـر شوارع المخيم كي أشعر
بـأهمـيتي.
وﻻ يهم أن يتلف شيء من شريط الذاكرة يا جدتي؛ فالاحتفاظ بالبقايا هديّة الرب للماكثين بين جدران حلمنا الضائع وأملنا النائم.
جدتي اصنعي لنا كعكا في العيد وقبله وبعده وبﻻ مناسبات فأنا سأبادر لأكله رغم أني ﻻ أطلب الكعك عادة… أريد عجينته تشبه تجاعيد كفيك وجبينك ومحروقا سطحها بعض الشيء تيمنا باحمرار وجنتيك بعد العمل المنزلي الشاق.
وأطالبك يا جدة أﻻ تبدئي شجارا مع جدي حول قصة مريم العذراء ابنة صفورية والله معا من وجهة نظر المنام الذي
زاره خﻻل نوم قصير في ليالي الحصار الأخيرة، أو لمخالفته آراءك؛ فهو الآن نائم في بيت ليس ببعيد عن بيتكما بجوار أخوتي الشهداء سارة وعﻻء وجهاد وخليل الوزير وفتحي الشقاقي وثلة من أبناء فلسطين وسوريا الطيبين…
اصفحي عنه فاطمتي.
وﻻ يفوتك وإن خانتك الذاكرة في عسرة اليرموك وأهله كم ناداك “يا فاطم” في أيام العز والكرم، وكم كان يحب بياض أسنانك وبريق شعرك في شبابكما الذي ما انتهى يوما بل جددته مشاكلما الطفولية أمام مشاهد الشبان القادمة
من رام الله والقدس إبان انتفاضة الأقصى يلهبها جمر مدفئتكما.
أنتِ الأمّ الوحـيدة الآن، فالأمّ في مخـيّلتي تمارس شتى طقوس الحيـاة والمـوت، وتحترف خَـبْزَ الطفولة من طابون
الحجر، وعَـجْنَ الرجولة مع الصخر.
والأم تتقن قـول الحـقيـقة بلا زخرفات، وإعـطاء كـلّ أشكـال العـطاء بلا مقدّمات، وتفصح عن ثقافتها وقلة درايتها معا في مختلف المناسبات.
وتجـاعيد الوجه والكفّين أمّ تشتقّ الأرض التضاريس منها، ولفظات اللسان كتب مقدسة تقام بها ترانيم الباباوية
وصلوات الشيوخ.
والنـبضات الصـامدات لأيـدٍ أعدّت غـذائيّ الـصّوم والصّـيام، أمٌ يخجل الأبناء تأدية سلام كسول عليها…
لن أقـارب كـلّ ما فيك بـالتـحايا المنمّقة من خارج الأسـوار المقدّسـة يا جدتي، فأنت الشاهدة على الهاربين من
العبودية والصابرة على مسرحية العائدين إلى حضن الوطن…
أحـبّك على أي حال أيتها الجدة الشجرة.
(الصورة لجدتي بعد استشهاد قريبتي سارة عودة في مخيم اليرموك 19 / 3 / 2015م)